أرسل لي صديق فيلماً قصيراً يونانياً يحمل عنوان Reclaim، للمخرجة ڤيزيا نتوليا، مع غياب الترجمة. لفتت انتباهه أغنية، أما أنا فلفتت انتباهي ثقافة الشرفات (البلكونات) فيه، والتي تم اختزالها في دقائق معدودة، بحيث لا تغيب "البلكونة" (أو الڤرندة)، عن أي مشهد أكثر من بضع ثوانٍ، لتعود وتتصدر الفيلم الذي يضج بالنساء، مع غياب واضح للرجال، ومع الأغنية التي تبيّن أن أحداث الفيلم قائمة عليه، وتحمل عنوانTa nea tis Alexandra’s، لكوستاس جينيدز، وتدعم من خلالها النساء المهمشات، أو اللواتي لم يأخذن حقهن، خاصةً مع وجود فتاة صغيرة تظهر كل فترة ليتبين أنها مغتصَبة من عمها. في الفيلم، تُروى قصص عديدة مرةً واحدةً، ضمن أغنية تتمايل عليها النسوة عبر شرفات المنازل، وتغنيها مجموعة منهن افترشت الشارع صالوناً.
بعد انتهاء الفيلم، وتحديداً مع غياب الترجمة التي وضعت حاجزاً بيني وبين الدخول إلى تفاصيل الحكاية، سألت نفسي سؤالاً: أين البلكونة الآن من السينما العربية؟ وأين ذهب دورها في ما كانت تحكيه من قصص؟ ولماذا تغيّر شكل الحكايات فيها، وباتت أقرب إلى مكان للصراخ بين الجارات (الردح)، والمشاجرات بين آباء يخرجون فجأةً منها ليصرخوا على أطفال يلعبون في الشوارع؟ ما الذي نقل ثقافة البلكون التي شاهدناها في أفلام الأبيض والأسود، والتي كانت عادةً تبشّر بعلاقة حب قادمة، وأغنية، إلى مكان لنشر الغسيل (بالمعنى الحرفي)، ونشر الغضب؟
أين ذهب دور الشرفة في ما كانت تحكيه من قصص؟ ولماذا تغيّر شكل الحكايات فيها، وباتت أقرب إلى مكان للصراخ بين الجارات (الردح)، والمشاجرات بين آباء يخرجون فجأةً منها ليصرخوا على أطفال يلعبون في الشوارع؟
ما يجمع بين السلوكين، هو شكل البلكون الذي عادةً ما يكون مفتوحاً، شارعاً نفسه للهواء، وهذا التفصيل هو الذي يتمكن من الشخص وسلوكه، بحيث تكون تارةً لجلوس هادئ مع ادّعاء قراءة كتاب بحضرة نظرة خاطفة على حبيب يعيش في الجهة المقابلة، أو يمشي في شارع محاذٍ لتلك البلكونة، وتارةً أخرى تراها باتت وكأنها عبئاً على أصحاب المنزل، وتم تحويلها إلى غرفة إضافية يوضع فيها ما لا يلزم، والخروج إليها يكون بإذن، أو لنشر غسيل تتأكد فيه المرأة من أن الملابس الداخلية غير ظاهرة للعيان.
لم تتغير البلكونة، لكن ربما تغيّر الناس، وطريقة تجسيدها هي التي تحولت، بل اقتربت من ترسيخ معنى أو دور جديد لها، وهنا من الطبيعي في حديثنا عن شكلها الجديد، أن تكون السينما المصرية هي الحاضرة، بما أنها الأكثر إنتاجاً وانتشاراً، لكن هذا لا يعني أن التغيير لم يكن أيضاً مع أفلام من بلاد عربية أخرى سيتم الإشارة إليها لاحقاً كأمثلة.
أصبحت السطوح تحتوي على منازل شعبية، مما نشر ثقافة العيب التي فرضتها العائلات على بناتها تحديداً بضرورة عدم الخروج إلى البلكون، لأن ثمة شباباً يعيشون فوق السطوح.
ما بين "فيلم ورد الغرام"، 1951، للمخرج هنري بركات، والذي غنّت فيه ليلى مراد ومحمد فوزي أغنية "شحات الغرام"، وهي تطل من البلكون وهو يبعد عندها مسافةً في حديقة المنزل، مروراً بفيلم "زوجة رجل مهم"، 1988، للمخرج محمد خان، ومشهد بطلة الفيلم ميرفت أمين وهي تهرع إلى البلكون، بعد سماع نبأ وفاة عبد الحليم حافظ، وتشغل أغنية "أنا لك على طول"، و تخاطب نفسها "كدب كدب"، وهي التي تعيش طوال الوقت تعنيفاً نفسياً يومياً، من زوجها أحمد زكي، فيما كانت البلكونة هي الملاذ، وليس انتهاءً بفيلم "دكان شحاتة"، 2009، للمخرج خالد يوسف، من بطولة هيفاء وهبي. لكن، في هذا الفيلم تحديداً، تظهر ثقافة أخرى إلى جانب البلكون وما جسّده في الماضي، ولربما هي من وراء تغيير مفهومها في السينما، بحيث أصبحت السطوح تحتوي على منازل شعبية، مما نشر ثقافة العيب التي فرضتها العائلات على بناتها تحديداً بضرورة عدم الخروج إلى البلكون، لأن ثمة شباباً يعيشون فوق السطوح، وهذه السطوح تمت بالفعل محاكاتها بشكل أدق ضمن هذا المعنى، في الفيلم الجزائري "السطوح"، 2015، للمخرج مرزاق علواش، الذي تناول من خلاله خمس قصص عن حيوات أشخاص مهمشين يعيشون فوق السطوح. والمفارقة أن السطح من المفترض أن يكون أقرب للنظر إلى السماء، لكن في الواقع هو حال من يعيش تحت خط الفقر.
في المقابل، وفي السينما الأوروبية، ما زالت تحضر البلكونة، كمكان هادئ لخياطة كنزة صوفية، أو لتبادل أحاديث سريعة بين جارات الحيّ، وأحياناً للمشاجرات، ولشرب المتّة، ولصمت يجمع بين زوجين، لكنها شبه غائبة في السينما الأمريكية التي تظهر البيوت المستقلة فيها أكثر من العمارات، والعمارات إن ظهرت تكون على شكل ناطحات سحاب، تغيب البلكونة فيها أساساً.
ومع جائحة كورونا، عادت البلكونة إلى الواجهة، بحيث كانت المنفس الوحيد في حضرة الحظر، فمنها خرجت أجمل الأغاني والألحان، واتفاق غير مدروس لتصفيق حار يجمع سكان الأحياء باختلاف الطبقات الاجتماعية لتحية الكوادر الطبية، وهذا الحال تم تجسيده بدقة في فيلم فرنسي من إنتاج العام 2021، يحمل عنوان Stuck together، للمخرج داني بو، كان للبلكونة فيه حضورها الكبير، مما يبشر ربما بعودة دور البلكونة إلى ما كانت عليه يوماً، وما شاهدناه عبر أشرطة سينمائية في الماضي.
ولكن مع كل ما ذُكر، ثمة مخرجون يدركون معنى البلكونة، ويحاولون إعادة دورها الحميمي، ويبدو أن هذا ظهر في فيلم "فوتوكوبي"، للمخرج تامر عشري، بطولة شيرين رضا ومحمود حميدة، بحيث كانت البلكونة جزءاً من المقصود إيصاله من الفيلم، والذي تمحور حول التغييرات التي تحدث في شكل المدن، وفي شكل البشر أيضاً، في العلاقات التي تربطهم. تلك التغييرات التي من الممكن أن تدهس كل شيء جميل يمر من أمامها، لولا فسحة من حب وأمل تربط بين كهلين وأغانٍ من الزمن الجميل.
لم تتغير البلكونة، لكن ربما تغيّر الناس، وطريقة تجسيدها هي التي تحولت، بل اقتربت من ترسيخ معنى أو دور جديد لها، وهنا من الطبيعي في حديثنا عن شكلها الجديد، أن تكون السينما المصرية هي الحاضرة، لكن هذا لا يعني أن التغيير لم يكن أيضاً مع أفلام من بلاد عربية أخرى
لذلك، الختام هنا سيكون مع حوارية كوميدية بين فوزية وسبعاوي في البلكونة، من فيلم "عائلة زيزي"، 1963، للمخرج فطين عبد الوهاب، بطولة سعاد حسني وأحمد رمزي وفؤاد المهندس.
"-الفراندة
مالهـا الفراندة؟
على شكل متوازي مستطيلات، فيه فرندات على شكل مثلثات، فيه فرندات على شكل مربعات، فيه مخمسات، فيه مسدسات، وفيه مدورات، وزي ما إنتِ شايفة الأعمدة هنا مكونة من أسمنت مسلح، إنما أنا مفهمش كتير في الأسمنت المسلح ده، إنما أي حاجة عن الماكينات أنا أعرفها طبعاً، فوزية عمركيش شفتي ماكنة ديزيل؟
قصدي عمركيش شفتي القمر؟ القمر وهو طالع كده ورا الغيم، يا سلام على الغيم لما يملى الدنيا... قبل الدنيا ما تمطر... فوزية، تعرفي إنهم اخترعوا مكن يعمل مطر صناعي! مطر صناعي يا فوزية!
أنا لما شفتك حبيتك، لهاليب الغرام قادت في جتتي.
إيه الكلام ده؟
أنا متأسف مليش سوابق في مواضيع الغرام دي.
أنا سعيدة إني أعرف كده...
الحاجة الوحيدة اللي أفهم فيها هي الماكينات وبس... يعني عيب فيا إني مدورتش معرفتش بنات، كنت راجل جد وطول عمري جد.
أنا مبسوطة أوي إني عرفتك.
إذاً اسمحيلي أقولك إنك أحلى مكنة شفتها طول عمري".
ولسماع أغنية عبر البلكونة، تخطر على البال صباح في شخصية نادية، وهي تغني لصلاح ذو الفقار في شخصية حمدي: "قولي ايوة قول"، من فيلم "الحب كده"، 1961، للمخرج محمود ذو الفقار.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه