شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
دليلك لفهم

دليلك لفهم "الأزمة الأوكرانية"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الأربعاء 2 فبراير 202201:30 م

"أُنشئ الناتو لإبقاء الروس خارجنا والأمريكيين بيننا والألمان أضعف منا" (لورد إسماي، أول أمين عام لحلف شمال الأطلسي/ الناتو).

أعادت أزمة الحشود العسكرية الروسية على الحدود الأوكرانية العالم إلى مفردات الحرب الباردة وتصادم القوى العظمى والأزمات الكبرى التي يحبس العالم فيها أنفاسه على غرار أزمة الصواريخ الكوبية في ستينيات القرن الماضي، والتي هددت بنشوب حرب نووية بين القوى العظمى.

لكن إلى أي مدى هذه الأزمة مرشحة للتفاقم؟ وما الدوافع الكامنة للتصعيد؟ وما الجذور التاريخية لما يعرف بـ"خيانة الناتو"؟ وما انعكاسات الأزمة على الشرق الأوسط؟

"خيانة الناتو"؟

ظهر حلف شمال الأطلسي كأكبر تحالف عسكري في التاريخ يجمع القوى الغربية على ضفتي المحيط الأطلسي كرد فعل على التهديد السوفياتي لأوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.

ويستمر الناتو لنفس السبب، مع اختلاف مسمى الخصم، رغم عدم اختلاف موقع هذا الخصم الجغرافي. فقد انتهت كل آمال التسعينيات الكبرى، بعد نهاية الحرب الباردة، بأن تندمج روسيا في ثقافة الغرب وأن تنضم إلى الناتو، وعاد "الدب" مخلصاً لجذوره الأوتوقراطية وثقافة الأجداد القياصرة: حكم مركزي إمبراطوري قوي، قمع أي معارضة، توجس أمني من الغرب كخصم للثقافة السياسية الروسية ومصدر تهديد يلزم موازنة القوة العسكرية ضده.

في خطابه في مؤتمر ميونيخ للأمن عام 2007، اتّهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الغرب بخيانة بلاده واتّهم الغرب بالكذب لأنه لم يحافظ على تعهداته التي قطعها على نفسه في فترة العلاقات الدافئة في بداية التسعينات. فما هي هذه "الخيانة" وما هو تعهد الناتو؟

تستند العقيدة الأمنية الروسية على قناعة أسستها الحقائق الجيوبوليتيكية، إذ إنها تملك قلباً رخواً يجب أن تحميه بأطراف صلبة، بمعنى أن عواصمها ومدنها الكبرى تقع في السهول الأوروآسيوية الكبرى أو في "قلب الأرض" (أو "قلب العالم")، بحسب وصف الجيوبوليتيكي الإنكليزي الشهير هالفورد ماكيندر.

وقوع القلب في هذه المنطقة الجغرافية جعلها تاريخياً هدفاً سهلاً للغزو الغربي. لذا أسست روسيا عقيدتها الدفاعية على تكتيكات غير دفاعية، بحيث تبتلع مساحات هائلة من الأرض التي تقع حول قلبها وفي مجالها الحيوي، ما يجعل مهمة الدفاع عن القلب أسهل نسبياً.

ورغم أن أصل العقيدة الإستراتيجية الروسية دفاعي، إلا أن أغلب تكتيكاتها كانت هجومية وحوّلتها إلى أمة "مفترسة" ابتلعت أمماً حولها وضمتها بالقوة إلى الاتحاد الروسي أو اعتبرتها مجالها الحيوي.

"صانع القرار الروسي يريد أن يصل بالأزمة إلى نقطة الرعب التي يعقبها التنازل. التلويح بالعصا أحياناً أكثر فاعلية من الضرب بها"

لذا تنظر روسيا إلى تمدد الناتو في مجالها الحيوي كمصدر تهديد. قبل تفكك الاتحاد السوفياتي، طالب الأخير بتعهد من الناتو بعدم التمدد شرقاً، مقابل الموافقة على الوحدة الألمانية. وفي اجتماع بين وزير الخارجية الأمريكي جيمس بيكر بالزعيم السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف، في 9 شباط/ فبراير 1990، لمناقشة وضع ألمانيا الموحدة، اتفق الرجلان على أن الناتو لن يتجاوز أراضي ألمانيا الشرقية. نفس الوعد كرره الأمين العام للناتو في خطاب ألقاه في 17 أيار/ مايو من نفس العام في بروكسل.

لكن القادة الغربيين يرون أن هذا الوعد كان في ظل وجود الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو. وبتفكك الاتحاد السوفياتي فإن الغرب في حل من وعوده تجاه وريثته روسيا الاتحادية التي لم ترث مناطق نفوذه بعد ثورات أوروبا الشرقية.

خلق هذا الإحساس بالخيانة مرارة روسية وإحساساً بالخديعة ما زال مستمراً إلى اليوم. يفسر البعض تكتيكات روسيا العدوانية بداية من عام 2008، في حربها ضد جورجيا، وفي ضم القرم في حرب هجينة ضد أوكرانيا سنة 2014، في ضوء هذا الإحساس بالخيانة.

هذه العقدة الروسية التاريخية هي نفسها ما خلق الأزمة الحالية. ترى موسكو أن أوكرانيا جزء من الإمبراطورية الروسية التاريخية، فعاصمتها كييف كانت أول عاصمة لروسيا الكبرى، وأن أوكرانيا الحالية جزء من المجال الروسي الحيوي وخطوط الكرملين الحمراء.

في المقابل، ترى الحكومة الأوكرانية الحالية أن مصالح بلادها هي في الانضمام إلى الغرب والناتو، بما يضع الناتو في الفناء الخلفي لروسيا. تصادم الإرادات هذا كان سبب تصاعد الأزمة الحالية التي أوقفت العالم على أطراف أصابعه.

روسيا تعيد ترميم الناتو!

على الجانب الآخر، كان الناتو قد بدأ بالتفكك من داخله بعد خلافات ضفتي الأطلسي وتصاعد المطالبات الأمنية في أوروبا بتشكيل جيش أوروبي منفصل عن الناتو ليحمي أمن القارة، خاصة بعد الخلافات الأمريكية الأوروبية في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب وسياسة أمريكا أولاً.

كما تعمقت الخلافات بين فرنسا من ناحية وأمريكا وبريطانيا وأستراليا من ناحية أخرى بعد صفقة الغواصات الأسترالية الملغاة، ما خلق حلفاً أنغلوساكسونياً في مواجهة فرنسا داخل الناتو.

وعادت الخلافات التاريخية بين دول أعضاء للظهور مثل خلاف تركيا واليونان اللتين اقتربت مناوشتهما من تصادم عسكري.

لكن، وكما تسبب التهديد السوفياتي في إنشاء الناتو، تسببت سياسات روسيا في إعادة الوحدة إليه بقُبلة حياة جديدة بعد أن ظهرت كمصدر خطر على الجميع.

ورغم أن أوكرانيا ليست عضواً في الناتو إلا أن تقاربها معه وطلبها الانضمام إليه جعلها حليفاً تحت التهديد وجعل ابتلاع روسيا لها بمثابة سابقة لو تمت، ستشكل خطراً على الخصوم التاريخيين لروسيا في شرق أوروبا والبلطيق وتركيا، وعلى الحلف نفسه إذ سيجد أعضاؤه أنفسهم أمام خطر روسي معزز بقوة نووية جبارة قادره على تكرار تجربة أوكرانيا مع ’آخرين.

المواجهة العسكرية بين الناتو وروسيا ليست واردة حتى وإنْ غزت موسكو أوكرانيا، لكن تبقى الحروب غير مباشرة ومساندة أعضاء الناتو لأوكرانيا دون أن يدخلوا في مواجهة عسكرية مع روسيا هو الاستراتيجية الأقرب للتفعيل.

تحاول الدول الغربية، خاصة الولايات المتحدة، رفع تكلفة الغزو عن طريق تأسيس ردع دفاعي قوي، منطقه ببساطة: نعم، يمكنك الغزو لكن ستكون التكلفة العسكرية والاقتصادية عالية جداً عليك إلى درجة قد تفوق أي مكاسب ممكنة

وتحاول الدول الغربية، خاصة الولايات المتحدة، رفع تكلفة الغزو عن طريق تأسيس ردع دفاعي قوي، منطقه ببساطة: نعم، يمكنك الغزو لكن ستكون التكلفة العسكرية والاقتصادية عالية جداً عليك إلى درجة قد تفوق أي مكاسب ممكنة.

وفي هذا السياق، يدفع الناتو بمعدات عسكرية هجومية ودفاعية لأوكرانيا لتجعل لأي غزو لها تكلفة عسكرية ضخمة، بخلاف التهديد بحصار روسيا اقتصادياً.

سيناريو آخر يتوقعه البعض وهو قيام روسيا بغزو جزئي لمنطقة دونباس، فهذا لن يؤدي إلى حرب عالمية ولن يتدخل الناتو عسكرياً لتحرير إقليم في دولة غير عضو، لكن سيخلّف آثاراً اقتصادية وخيمة على روسيا وأوروبا، وربما ينذر بشتاء شديد البرودة في عام 2023 إذا ما تصاعدت أزمة الطاقة، إذ تعتمد أوروبا على روسيا في تغطية 35% من الغاز الطبيعي.

على الجانب الروسي، وعلى الرغم من قناعات عواصم غربية بأن لدى موسكو خطة لغزو كامل لأوكرانيا، يبدو أن الأخيرة لا تود غزو أوكرانيا نظراً للتكلفة الباهظة لهكذا خطوة، لكنها تود أن تصل بالخلاف إلى حافة الهاوية، بحيث تضع الغرب في ازمة تجعله يعيد حسابات التمدد شرقاً. صانع القرار الروسي يريد أن يصل بالأزمة إلى نقطة الرعب التي يعقبها التنازل. التلويح بالعصا أحياناً أكثر فاعلية من الضرب بها.

الانعكاسات على الشرق الأوسط

يظل احتمال الغزو الشامل والحرب الشاملة احتمالاً مستبعداً في الأزمة الأوكرانية الحالية، إلا أن الأزمة ألقت بظلالها على العالم كله بما فيه الشرق الأوسط، نظراً لطبيعة القوى العظمى المنخرطة فيها.

كما أن احتمال فرض عقوبات على روسيا ربما يجعل أوروبا كمَن يطلق النار على قدمه، إذ ستحرمها العقوبات من الغاز الروسي. دفع ذلك الولايات المتحدة وأوروبا إلى اللجوء إلى مصادر أخرى لتغطية النقص المحتمل في الغاز، وكان الشرق الأوسط المحطة الأهم لسد هذه الفجوة.

استفادت قطر، أكبر مصدر للغاز المسال في العالم، من الأزمة، إذ توجهت إليها واشنطن لتعويض النقص وتم إعلان أنها حليف رئيسي للولايات المتحدة من خارج الناتو، ما يشكل خيبة أمل للمنافس الإماراتي الذي ظل يتطلع للقيام بهذا الدور خاصة في ظل تصاعد تكاليف الحملة الإماراتية في اليمن.

تنعكس الأزمة الأوكرانية على الشرق الأوسط بعد أن أصبح محطة أساسية لتغطية العجز المحتمل في سوق الطاقة العالمي، كما تنعكس على المفاوضات مع إيران وعلى ترتيب أولويات واشنطن نحو الدول الخليجية، وحالياً تظهر قطر كفائز أكبر بما يثير حفيظة الإمارات

لعبت قطر دوراً مهماً في خروج الولايات المتحدة من أفغانستان، بعد رعاية مباحثاتها مع طالبان، تلك المباحثات التي جعلت واشنطن تثق بها كوسيط ينقل رسائلها إلى إيران.

وفي ما خص إيران، تريد الولايات المتحدة تبريد جبهتها معها بعد سخونة جبهة أكثر خطورة في أوكرانيا. ربما تدفع الأزمة الولايات المتحدة إلى تسريع وتيرة المحادثات مع إيران للوصول إلى اتفاق حول برنامجها النووي ودمجها في سوق الطاقة الأوروبي في حالة خروج روسيا منه.

تلقي الأزمة بظلالها أيضاً على أسعار النفط، فقد ارتفعت الأسعار لتقارب 100 دولار لبرميل خام برنت، وهو خبر سار للسعودية والإمارات إذ سيمثل خروج روسيا من سوق النفط هدية لإنعاش خزائنهما المثقلة بالتطلعات العسكرية وحرب اليمن ومشاريع التنمية.

لكن سيظل الهاجس الأمني يطارد هذه الدول إذا خرجت روسيا منتصرة من هذه المواجهة، ما يؤشر بنظام عالمي جديد فيه إيران وروسيا والصين أكثر قوة وتشدداً في مواجهة الغرب والولايات المتحدة، ما يجعل الحسابات الأمنية لهذه الدول أكثر تعقيداً.

الخلاصة:

تشكل الأزمة الأوكرانية أخطر أزمة تواجه القوى العظمى منذ الحرب الباردة، ورغم أن الحسابات العقلانية لا تصب في صالح قيام روسيا بغزو شامل لابتلاع أوكرانيا، إلا أن احتمال المواجهة سواء بسبب غزو جزئي لإقليم دونباس الأوكراني، أو خطأ غير محسوب في تقديرات الأطراف لم يزل قائماً.

ونظراً لتشبث الأطراف بمواقفها إلى وقتنا الحالي، إذ يرفض الناتو إعطاء تطمينات لروسيا بعدم التوسع في مجالها الحيوي وضم دول أخرى من الاتحاد السوفياتي السابق، وترفض روسيا أي تنازل عن مطلب منع الناتو من التمدد في ما تعتبره فنائها الخلفي، فإن احتمال وقوع خطأ في حسابات الأطراف لم يزل قائماً.

تنعكس الأزمة على الشرق الأوسط بعد أن أصبح محطة أساسية لتغطية العجز المحتمل في سوق الطاقة العالمي، كما تنعكس على ترتيب أولويات الولايات المتحدة نحو الدول الخليجية، إذ تظهر قطر كفائز أكبر بما يثير حفيظة الإمارات.

وكذلك تنعكس الأزمة على المفاوضات مع إيران لصالح الجمهورية الإسلامية.

لكن الملاحظ أن الأزمة ربما تكون نقطة فاصلة في ترتيب النظام العالمي الجديد وانعكاساته على الشرق الأوسط.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard