شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
عن دمشق المعتمة

عن دمشق المعتمة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 6 أغسطس 202101:56 م
على ضوء خافت منبعث من الموبايل، أقرأ رواية "تلك العتمة الباهرة"، للطاهر بن جلون. الطقس حار جداً، والكهرباء مقطوعة منذ فترة طويلة، ربما لا يبدو الوقت ملائماً للقراءة في أدب السجون. لكن العوالم التي يخلقها بن جلون، المتخبطة بين العتمة والنور، على لسان السجين "عزيز"، الذي وجد نفسه متورطاً في محاولة انقلاب فاشلة، تسوقنا معه إلى عتمته التي استمرت ثمانية عشرة سنة في زنزانة تشبه القبر، في سجن "تازمامارت"، في المغرب.

مع الغوص أكثر في تفاصيل انتزاع المرء من الحياة، والعيش على هامش الموت، التي يمر بها السجناء الذين تركوا حياتهم عند الجهة الأخرى من السور المزدوج الذي يطوق زنزانتهم، تصبح قراءة الرواية مرهقة للغاية. يتذكر "عزيز" حياته السابقة، ويحن إلى الأمور التي لم يشعر بعظمتها حتى فقدها، "إنّ أكثر الأمور الاعتيادية، تصبح في المحن العصيبة، غير اعتيادية، لا بل أكثر ما يُرغب فيه من أمور الدنيا". أخرج إلى الشرفة لاستنشاق القليل من الهواء، وأتساءل: ما الأمور الاعتيادية الآن؟ النسيم الذي يجعل شعري يتطاير، والسيارات المسرعة التي تضيء الشارع المعتم، والموسيقى المنبعثة من الجوار، ورائحة نبتة الريحان المبللة بالماء، والنجوم المضيئة في السماء، والأفق الممتد حيث لا جدران. حتى انقطاع الكهرباء أضحى أمراً اعتيادياً. أعود بذاكرتي شهرين إلى الوراء. المكان، مسرح الحمراء في دمشق. عرض مقتبس من مسرحية إسبانية عرضت للمرة الأولى في منتصف القرن العشرين. الجمهور ملزم بالتباعد الاجتماعي، والطقس بارد. تتجه الممثلة إلى منتصف المسرح، يتبعها زميلها. هما وحيدان على الخشبة الآن. تستهل الممثلة مونولوجاً درامياً طويلاً، يبدو ذروة العرض. تتعالى الموسيقى في الخلفية. وفجأة، تعتيم تام. انقطعت الكهرباء. نعود إلى أيام مسرح شكسبير، ولكن من دون شموع. يعتلي المخرج الخشبة، ويطلب منا الانتظار قليلاً. تعود الكهرباء في المسرح تلك اللحظة، لكنها لا تزال مقطوعة الليلة.

العروس برفقة عريسها، وبفستانها الأبيض في ظلام الشارع. يصعدان الدرج بحذر على ضوء الموبايل الخافت. بالتأكيد لم تكن هذه صورتهما المتخيلة، عن ليلتهما الأولى 

مع إغلاق المحال التجارية، تزداد العتمة، ويعم الصمت الذي لا يقطعه سوى هدير مولد قادم من بعيد. صمت مخيف، لكنه لا يشبه أنماط الصمت التي اعتادها راوينا، في حفرته تحت الأرض: "صمت الليل كان ضرورياً لنا، صمت الرفيق الذي يغادرنا ببطء، الصمت الذي نلزمه شارة حداد، صمت الدم الذي يجري متباطئاً، الصمت الذي ينبئنا بوجهة سير العقارب، صمت الصور التي تلح وتلح على أذهاننا، صمت الحراس الذي يعني الكلل والروتين، صمت ظل الذكريات المحترقة، صمت السماء الداكنة التي لا تهدينا ولو علامة واحدة، صمت الغياب، غياب الحياة الباهر".

تقطع الصمت أصوات زمامير قوية. يخرج معظم الجيران إلى الشرفات، بحثاً عن شيء يكسر رتابة الليالي الحارة بلا كهرباء. تتوقف سيارة مزينة أمام المبنى المقابل. يترجل منها عريسان جديدان. تسير العروس برفقة عريسها، وبفستانها الأبيض في ظلام الشارع. يصعدان الدرج بحذر على ضوء الموبايل الخافت. بالتأكيد لم تكن هذه صورتهما المتخيلة، عن ليلتهما الأولى، بينما تتعالى أصوات الغناء من سهرة بدأت للتو على سطح أحد الفنادق الفخمة. يبدو السهر فعلاً قسرياً للجالسين في منازلهم، حيث لا أمل بالنوم في الليالي الحارة، وحيث يسهر الجميع بالقرب من النوافذ، أو على الشرفات، بحثاً عن نسمة هواء، أو رائحة برودة تعينهم على تحمل ليلتهم المنهكة بلا كهرباء. ومع فقدان الأمل بعودتها هذه الليلة، يبدأ ضجيج الجيران بالخفوت. أطفئت مصابيح "الليد" على الشرفات. انتهت الأحاديث لهذا اليوم. أدخل معظم الناس أغراضهم، ليبقى بعض الوحيدين مع سجائرهم، ينفثون رمادها على الشارع.

ربما يكون انعدام الكهرباء أقل أنواع العتمة وطأةً، وأخفها على الروح. لا تشبه عتمتنا، العتمة التي قرأت عنها الليلة. عتمة من سُلبت منهم حياتهم، ودُفنوا أحياء في جحيمهم تحت الأرض 

يوشك الليل على نهايته. تنبعث من بعض الشرفات أضواء خافتة لبعض من بقي ساهراً مع هاتفه. تضيء شاشة هاتفي كلمات "رودي فرانسيسكو" المنشورة في إحدى صفحات "فيسبوك": "كل ساعة هي ساعة سعيدة، طالما أنني فوق الأرض، لا تحتها، وربما يكون هذا سبباً جيداً بما يكفي للابتسام، ومغادرة السرير".

ربما يكون انعدام الكهرباء أقل أنواع العتمة وطأةً، وأخفها على الروح. لا تشبه عتمتنا، العتمة التي قرأت عنها الليلة. عتمة من سُلبت منهم حياتهم، ودُفنوا أحياء في جحيمهم تحت الأرض. تتردد في ذهني كلمات بطل الرواية عن الخوف، وعن الألم والندم، والانتظار والتذكر، وعن اشتهائه متع الحياة البسيطة التي يفتقدها في سجنه، والمياه الساخنة، ورغوة الصابون، ورائحة القهوة الصباحية، والخبز المحمص، وصياح الأولاد في ملعب المدرسة، ورائحة والدته، ورائحة العطر، والسماء والشمس. لا زلنا فوق الأرض، نتنفس الهواء. وبعد قليل ستبزغ الشمس، وستفوح رائحة القهوة. هي فرصة متجددة كل صباح، لاختبار الحياة مرة أخرى، على الرغم من الحر، والظروف السيئة، والليالي المتعبة العصية على النوم. لذا، وعلى الرغم من كل شيء، ربما علينا الامتنان، والاحتفاء بالحياة قليلاً، على الرغم من العتمة.

ملاحظة: أنهيت قراءة الرواية مع بزوغ النور، ولم تأتِ الكهرباء.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image