شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
المكاتب التربوية-الحزبية تدير الجامعة اللبنانية

المكاتب التربوية-الحزبية تدير الجامعة اللبنانية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الخميس 10 فبراير 202210:30 ص

ثلاثة أمور حصلت في الجامعة اللبنانية بين عاميْ 1977 و1997، أنشأت نظام الزبائنية فيها ورسخته منذ ذلك الحين. على أن مصطلح الزبائنية لا يكفي للإحاطة بما تحوّلت إليه الجامعة اللبنانية تحت وطأة السيطرة السياسية عليها.

أولاً: إنشاء الفروع

حصل ذلك نتيجة ظروف الحرب الأهلية، لتجنيب الطلاب والأساتذة مخاطر الانتقال بين المناطق في ظل القنص وإطلاق النار والقصف على خطوط التماس. كان هذا تدبيراً شائعاً في الكثير من المؤسسات العامة والخاصة.

لاحقاً، بعد انتهاء الحرب، عاد الموظفون إلى المباني الرئيسية للوزارات، وألغت الجامعة الأمريكية الفرع الذي أنشئ في جبيل. أما فروع الجامعة اللبنانية في المناطق فاستمرت قائمة، تحت وطأة شعار رُفع ونادى به عدد من السياسيين يقول: "الفروع الثانية وُجدت لتبقى". على الضفة الأخرى، استنكرت "القيادات الإسلامية والأحزاب التقدمية" في الشطر الغربي من العاصمة هذا الأمر. لكن لاحقاً، وجدت جميع القوى السياسية مصلحة في هذه الفروع.

أضافت وظيفة "مدير فرع" المستحدثة عام 1977 مرتبة رابعة على هيكلية السلطة الجامعية. المراتب الثلاث المعروفة هي مراتب أكاديمية: أولها الرئيس-مجلس الجامعة (لإدارة الجامعة)؛ ثانيها، العميد-مجلس الكلية (لإدارة الكلية)؛ وثالثها رئيس القسم-مجلس القسم (لإدارة القسم الأكاديمي).

منصب "مدير فرع" هو موقع إداري جيو-سياسي، يُختار بالتنسيق مع الجهة السياسية المعنية بالمنطقة. وإلى اليوم يتوزع معظم مدراء الفروع الـ68 على الزعماء السياسيين. ومن هذا الموقع، يؤثر في القرارات المتعلقة باختيار الأساتذة والطلاب والأنشطة غير المنهجية (الاحتفالات والشعارات والمحاضرات، إلخ) والنفقات في الفرع.

استُحدث هذا المنصب على حساب رئيس القسم الذي أصبح تحت سلطة المدير ولم يعد موجوداً في مجلس الكلية، وأيضاً على حساب العميد الذي لم يعد له نفوذ إلا في الفرع الموجود في منطقته الجغرافية.

ومع تقسيم الجامعة اللبنانية إلى فروع، أصبح انتخاب اتحاد طلاب الجامعة اللبنانية متعذراً، لأن انتخابات الاتحاد كانت تتم على أساس الكليات، والطلاب أصبحوا منذ التفريع مشتتين في المناطق، لا يلتقون ولا يعرفون بعضهم البعض أصلاً. عملياً، جرى استبدال الاتحاد بمجالس طالبية خاصة بكل فرع على حدة، وبالتالي من لون سياسي مسيطر. لذلك لم تعد الانتخابات ضرورية وحلّ محلّ الطلاب الذي يتخرجون في مجلس الفرع زملاءٌ لهم من الحزب نفسه المسيطر في الفرع، أي عن طريق التوريث السياسي.

ثانياً: التعيين السياسي

فاجأ بطرس حرب وكان وزيراً للتربية في حكومة عمر كرامي (1990-1992) رئيس الجامعة آنذاك وعمداءها بإعفائهم من الصلاحيات الإدارية والمالية وعيّن أمين سر الجامعة رئيساً بالوكالة بدعوى أن هناك فساداً في الجامعة. وبالرغم من أنه لا يحق له قانوناً القيام بهذين الأمرين وأنه لم تثبت أي تهمة فساد على أحد، فقد استعمل الوزير الضجة التي افتعلها ليحلّ محل مجلس الجامعة ورئيسها، ويعيّن 350 أجيراً في الجامعة موزعين على أبناء منطقته وعلى القوى السياسية الفاعلة في ذلك الحين. وقد عُرفت اللائحة في وثائق الجامعة بـ"لائحة بطرس حرب". لاحقاً، ظهرت لائحة ثانية سُميت بلائحة مزبودي نسبة إلى الوزير زكي مزبودي (1992). وجميع هذه اللوائح أُعدت في الكواليس، عبر الشبكات الشخصية والسياسية.

عام 1997، أصدر مجلس الوزراء قراراً بـ"وقف التعاقد للتدريس في الجامعة اللبنانية إلا بموافقة مجلس الوزراء". بناء عليه، وحتى اليوم، أصبحت السلّة السياسية هي القاعدة في تعيين الأساتذة في الجامعة اللبنانية

عام 1993، عيّن مجلس الوزراء أسعد دياب رئيساً للجامعة اللبنانية. لم يكن دياب "في ملاك الجامعة اللبنانية برتبة أستاذ للتعليم العالي" كما تنص المادة 10 من قانون 75/1967، بل كان قاضياً، وقد علَّم في كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية عن طريق التعاقد. في العام السابق، ظهر اسمه فجأة وزيراً للمال في حكومة رشيد الصلح، أي تلك التي كان فيها مزبودي وزيراً للتربية. وقيل وقتها إن تعيينه وزيراً جاء مكافأة سورية له على أحكام قضائية أصدرها لصالح الجيش السوري حين كان قاضياً في التحقيق العسكري بين عاميْ 1978 و1991، وكان لبنان حينها تحت سلطة الوصاية.

في عهد دياب وفي العام 1997 تحديداً، أصدر مجلس الوزراء قراراً بـ"وقف التعاقد للتدريس في الجامعة اللبنانية إلا بموافقة مجلس الوزراء" (رقم 42 تاريخ 19/3/1997). وقد بني هذا القرار على تقرير قدمه ميشال إده، وزير الثقافة والتعليم العالي آنذاك، وخلاصته أن هناك تلاعباً ومصالح في توزيع الساعات الوهمية لتسويغ التعاقد والتفرغ للأساتذة. لكن بدلاً من أن يطلب الوزير مساءلة رئيس الجامعة أسعد دياب حول الموضوع، اقترح العكس: نقل صلاحية التعاقد مع الأساتذة من مجلس الجامعة إلى مجلس الوزراء. هكذا أمسك مجلس الوزراء بملف تعيين الأساتذة في الجامعة اللبنانية وهو أمر لا مثيل له في العالم.

بناء عليه، ومنذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، أصبحت السلّة السياسية هي القاعدة في تعيين الأساتذة في الجامعة اللبنانية في مجلس الوزراء. أصبح المرشح للتعاقد بالتفرغ في الجامعة لا يعرف لا هو ولا أي أحد في العالم إذا كان سيتفرغ أم لا ومتى، فهذا مرهون بمشيئة السياسيين، أهل الحكم، والتسويات بينهم حول حجم حصة كل منهم. وقد صدرت منذ ذلك التاريخ حتى اليوم ثلاث "سلال" سياسية: في العام 1999 (63 أستاذاً)، وفي العام 2008 (673 أستاذاً) وفي العام 2015 (1213 أستاذاً).

ثالثاً: الهيئة النقابية تمثل الأحزاب الحاكمة

لم تُصدر الهيئة التنفيذية لرابطة الأساتذة المتفرغين في الجامعة أي بيان احتجاجي على القرار 42، باعتبار أنه يطيح باستقلالية الجامعة. بل تناسته كلياً، وبدلاً من ذلك، استمرّت بالمناداة باستقلالية الجامعة، بطريقة فارغة لا أحد يعرف معناها.

كانت الرابطة قد حصلت على العلم والخبر قبل يومين من اندلاع الحرب الأهلية (11/4/1975). مع انتهاء الحرب تنادى المؤسسون لإطلاق عجلتها، وهؤلاء كانوا من "جيل" ما قبل الحرب (يسار ويمين ووسط)، كانوا سابقاً طلاباً وأعضاء في الاتحاد الطلابي أو من قيادات تحركات الأساتذة. لذلك التزموا بقاعدة الانتخاب على أساس الكليات، المحددة في النظام الداخلي للرابطة.

"هناك ثقافة سياسية معيّنة تسود كل فرع، تظهر في مضامين المقررات ولغتها وفي حصر تعليم مقررات معيّنة بأساتذة دون غيرهم، كما تظهر في المفاهيم والمصطلحات والقيم التي يستخدمها الأساتذة في الصفوف، وفي النشاطات الثقافية والسياسية المسموحة والممنوعة"

مع الانتقال من بداية التسعينيات حتى العام 1997، كانت ملامح قيادة رابطة الأساتذة المتفرغين تتغير تدريجياً ويحل محل الجيل القديم جيل جديد يجسد السياق السياسي الجديد. هكذا بدأت حصة الأحزاب المشاركة في الحكومة (حركة أمل، الحزب التقدمي الاشتراكي، تيار المستقبل، الحزب القومي السوري، الكتائب، إلخ)، تزيد مقابل تناقص حصة جيل اليساريين والمستقلين. لذلك لم تنبس الرابطة بكلمة حول القرار المذكور.

تردّي نوعية التعليم

هناك مكتب تربوي لكل حزب سياسي حاكم، يدير أمور المجالس الطلابية في الفروع، ويضع لوائح بالأساتذة الموالين الذي يجب إدراجهم في اللوائح المرفوعة للتعاقد والتفرغ، ويدير المعارك الانتخابية في رابطة الأساتذة، وانتخابات ممثلي الأساتذة في مجلس الجامعة، وترشيح مدراء الفروع وعمداء الكليات ورئيس الجامعة. ويحصل التنسيق والتنافس والصراع والتنافر والتوافق والتحالف بين المكاتب التربوية للأحزاب على غرار ما يحصل على مستوى مجلس الوزراء. هذه المكاتب الجامعية هي تدير شؤون الجامعة خلف الكواليس.

ظاهرياً، لا تدخل الأحزاب السياسية إلى الصفوف ولا تتدخل في المناهج التعليمية وطرق التعليم. لكن إذا افترضنا أن لكل فرع هوية سياسية معيّنة، يمكن التخيل أن هناك ثقافة سياسية معيّنة تسود كل فرع، تظهر في مضامين المقررات ولغتها وفي حصر تعليم مقررات معيّنة بأساتذة دون غيرهم، كما تظهر في المفاهيم والمصطلحات والقيم التي يستخدمها الأساتذة في الصفوف، وفي النشاطات الثقافية والسياسية المسموحة والممنوعة في الفرع.

مع هذه الثقافة، يصير مناخ الفروع محكوماً من قبل المنخرطين في الأحزاب الحاكمة، أساتذة وطلاباً وإداريين، ويخيّر الآخرون بين الصمت، تجنباً للمشاكل أو تأملاً بالحصول على التفرغ وسهولة الترقية وعدم عرقلة أمورهم المهنية، وبين التمرد، فيتعرضون للاضطهاد وعرقلة أمورهم.

الناتج عن هذه الوضعية معروف: تدهور المعايير الأكاديمية في التعليم والبحث. في التعليم تُوزَّع المقررات (بعد التعاقد والتفرغ) بحسب اعتبارات الزبائنية، وفي المضمون يجري تلقين اليقين، يقين الأفكار المسبقة والأيديولوجيا. وفي البحث يجري إنتاج الفراغ المعرفي، في شهادات الماجستير والدكتوراه وفي الأبحاث التي ينشرها الأساتذة. وبالتالي يمكن القفز إلى رتبة أستاذ في غضون خمس سنوات.

يصح هذا الكلام على الاختصاصات الإنسانية والاجتماعية بدرجة أكبر. أما اختصاصات العلوم البحتة والطبيعية فلا مجال فيها للأيديولوجيا في التعليم، وأبحاثها تُنشر في الخارج وباللغة الأجنبية. لكن حتى في هذه الحالة يمكن أن تؤدي الزبائنية السياسية إلى التغاضي عمّا يُعلَّم فعلاً وإلى تلفيق الأبحاث وملفات الترقية.

لا يجب تعميم هذا التوصيف على كل أساتذة الجامعة اللبنانية وجميع الاختصاصات، فهناك أساتذة أكفاء جداً فيها، لكن يجب الإقرار بأن مناخ المؤسسة أقوى من هؤلاء وتردي النوعية يذهب ضحيته أغلب الطلاب.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image