أنا ابن الأساطير، أرتحل إلى مدن الذاكرة، تتسرّب إلى أسماعي حكايات ألف ليلة وليلة، فلا تسكت شهرزاد عن الكلام المباح، وتظهر بغداد "الرشيد" بثوبها المزدهر، وأسواقها المكتظة، وثرثرة سكانها، وكأنّ لغات العالم اجتمعت هنا.
مدينة تحثني على المغامرة، تجمع بين الخيال والحقيقة، هاجر الناس إليها منذ القدم، فهنا يعكف الخليل بن أحمد الفراهيدي على مخطوطته، وهو يضع علم العروض، وعلى الجانب الآخر يظهر مارد علاء الدين الذي يسكن المصباح السحري، بينما يخطط سندباد لرحلته الثامنة التي لم تروها الحكاية.
ماذا يربط العمانيين بالسندباد البحري؟ تلك الشخصية الشهيرة التي غزت المخيلة العالمية؛ فمن لم يقرأ يوماً، ويطلع على الحكايات المنسوبة له في كتاب "ألف ليلة وليلة"؟.
عُرف سندباد بأنه بحّار مغامر، عاش في مدينة بغداد زمن الخليفة العباسي هارون الرشيد، ومنها انتقل إلى البصرة، وشق البحار، وصاحب الأمواج، وحكى عن الأهوال التي لاقاها في البحور السبعة، التي واجه فيها الوحوش والعجائب، ويقول السندباد في كل مرة: "نجوت من الموت بأعجوبة".
صور السندباد
التقت في بغداد أجناس وأعراق، واندمجت ثقافات. والأسماء الواردة في كتاب "ألف ليلة وليلة" ليست عربية، مستمدة من التراث الفارسي، مثل شهرزاد، وتعني الأميرة وبنت البلد، وشهريار تعني الحاكم، أما سندباد فيقصد به "سند آباد" أو "زعيم نهر السند"، وهو أحد أطول الأنهار في باكستان.
يرى البعض أن الأسماء ليست دلالة على أصل الشخصيات وانتمائهم، وأنها تدعو للتنقيب عن معاني الأسماء وارتباطها بصفات الشخوص، كما أن لها وقعاً موسيقياً خاصاً على الآذان، يساعد على رسوخها في الأذهان.
يعتقد عمانيون أن شخصية سندباد مستمدة من رحلة التاجر "سليمان السيرافي"، ويحكى أنها كانت في القرن الثالث الهجري، أبحر من مدينة مسقط العمانية باتجاه الصين، وجمع ما دونه ورآه في كتاب "رحلة السيرافي إلى الهند والصين واليابان وإندونيسيا".
ويرى البعض الآخر أن الشخصية الحقيقية تعود لبحّار عماني من مدينة "صحار"، تقع في شمال البلاد، يقول عنها المؤرخون إنها أقدم وأشهر المدن العمانية، وأكثرها ازدهاراً، كما كانت نقطة وصل بين شبه الجزيرة العربية وموانئ الصين والهند.
واشتهرت عُمان قديماً بالملاحة، وعرفت بأسطولها البحري الذي جاب البحار، وأقامت علاقات تجارية مع العالم القديم، ومن أشهر البحارة أحمد ابن ماجد الملقب بـ"أسد البحار". يُقال إن هناك أدلة من القرن الثامن الميلادي حول سفن عمانية، كانت تبحر في المحيط الهندي للوصول إلى الصين.
يحكي سندباد عن بداية مغامراته، وكيف اكتشف عالم البحار، قائلاً: "نعمت بالاستقرار في بلدي، والسعادة تغمرني، وعشت هناك سنوات عدة. لكن في أحد الأيام، سمعت بعض التجار يناقشون خططهم للقيام برحلة بحرية، وقررت أن أبحر معهم، وظللنا في البحر بضعة أيام فقط، ثم ألقت بنا جميعاً عاصفةٌ قوية من فوق المركب، وقذفتنا الأمواج إلى جزيرة صغيرة".
ويقول في مكان آخر: "أبحرت متنقلاً من جزيرة إلى أخرى، أبيع ما تبقى من البضائع. وشاهدت العديد من الأمور المذهلة في الطريق، بما في ذلك سمكة على شكل بقرة، وطائر يفقس من صدفة. وفي النهاية، عدت إلى موطني".
في عام 1980 في مدينة صور العمانية، أحد أهم مراكز صناعة السفن في الخليج العربي آنذاك، قام الناس ببناء سفينة تحاكي السفن العمانية العتيقة، بطول وقياسات أشرعتها، وخشبها، واستغنائها عن المسامير. ويُعتقد أنها كانت تشبه سفينة سندباد، وأطلقوا عليها اسم "صحار"، تيمناً بالمعتقد الذي يقول إن أصل سندباد يعود لهذه المدينة.
البلاد التي حط فيها سندباد "ألف ليلة وليلة" تحاكي بشكل محيّر ما وصفه الجغرافيون العرب الأوائل، إلى الدرجة التي تدفعنا إلى التساؤل: هل هو بطل الحكايات أم شخصية حقيقية؟
قام بمهمة البناء اثنا عشر من صانعي السفن العمانيين، وفريق من النجارين الهنود، واستغرق بناؤها 156 يوماً، واستُخدم في صناعتها 140 طناً من الخشب، حملتها الفيلة في الهند، وشُحنت إلى صور، وبعد مرور شهور، ومع انتشار الشراع الرئيسي للسفينة استعداداً للرحيل مع أهازيج وغناء البحارة، مرددين (يا لله ويا لله... والله المعين)، احتشد العمانيون لوداعهم، ودقت الطبول على وقع الرقصات الشعبية، انطلقت السفينة في رحلتها الطويلة نحو الصين، تحمل على ظهرها عشرين بحاراً، معظمهم من سكان عمان، تحت قيادة المغامر والمكتشف الأيرلندي تيم سيفيرين.
كان تيم سيفيرين رحالة مغامراً، متتبعاً للأثر، يعلم أن البحر يخفي أسراره، ولا يبوح بها إلا للمغامرين، وهذا ما حدث عندما أبحر في قارب مصنوع من الخشب والجلد ليكتشف حقيقة الرحلة الأسطورية، والملحمة الإيرلندية القديمة للقس سان برندان.
ذاك الشغف خلف الأساطير دفعه نحو رحلة سندباد الثامنة.
يقول تيم سيفيرين الرحالة: "إننا نعرف أن البحارة العرب كانوا يستكشفون الطرق البحرية إلى أقصى الشرق"، ويقول السندباد في كل مرة: "نجوت من الموت بأعجوبة"
في عام 1983 بث التلفزيون العماني فيلماً تسجيلياً من ثلاثة أجزاء، يوثق الرحلة كاملة، بينما أصدر سيفيرين كتابه "The Sindbad Voyage" (رحلة السندباد)، وكتب فيه: "سندباد أو سندباد البحر، رحلاته السبع التي ورد ذكرها في (ألف ليلة وليلة) مبنية على رحلات حقيقية، قام بها بحارة حقيقيون. إننا نعرف أن البحارة العرب كانوا يستكشفون الطرق البحرية إلى أقصى الشرق من حدود بلادهم".
لبلاد التي حط فيها السندباد تحاكي بشكل محيّر ما وصفه الجغرافيون العرب الأوائل، وكلما أوغلت في قصص رحلاته، كلما ازددت ريبة في أنه ليس بطلاً روائياً لقصص الأطفال، وإنما هو شخصية حقيقية، مثل قباطنة البحر والتجار العرب الذين بلغوا أقصى حدود العالم المعروف في العصر الذهبي للشراع العربي، لاسيما بين القرنين الثامن والحادي عشر.
سفينة "صحار"
كيف كانت تبدو سفينة عربية من العصر الوسيط؟ يجيب الربان الأيرلندي على هذا السؤال في كتاباته، قائلاً: "لم يكن صانعو السفن العربية يستخدمون رسومات أو تصميمات حينما يبنون سفينة، وإنما كانوا يعتمدون على العين، وهم ربما كانوا يفعلون ذلك على الدوام. وهكذا فإن الرسومات العربية الأولى عن السفن ليست سوی رسومات ذات أنماط سامية لا تعطي إحساساً بالتصميم العملي".
يمكن للشراع أن يخاط، لا أن يثبت بالمسامير، وكان ذلك أمراً بالغ الأهمية، فإذا أردتم أن تكوّنوا صورة واقعية عن الشراع، فيمكن تثبيته بالحبال بدلاً من المسامير، وقد يبدو ذلك أمراً غريباً، ومع ذلك فإن الرحالة القدماء، بما فيهم ماركو بولو، قد لاحظوا أن السفن العربية قد لُصِقت أجزاؤها بحبال مصنوعة من ألياف جوز الهند.
وقيل إنه لم يكن العرب يستخدمون المسامير في سفنهم لأن هناك، كما كان يشاع، مغناطيساً هائلاً في قاع البحر، يجذب جميع الأجزاء الحديدية من السفن العابرة.
يصف سيفيرين البحارة العمانيين في سفينة "صحار"، قائلاً: "كان عدد قليل منهم يرتدون السراويل القصيرة، ومعظمهم كانوا يفضلون المآزر التي تغطي نصف أبدانهم".
"لقد قضينا وقتاً طيباً في بحر العرب، حيث كانت السفينة تقطع يومياً ثمانية أميال، وخشيت من أن يبدأ السأم بالتسرب إلى نفوس الأوروبيين، فهم جميعاً من الشبان المتحمسين، وكان البحر جديداً بالنسبة لمعظمهم، وقد وجدوا المكان مزدحماً، و الحياة رتيبة، والطعام الذي يطهونه رديئاً".
لم يكن ذلك حال العمانيين، فهم قد اعتادوا على الحياة فوق ظهر السفينة، وكانوا يتبادلون الأحاديث في ما بينهم، وينشدون الأغاني التقليدية، وينامون في أي مكان، ويستلقون على ظهر السفينة واضعين الملاءات على رؤوسهم، لتقيهم حرَّ الشمس، وعندما يتطلب الموقف عملاً يقبلون عليه بحماس شديد.
بعد سبعة أشهر وقطع 6000 ميلاً، وقبل ثمانية وأربعين ساعة من موسم الأعاصير، وصلت سفينة "صحار" إلى ميناء غوانزو الصيني، ليضيف التاريخ رحلة ثامنة تضاف إلى رحلات السندباد السبع، في مغامرة قل نظيرها في الشرق.
وما تزال سفينة "صحار" إحدى أعلام مدينة مسقط، والراسية في دوار البستان، تحكي أسرار تلك الرحلة المثيرة في أعماق البحار بسفينة بدائية الصنع، وأيدي عمانية تجدد سيرة الأجداد، وقبطان مغامر عاشق للأساطير.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه