شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
جواري قصور مصر في بداية القرن الـ20... عالم لا يشبه ألف ليلة وليلة

جواري قصور مصر في بداية القرن الـ20... عالم لا يشبه ألف ليلة وليلة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 4 أكتوبر 201711:18 ص

عام 1905، قادت المصادفة الخديوي عباس حلمي الثاني للتعرف على سيدة مجرية الأصل هي ماري دي توروك في باريس، فصادقها وجاء بها إلى مصر واتخذها عشيقة له، ومنحها سراي مسطرد (شرق القاهرة) لتقيم بها


في تلك السنة، كان قد مرّ 13 عاماً على تولي عباس حلمي الثاني حكم مصر خلفاً لأبيه الخديوي توفيق المتوفي سنة 1892. وقتها كان عباس في الثامنة عشرة من عمره وتم استدعاؤه للإمساك بمقاليد السلطة من النمسا، حيث كان يدرس في الأكاديمية العسكرية التريزية Theresian Military Academy التي كان يرتادها أبناء الملوك والأمراء. بعد قليل من مجيئها إلى مصر اعتنقت توروك الإسلام، وغيرت اسمها إلى جويدان بنت عبد الله، وتزوجها الخديوي عام 1910 رغم اعتراض أصدقائه، وعلى رأسهم سعد زغلول الذي وصفها بأنها غانية تتردد على بيوت العاهرات، بحسب "مذكرات سعد زغلول" التي كتبها الدكتور عبد العظيم رمضان. انتهى الزواج بالانفصال عام 1913، بعدما ووجه الخديوي بعاصفة من الاعتراضات سواء من داخل القصر أو من الصحف المصرية وعلى رأسها جريدة "العلم" لسان حال الحزب الوطني، برئاسة محمد فريد. وخلال الفترة التي قضتها جويدان في مصر، استطاعت تكوين انطباعات عن مجتمع السادة وعاداتهم وتقاليدهم بحكم تنقلها بين القصور وبيوت الأثرياء، وضمنت مشاهداتها في مذكراتها التي حملت اسم "مذكرات الأميرة جويدان"، وكان أكثر ما لفت انتباهها الجواري والحريم.


خيال وواقع

كأوروبية، حاولت جويدان تفنيد الصورة الذهنية الخاطئة القابعة في عقول الأوروبيين حول الجواري في بلاد الشرق. كتبت: "لا يكاد الرجال، وعلى الأخص الأوروبيون، يسمعون كلمة الحريم، حتى ينصرف خيالهم إلى الرقص والغناء، أو بركة من الماء المعطر تلتف حولها العذارى والفتيات يسبحن ويرقصن ويغنين".


صورة استشراقية للمصور ما رأته جويدان في مصر ليس فيه شيء من هذا الخيال، فالجواري فيها فتيات يلبسن ملابس نظيفة، ولكنها غير مثيرة. وحسبما ذكرت، فإن "الحريم بكليته تسيطر عليه امرأة، وهي زوجة السيد أو أمه أو رئيسة الجواري، وفي كل هذه الحالات تحرص صاحبة السلطان على ألا تبدو الجارية أمام سيدها جميلة، فالزوجة تفعل ذلك بدافع الغيرة، والأم حرصاً على ألا يتزوج ابنها جارية، ورئيسة الجواري طمعاً في أن تصبح هي السيدة". وعلى هذا، فالجواري في مصر لسن أداة للتمتع واللهو، وإنما هن خادمات، وإن كنّ أقل من الخادمات حقوقاً. هن لا يتناولن أجراً على خدمتهن، ولا يستطعن مغادرة بيت المخدوم إلى بيت سواه.

خلال فترة قضتها في مصر، تعرفت الأميرة جويدان على عادات مجتمع السادة والجواري وحكت عنها في مذكراتها
يبيح الدين للرجل مخالطة جواريه وينص على أن ابن الجارية مثل ابن السيدة ولكن من ذا الذي يتبع تعاليم الدين؟

وظائف وأدوار

ارتبط عدد الجواري في البيوت بمكانة أصحابها في المجتمع المصري. "كلما علا شأن البيوت زاد عدد الجواري فيها، لأن التقاليد في الحريم المصري تقضي بألا تقوم السيدة بعمل ما ولو كان في متناول يدها. تقديم القهوة له نظام خاص، وحمل الملابس له نظام خاص، وتقديم كأس من الماء له نظام خاص أيضاً، ولهذا قد يرى الإنسان كثيراً من الجواري منهمكات ولا يرى عملاً يؤدّى". ومن نوع وظائفهنّ، حازت الجواري ألقاباً تحدد أدوارهن، فكانت وظيفة "سفرجي كالفة" الخدمة على مائدة الطعام فقط، و"قهوة كالفة" تقدم القهوة، بينما تقوم "شمورجي كالفة" بتحضير ملابس السيد، وينحصر عملها بين الحمام وغرفة الزينة وغرفة النوم.

خطر محدق

ولأن وظائف الجواري كانت تتيح لهن الاحتكاك بالبك أو الباشا، فإن السيدة "هانم أفندي" كانت ترى فيهن الخطر، ولكي تأمن شرهن كانت تغرقهن بالهدايا لتكسب مودتهن، أو تنزل عليهن سخطها لتجعلهن حذرات من غضبها. غير أن النتيجة في كلتا الحالتين لم تكن مضمونة. "لهذا كانت بعض السيدات مهتمات بخدمة أزواجهنّ بأنفسهنّ، إما بدافع الحب أو بدافع الحذر خصوصاً إذا كانت هذه السيدة أصلها جارية ثم أصبحت هانم أفندي"، فهؤلاء لديهنّ خبرة في إبعاد الجواري عن أزواجهنّ.

الباشا والجارية

كان البك أو الباشا رمزاً للسيادة داخل قصره فقط، بمعنى أنه لم يكن يعرف شيئاً مما يحدث داخل الحريم ولا يهتم بمعرفته. "إذا دخل البيت يلقاه الجميع بالخضوع وابتسامة لا تفارق الثغور، والويل لمَن تتقدم إليه بشكاية فإن هذا يعكر مزاجه، فما وُجد الحريم إلا ليدخل على نفسه السرور، فضلاً عن أنه لا يستطيع أن ينفع الجارية بشيء إذا شكت إليه، وربما جلب ذلك لها آلاماً جديدة"، روت جويدان. وبحسب جويدان، "يبيح الدين للرجل أن يخالط جواريه، وينص على أن ابن الجارية لا يقل عن ابن السيدة في شيء، ولكن مَن ذا الذي يتبع تعاليم الدين؟" فالسيد يقضي ساعة لهوه وينتهي، بينما تظل الجارية حبيسة الخوف من مراقبة العيون، ولا تستطيع أن تبوح بسرها لأحد.

"لا يكاد الرجال، وعلى الأخص الأوروبيون، يسمعون كلمة الحريم، حتى ينصرف خيالهم إلى الرقص والغناء، أو بركة من الماء المعطر تلتف حولها العذارى والفتيات يسبحن ويرقصن ويغنين"... كم هم مخطؤون

لا تستطيع الجارية حتى أن تبوح بسرها لجارية مثلها. والجواري يدعين بعضهن بـ"همشريم" أي أختي، وهن فعلاً أخوات في الشقاء والحرمان، ولكنهن أيضاً أخوات في الأمل والطموح والضعف، وربما باحت إحداهن بسر أختها تحت تأثير الخوف ليس إلا. وقد تبوح الجارية بسرها إلى أحد الأغوات، فقد تجد منه تعاطفاً أو تسمع منه كلمة تهوّن عليها ما بها، ولكنهن في النهاية جبانات لا يستطعن شيئاً. "وهكذا تظل المسكينة فريسة الخوف وهي تعلم أن سرها سيفتضح يوماً ما، وأنها إن استطاعت أن تحبس لسانها فإن جسمها سينم عنها". وقد تفكر الجارية في أن تخبر سيدها بالأمر، ولكن كيف ذلك ولا تجمعها به إلا الطاعة العمياء، ثم هي تقوم على خدمته كل يوم فلا يلتفت إليها بعد تلك الليلة، بل قد يأخذ منها الملابس دون أن يلحظ أنها هي التي قضى معها ساعة لهوه منذ أسابيع أو شهور. وحتى إذا أخبرته، فسيحيل أمرها إلى هانم أفندي لاتخاذ ما يلزم. "والهانم لها أولاد ولا يعجبها طبعاً أن يكون هناك أولاد من غيرها يشاركون أولادها في الاسم والجاه والميراث". هنا ينصب على الجارية غضب الهانم مزدوجاً، مرة بصفتها زوجة، وأخرى بصفتها أماً. "وإذا أراد السيد ألا يحيل الأمر إلى زوجته، وفضل أن يخبر رئيسة الجواري لتدبر الأمر، فإن النتيجة لن تكون خيراً من الأولى، لأن الرئيسة تكون دائماً في صف الهانم، وقد لا تخبر سيدتها بشيء ولكنها تأمر بأن تعفى الجارية من العمل وتلزم غرفتها، لا للراحة ولكن لتذوق العذاب". وروت جويدان قصة جارية حبستها سيدتها في الغرفة وأمرتها بأن تحيك "ناموسية" (غطاء كبير من القماش الخفيف يوضع على أعمدة السرير من أعلى لمنع الذباب والبعوض من إزعاج النائم)، فكانت كلما حاكت جزءاً قطعته السيدة بحجة أنه خطأ، وترشد الجارية إلى الصواب، ويكون ذلك مصحوباً باللكمات والقرصات، فإذا جاء اليوم الثاني وفعلت الجارية حسب الإرشاد اكتشفت السيدة خطأ جديداً، وفعلت بها فعلة اليوم السابق.

الخرافة والسحر

تؤمن هوانم القصور جميعاً بالخرافات ويعتقدن في السحر لطرد حب الجواري من قلوب أزواجهن، بحسب جويدان. ومنهن مَن تأتي بعظام الحيوانات فتقرأ عليها التعاويذ وتبخرها، ثم تضعها تحت رأس زوجها لكي تطرد من قلبه حب جارية ما. ولا تدّخر الواحدة منهن مالاً في سبيل الحصول على شراب الحب. "يجهزه بعض المشايخ، ويقرأون عليه عزائم وتعاويذ، فإذا شرب منه الزوج أحب زوجته إلى حد الجنون، وإذا أخفق فعل السحر فلا ينسب ذلك إلى كونه دجلاً لا طائل تحته، وإنما يُقال إن الهانم لم تستعمل السحر حسب الشروط المطلوبة".

طب التجارب

لم يكن مسموحاً للطبيب بالكشف على الحريم. "كان مرضى الحريم يداوين بطب التجارب (وصفات علاجية معتادة)، فإذا استعصى الداء واشتد الخطر جاءوا بالطبيب ولكن لا يسمحون له برؤية المريضة شخصياً والكشف عليها، بل يتولى أحد الأغوات توصيل الكلام بين العليلة والطبيب، فيصف للطبيب أوجاع المريضة وما تحس به، وهذا يصف العلاج اللازم". عادةً لم يكن العلاج يأت بنتيجة، وفي هذه الحالة يعتبر أنصار الفكر القديم ذلك انتصاراً لهم ويتخذونه ذريعة للطعن في الطب والأطباء، وإذا حدث وشفي المريض فإن ذلك لا ينسب إلى مهارة الطبيب ولكن إلى تعويذة الشيخ أو إلى وصفة ما لإحدى السيدات. وبالتدريج سمح للطبيب بعيادة المريضة شخصياً بشرط ألا يرى وجهها، فكانت تُحجب ولا تكشف إلا عن موضع الألم، ويكون رئيس الأغوات حاضراً ساعة الكشف.

الأطفال والضرة

لم تكن سيدات القصر يفهمن الأمومة على حقيقتها. اتخذن الأولاد وسيلة لتوطيد مركزهن ودرء الخطر عنهن من طلاق عاجل أو زواج بأخرى، بحسب جويدان. "وإذا حدث أن تزوج الزوج بأخرى فإن الأم تصب غضبها عليهم لأنهم لم يستطيعوا درء الخطر، فتحرمهم من اللعب والفسحة وتهمل شأنهم، وتقسو عليهم، وكأنها نسيت أنها تعذّبت في حملهم شهوراً". غير أن البلوى قد تهون إذا كانت الضرة في داخل الحريم، فإن فرصة استرداد الزوج تكون كبيرة عبر التحبب إليه وذكر مساوئ الزوجة الأخرى. ولكن إذا كانت المنافسة إفرنجية يقابلها الزوج خارج المنزل وتحول جدران الحريم دون وصول الزوجة إليها، فإن الزوجة تبقى مكتوفة اليدين أمام عدوة لا تراها ولا تستطيع الوصول إليها.  



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard