شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
الانتخابات اللبنانية القادمة... إعادة تحكّم بمصائر الناس عبر بوابة الزبائنية

الانتخابات اللبنانية القادمة... إعادة تحكّم بمصائر الناس عبر بوابة الزبائنية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الاثنين 31 يناير 202209:59 ص

تبدو الزبائنية السياسية كأنها جزء لا يتجزأ من مقوّمات العملية الانتخابية في لبنان. كلّما اقتربت الانتخابات، تطل ممارساتها برأسها، كأنها القطبة المخفية في البرامج الانتخابية.

تستخدم القوى والزعامات السياسية/الطائفية الزبائنية السياسية بـ"مهارة"، فلها تاريخ طويل مع تحويل المواطنين إلى زبائن يمحضون ولاءهم لمَن يقدّم لهم "خدمات".

وتفاقمت هذه الظاهرة بشكل فاقع مع انتخابات 1992، أول انتخابات نيابية بعد الحرب الأهلية، حين قامت القوى السياسية - وما كانت سوى قوى الأمر الواقع المهيمنة على مناطق جغرافية خلال الحرب - ربطاً بالعجز الذي تعانيه مؤسسات الدولة في توفير الخدمات للمواطنين، بالحلول محل هذه الدولة.

لم يقتصر الأمر على استغلال النفوذ عبر تجيير مؤسسات الدولة وخدماتها لترسيخ زعامات، إنما أُنشئت مؤسسات بديلة تُقدّم في حالات محددة نفس خدمات الدولة. فالأحزاب السياسية الأساسية تمتلك شبكة كبيرة من المصالح الخاصة بها، من مؤسسات تربوية تبدأ من قسم الروضات وتنتهي في الجامعات، إلى مؤسسات مالية، شركات خاصة، مؤسسات إعلامية، مؤسسات صحية، مؤسسات وجمعيات أهلية، نوادٍ محلية، وغيرها.

Qui donne, ordonne

السياسي اللبناني تمتزج في شخصيته صفتان: فهو النائب الذي يمثل الأمة جمعاء، بموجب الدستور، وهو أيضاً شخص مُنتخَب عن مقعد يتفاعل ناخبو شاغله مع محددات طائفية/ مذهبية وجغرافية.

يُحبّذ هذا السياسي توفير الخدمات للناخبين عوضاً عن تصميم سياسات تخدم المجتمع برمّته، فيُرسّخ بسلوكه هذا الارتباط القائم على الحاجة الدائمة إلى وجوده، وتحديداً في المناطق التي تُهيمن عليها قوّة سياسية واحدة. وهكذا، تصبح خيارات الناخبين في الغالب قائمة على مدى الخدمات المقدمة وليس على البرنامج السياسي.

الزبائنية السياسية هي الوصفة الأكثر نجاحاً للعمل السياسي في لبنان. "يستفيد" منها المواطن بشكل أساسي في مرحلة الانتخابات، عبر مجموعة "خدمات" يقدّمها السياسي، ولولا هذه "الخدمات" التي قد تكون مالية أو عينيّة وقد تكون عبر تدخله (ما يُعرف بالواسطة) في ملف ما، لما تمكن المواطن العادي الذي تُغلَق في وجهه الأبواب الرسمية، من الوصول إلى تلبية حاجاته.

هي في منحى منها عملية ابتزاز مقنّع يَخضع له مواطن عاجز أمام إغلاق كافة السبل المؤسساتية أمامه، ويستفيد منه تيار سياسي يقدم الخدمة انطلاقاً من مبدأ "مَن يعطي يأمر" Qui donne, ordonne.

على هذه الأسس، لطالما استُغلّت مشاريع الدولة في فترة الحملات الانتخابية، لتبدو للمواطن العادي، وسط "همروجة" إعلامية، كأنها خلاصة جهد وتعب الزعيم أو كأنها تقديمات من جيبه الخاص، وليست من ضرائب يدفعها المواطن أو نتيجة تمويل صناديق أجنبية.

فالطريق السريع الذي يربط بيروت بصور، وتحديداً القسم الذي يربط الزهراني بمفرق بلدة قانا الجنوبية، والذي جرى تلزيمه عام 1995، تم الاحتفال بافتتاح أجزاء منه من قِبل رئيس المجلس النيابي/ رئيس حركة أمل نبيه برّي في كافة الحملات الانتخابية النيابية: 1996، 2000، 2005، 2009 و2018.

"الزبائنية السياسية في لبنان هي عملية ابتزاز مقنّع يَخضع له مواطن عاجز أمام إغلاق كافة السبل المؤسساتية أمامه، ويستفيد منه تيار سياسي يقدم الخدمة انطلاقاً من مبدأ "مَن يعطي يأمر" Qui donne, ordonne"

لا تقتصر الزبائنية السياسية على تقديم الخدمات، إنما قد تقوم، وتحديداً في فترة الانتخابات، على وعود بخدمات في المستقبل، كالوعد بالتوظيف، ولذلك غالباً ما تُفتح أبواب المبارايات والامتحانات للتوظيف في مؤسسات الدولة (السلك العسكري، البلديات...)، أو يظهر الحديث عن تثبيت مياومين في بعض القطاعات... أو تكثر الوعود "العرقوبية" مثل وعد وزير الطاقة سابقاً جبران باسيل بـ24/24 ساعة كهرباء، ووعد رئيس الوزراء الأسبق سعد الحريري بخلق 900 ألف وظيفة.

الزبائنية والقانون الجديد

جاء قانون الانتخابات الجديد ليعمّق من أزمة الزبائنية، من خلال اعتماد الصوت التفضيلي الذي جعل المرشح ينحو في دائرته الانتخابية الصغرى باتجاه تركيز تقديم الخدمات ورفع سقف الإنفاق الانتخابي، للحصول على الصوت التفضيلي.

حدد القانون، في المادة 56 منه، فترة الإنفاق الانتخابي بأنها "تبدأ من تاريخ فتح باب الترشح وتنتهي لدى إقفال صناديق الاقتراع". ورغم أن المادة 62 منه حظرت، في فقرتها الأولى، "الالتزامات والنفقات التي تتضمن تقديم خدمات أو دفع مبالغ للناخبين" خلال فترة الحملة الانتخابية، إلا أنها عادت وأجازتها في الفقرة الثانية بنصها على عدم حظر هذه التقديمات والمساعدات "إذا كانت مُقدّمة من مرشحين أو مؤسسات يملكها أو يُديرها مرشحون أو أحزاب درجوا على تقديمها بذات الحجم والكمية بصورة اعتيادية ومنتظمة منذ ما لا يقل عن ثلاث سنوات قبل بدء فترة الحملة الانتخابية".

"السنوات الثلاثة" المذكورة والممتدة بين فترتين انتخابيتين تسمح للقوى السياسية المتمولة بربط مصائر كثيرين من المواطنين بها وتجعلهم رهينة لمَن يقدم لهم الخدمة/ المساعدة. وبالتالي عندما تأتي الانتخابات يجد المواطن نفسه في وضع لا يمكنه التفلّت منه، ففي حالة عدم اقتراعه لهذه القوى سيفقد مستقبلاً أي إمكانية للوصول إلى كافة الخدمات/المساعدات، من هنا تترسخ دوّامة التبعية والاستزلام لمنظومة الفساد.

"بدأت القوى السياسية اللبنانية باستغلال الأوضاع المتردية للمواطنين عبر سلسلة قديمة متجددة من وسائل الابتزاز، من خلال تقديم مجموعة كبيرة من المساعدات كان عليها أن توفرها بشكل مؤسساتي بوصفها القوى التي تسيطر على السلطة"

وتتنوع هذه المساعدات من منح دراسية، إلى مواد غذائية، إلى مساعدات مالية عينية، إلى تسهيل معاملات وغيرها. وكلّما كان الوضع الاقتصادي في حالة سيئة كلّما تصاعدت الحاجة إلى هذه المساعدات. وتاريخياً، هي حاجة ملحّة ودائمة لأبناء العديد من المناطق التي تعيش أوضاعاً مأساوية، ومنها أحياء عدة في المدن الكبرى: بيروت، طرابلس، وصيدا.

أبعاد جديدة للزبائنية

ليست الزبائنية السياسية بجديدة على المنظومة اللبنانية، إلا أنها أخذت أبعاداً جديدة في الظروف الآنية التي تمرّ بها البلاد، من انهيار اقتصادي وانهيار قيمة العملة الوطنية وجائحة كورونا، وما أفرزته من تعاظم حاجة نسبة كبيرة من اللبنانيين للمساعدة.

وسط هذه المشهدية المأساوية، يتراكم الفساد ليُسجّل معدّلات مُرتفعة للغاية، إذ حلّ لبنان في المرتبة 154 على مؤشّر مُدركات الفساد، بين 180 بلداً، لعام 2021.

وفي الوقت نفسه، وبشكل غير مسبوق في التاريخ الحديث للبلد، ترزح نسبة كبيرة من اللبنانيين تحت مستوى خط الفقر، فقد تضاعفت نسبة الفقر المتعدد الأبعاد في لبنان من %42 في المئة في عام 2019 إلى %82 من مجموع السكان في عام 2021، بحسب لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا)، الأمر الذي يزيد من الارتهان الممنهج للطبقة السياسية.

ووسط هذا المشهد، بدأت القوى السياسية باستغلال الأوضاع المتردية عبر سلسلة قديمة متجددة من وسائل الابتزاز، من خلال تقديم مجموعة كبيرة من المساعدات المالية والعينية، كان عليها أن توفرها بشكل مؤسساتي بوصفها القوى التي تسيطر على السلطتين التشريعية والتنفيذية، بدلاً من حالة الإنكار والإرباك التي تعيّش البلد فيها منذ أكثر من سنتين.

من تأمين سعد الحريري لمليون جرعة من اللقاح الصيني ضد كورونا، إلى تقديمات جمعية "سوا لبنان" التابعة لشقيقه بهاء، والمؤسسات التابعة للنائب البيروتي فؤاد مخزومي، والوزير الأسبق سليمان فرنجية والتيار الوطني الحر والقوات اللبنانية وحزب الله، صرنا نصادف بشكل دوري إعلانات عن مساعدات عينية للمواطنين أو لمؤسسات طبية.

وجاءت أزمة المحروقات في لبنان لتفتح باباً آخر من أبواب الزبائنية السياسية، مع استقدام حزب الله مازوتاً من إيران، وإدخاله إلى لبنان عبر الحدود السورية بدون دفع رسوم جمركية، وإيصاله لبعض المحظيين، عبر محطات وقود تدور في فلكه، بأقل من السعر الرسمي.

في ظل هذا المشهد، وبالرغم رغم تعاظم حالة الاعتراض على أداء المنظومة السياسية الحاكمة ودورها في الانهيار، إلا أن الوضع العام سلك منحى أتاح للقوى السياسية التقليدية إيجاد منافذ لتقوم بعملية إعادة تموضع وإعادة تحكّم بمصائر الناس.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image