في طفولتي، اختبرت أشكالاً غريبةً وكثيرةً، لما يمكن تسميته بالفوبيا. كنت أخاف من قدمي، ومن أكياس القمامة، ومن النوافذ ليلاً، إلا أن كل هذا لم يكن سوى خيالات طفولية بريئة. اليوم، أسترجع مفهوم الفوبيا بطريقة أكثر عمليةً وواقعيةً. البارحة، اكتشفت أن لدي فوبيا (رهُاب) من الموز.
جالساً ألعب دور المحلل النفسي، وأسترجع الأحداث القديمة والجديدة في حياتي، تذكرت صدماتي والتروما التي أصابتني حينما وصل سعر صرف الدولار في سوريا إلى 4،500 ليرة سورية، وأتذكر صدمتي الأكبر، ودخولي في حالة إنكار، حينما سمعت أن كيلو الموز أصبح بعشرين ألفاً. لم أكن أصدق، وصرت أسترجع كيف اعتدنا شراءه بثلاثمئة ليرة فقط، كما صرت أستذكر كيف كان منزلنا لا يخلو من كوكتيل الموز والحليب، وكيف كنت وأخوتي الثلاثة، يأخذ كل واحد منا، موزةً معه إلى مدرسته، وأستذكر "أيام العز".
الآن، وعلى الرغم من كون سعر الكيلو قد انخفض إلى خمسة آلاف فقط، فإن منزلنا يفتقد تلك الفاكهة الصفراء منذ أشهر.
لم أكن أصدق، وصرت أسترجع كيف اعتدنا شراءه بثلاثمئة ليرة فقط، كما صرت أستذكر كيف كان منزلنا لا يخلو من كوكتيل الموز والحليب، وكيف كنت وأخوتي الثلاثة، يأخذ كل واحد منا، موزةً معه إلى مدرسته، وأستذكر "أيام العز"
حتى البارحة، حين دخل ضيوف أبي وبيدهم كيس موز، فرحت بشكل مثير للضحك، وتناولت واحدةً بسعادة، وعدت إلى دراستي، إلا أن حرارة الحنين كانت تقودني دوماً إلى المطبخ. تقودني بلا وعي لأحدق في تلك القرون الصفراء قليلاً، ثم أتابع دراستي. كانت الرغبة في داخلي ملحةً لآكل موزةً أخرى، إلا أن صوتاً آخر استمر في منعي. أحدّق فحسب، ولا أجرؤ على اللمس.
أنا مصاب بفوبيا الموز، وأظن أن صدمتي لدى معرفة سعره حينها، قادتني لأخشى فاكهةً لا حول لها ولا قوة، وأظن أن التناقض الذي يثقل الذاكرة بين أيام ما قبل الحرب، وهذه الأيام، يجعلني أخشى كثيراً من الأشياء. الحرب لم تحرمنا من بعض الأشياء فحسب، بل حرمتنا من القدرة على الاستمتاع أو الحب.
أصبحنا في حالة خوف دائمة؛ نخاف من الأشياء الموجودة قبل الأشياء المفقودة، ونخاف من أن نفقد ما بين أيدينا، كما فقدت آلاف الأمهات أبناءهن. نتمسك بالأشياء كثيراً، ونخاف حتى من الفرح، فلا يوجد هناء حقيقي في بلادٍ حطمتها الحرب، ولا يوجد حب ولا حرية. يوجد الخوف فحسب.
"فوبيا الموز" ليس مصطلحاً مجازياً اخترعته فحسب، إنما هو أشياء كثيرة، كلها تعود وترتبط بالحرب، فهي أيضاً فوبيا الكهرباء في بلاد الغربة.
لطالما سمعنا عن الحب والكفاح، وعن رسائل الحب والحرب، وعن الشاعرية المرافقة للكثير من الأحداث المأساوية، وعن عبارات المقاومة ومحاولات إيجاد السعادة وسط الحصار والألم، إلا أن كل ذلك في الحقيقة ما هو إلا عبارات لها مفعول المهدئ الذي يزداد تأثيره كلما انغمس الإنسان في الأسى والذل أكثر. إني لا أؤمن بهذا كله، فكيف للبذرة العقيمة أن تصبح ثمرة؟ وكيف للحب والفرح أن يولدا تحت القذائف والوحل والفقر؟
"فوبيا الموز" ليس مصطلحاً مجازياً اخترعته فحسب، إنما هو أشياء كثيرة، كلها تعود وترتبط بالحرب، فهي أيضاً فوبيا الكهرباء في بلاد الغربة، إذ يحدثني أصدقائي المسافرون إلى الخارج، أن الأشهر الأولى لهم هناك كانت غريبةً. كانت الأضواء تخيفهم بشكل غريب، ولم يدركوا السبب، إلا أنهم لم يكونوا قد اعتادوا على الضوء دائماً فحسب، بعدما غادروا بلاداً تتآكلها العتمة، كما أني أخاف الضوء أحياناً حينما تأتي الكهرباء لساعة أخرى إضافية. أستهجن الموضوع، وأشكك فيه، ولا أتقبله بسهولة.
إني أخشى أشياءً كثيرةً هنا، لكني أخشى الحرب أولاً، وقبل كل شيء. زيادةً على كل ذلك، وجدت العديد من الدراسات تفيد بأن صدمة الحرب تؤدي إلى عواقب طويلة الأمد على نفسية الأطفال والفتيان. فكلما طالت فترة الصراع، ازدادت حدة الأعراض، وفقاً لمنظمة الصحة العالمية، التي دعت إلى حماية الأطفال في النزاعات المسلحة، و10% من الأشخاص الذين يتعرضون لأحداث صادمة، سيصابون لاحقاً بأعراض الصدمة النفسية، بينما يعاني 10% آخرون من تغيرات في السلوك تمنعهم من أداء وظائفهم اليومية في الحياة. فما بالك بنا نحن السوريين، نعيش في حرب تجعلنا نُصدم بأبسط أشكال الحياة، ونحلم بحقوق بسيطة. شعب لا يحلم إلا بحياة كالحياة، كما قال درويش.
أنا مصاب بفوبيا الموز، وأظن أن صدمتي لدى معرفة سعره حينها، قادتني لأخشى فاكهةً لا حول لها ولا قوة، وأظن أن التناقض الذي يثقل الذاكرة بين أيام ما قبل الحرب، وهذه الأيام، يجعلني أخشى كثيراً من الأشياء. الحرب لم تحرمنا من بعض الأشياء فحسب، بل حرمتنا من القدرة على الاستمتاع أو الحب
أحاول أن أعالج نفسي من مخاوفي هذه كلها، وأن أقنعها بأن الحياة قصيرة في بلاد كهذه، ولا أقول لها هذا مبالغةً، بل إنني أعني هذا حرفياً، وأقنع نفسي بأنه لا شيء لتخسره، إن التقطت موزةً أخرى. لا شرطة ستداهم المنزل، ولا أصوات الانفجارات البعيدة ستقترب، ولن تندلع حرب ما أخرى. أخبر نفسي بأن تستزيد من كل شيء، فقد تمر أشهر أخرى قبل فرصة لقاءٍ آخر. أخبر نفسي بأنها في حالة خطر، وأنها في سباق دائم. أقنعها بأني إن لم آكل الموزة هنا، والآن، سيأخذها أحد من إخوتي، كما أخذ رجل مني ربطة الخبز على طابور الانتظار، من دون أن أحرك ساكناً لأني أصغر من أن أفتح فمي. كلنا هنا أصغر من أن نفتح أفواهنا. كلنا هنا في الأسفل متساوون في الهزيمة. أقنع نفسي بأني سوف أكون المنتصر إن أكلتها، ولو أن انتصاري في منزلي وبين إخوتي فحسب.
الحرب تغيّر نفسياتنا، وتسلب منا الكثير من مبادئنا، وتعيد برمجتنا آلاتٍ، كي نخدم شيئاً ما حالكاً. كنت أشكك في كل هذا حتى هذه الأيام، إذ بدأت أفهم حقاً أننا كلنا هنا نحتاج إلى معالج نفسي من نوع ما. حتى المعالج نفسه يحتاج إلى معالج. لم يسلم أحد.
وفي خضم هذا النقاش المحتدم مع عقلي، يبدو أنني نجحت في أن أعالج نفسي، وها أنا أكتب نصّي هذا، وأنا آكل تلك الفاكهة الصفراء، محاولاً أن أطفئ عجلة أفكاري، لأعود بعدها إلى الواقع.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...