شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
في بيروت المدينة المنكوبة... سيدة تقارع الموت بالجنون

في بيروت المدينة المنكوبة... سيدة تقارع الموت بالجنون

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الخميس 27 يناير 202201:27 م

خلف باب المنزل، أُخفي انكساري خلف عينيّ، وأرسم ضحكةً على مبسمي، وأقرع الجرس. لا أريد لناي وإيان أن يعثرا على ما يدلّهم على خيباتي. يقول الأخصائيون النفسيون والتربويون إن علينا أن نسعى إلى تأمين أجواء من السعادة حتى ننجح في تربية أطفال أصحاء نفسياً.

حسناً. أبذل قصارى جهدي، فهما يستحقان المحاولة. لم يأتيا إلى هذه الحياة بخيارات شخصية. الإنجاب كان خياري، لكن الحياة كانت أفضل، يوم اتخذت ذلك القرار. كانت حياةً! كان الحب يغمرني ويوسّع مدى أحلامي. كانت السماء حدودي. سرعان ما اندثرت تلك الأحلام بسرعة الخيبات التي راكمها جيلنا. عاندتُ الانكسار وقلت إن السقوط في الخيبة رفاهة لا أملكها. فمن بقي في هذه البلاد التي باتت أشبه بمقبرة مفتوحة، هو من فشل في الهروب. لا بأس، نبقى هنا.

الإنجاب كان خياري، لكن الحياة كانت أفضل، يوم اتخذت ذلك القرار. كانت حياةً! كان الحب يغمرني ويوسّع مدى أحلامي.

ننهي مراسم دفن أحلامنا، ونجتهد في البحث عن حياة ما في مكان ما في هذه البقعة التي يتسع بؤسها كلّ يوم. قررت أن أصنع لناي وإيان فقاعةً مصفحةً أعزلهما بها عن الخارج. ساعدتني الظروف التي رافقت ظهور كورونا وإجراءات الإقفال والحجر الذاتي. سريعاً مرّت الأشهر، وبات لزاماً الخروج إلى الواقع كما هو. الواقع البائس الذي نكابر ونجتهد في تجميله كل يوم.

كنت أمام استحقاق اختيار أفضل مكان للأطفال، كي يكون حضانةً يمضيان فيها أشهراً قليلةً قبل الانتقال إلى المدرسة. بدا القرار صعباً ومربكاً. لا شيء يضاهي لحظات الانفصال الأولى. لذا كان البحث عن دور الحضانة الأفضل من أصعب التحديات. جربنا ثلاثة! جميعها كُتبت لها نهايات دراماتيكية. بقيت دار واحدة أمامي. استهلكت الخيارات المتاحة. لم يحتاجا إلى أكثر من أسبوع حتى اعتادا على المكان وأهله! أي سحر هذا؟ أحضان وأذرع مفتوحة طوال اليوم. رقص وموسيقى متواصلان، وكأن المكان مخصص لحفلات لا تنتهي.

تتعارض الأجواء بين الداخل والخارج؛ فرح كثير في الداخل، وموت كبير في الخارج. أي قدرة تلك التي تحتمل هذا التناقض. أودّعهما صباحاً وفي قلبي غصة كبيرة. ليس لفراقهما فحسب، بل بسبب رغبة دفينة بالانتماء إلى هذا المكان. أود فعلاً لو أملك ما يكفي من الجرأة لإعلان الطلاق من مهنتي، والاختباء في هذه المساحة. أحببتهم، أنا أيضاً، فرداً فرداً.

في قلب الفقاعة، تسير سيدة خلف جنونها، وتجرّ معها الفقاعة بمن فيها. قد تكون على عتبة الخمسين من عمرها، لكنها تبدو كمراهق يسرق سيارة والده ويخرج مع رفاقه في رحلة عمر تحفر الذاكرة بتفاصيلها.

في قلب الفقاعة، تسير سيدة خلف جنونها، وتجرّ معها الفقاعة بمن فيها. قد تكون على عتبة الخمسين من عمرها، لكنها تبدو كمراهق يسرق سيارة والده ويخرج مع رفاقه في رحلة عمر تحفر الذاكرة بتفاصيلها. تراها تراقص صوصاً حيناً، وتتسلق ألعاب الأطفال لتنزلق عبرها، وتأكل قطعة حلوى بفمها من دون أن تستخدم يديها! مجنونة إلى حدود ندر أن رأيناها مؤخراً. تلتقط هاتفها وتطارد ضحكات الأطفال، وأهلهم. البريق لا يغادر عينيها. اسمها لميس، وتعرّف بنفسها على صفحتها باسم "أفكار لميس" (Lamices Ideas). تعرف نقاط قوتها. قوتها في أفكار لا تنضب، وشغف لا ينطفئ.

كثيرون يرون ضحكة الأطفال أمراً عادياً. لكنها تجد فيها تحدياً لا ينتهي. تريد أن تصنع السعادة لهؤلاء. تعدّ فكرةً أو مفاجأةً لتُبهر الجميع. تنجح خطتها، وتخطف عيون الأطفال، وتأسر قلوب ذويهم. لكنها بعد ذلك، تعود إلى المربع الأول لتبحث عما يُبهر أكثر، ويجلب المزيد من الفرح في حياة تعلّمهم كيف يلوّنونها بأصابعهم الصغيرة، تماماً كما فعلوا في الواجهة الزجاجية، للمبنى الكبير والأنيق، الذي يرتفع في منطقة السوديكو. المنطقة التي كانت يوماً ما خط تماس اختزن الكثير من ذكريات الحرب والموت الطويلَين.

لا تترك لميس لفريق عملها أن يلتقط أنفاسه. مهمتهم ليست التقاط البسمات فحسب. بل صنعها. لا تعرف، ربما، أن أثر أفكارها يتمدد إلى خارج دار الأطفال التي تحلم بأن تصبح، يوماً ما، مدرسةً

ربما تقصدت لميس جوجو، اختيار المنطقة لتؤكد، بوعي أو من دونه، أن الحياة تبقى أقوى من الموت. هي لا تهدأ. لا تترك لفريق عملها أن يلتقط أنفاسه. مهمتهم ليست التقاط البسمات فحسب. بل صنعها. لا تعرف، ربما، أن أثر أفكارها يتمدد إلى خارج دار الأطفال التي تحلم بأن تصبح، يوماً ما، مدرسةً، كما تقول. يسمونه فقاعة السعادة، أو bubble of happiness.

يبدو الاسم بسيطاً. لكن من يعرف كيف يعيش حياةً هانئةً، يعرف أن السعادة ليست قدراً، إنما صناعة تتطلب مهاراتٍ كثيرةً. ومن يراقب حيوية لميس يعرف أن هذه المهارة هي التي تحرّكها وفريق عملها الذي يشاركها الاندفاع نفسه نحو الجنون. أراقبهم عن كثب إذ أشعر بأنهم لا ينتمون إلى المكان والزمان هذين. ففي اللحظة التي رثى فيها كثيرون بيروت، المدينة القتيلة التي جُرّدت من روحها وألوانها، وسكنتها أشباح مثلنا يعيشون انكساراتهم اليومية، أضاءت لميس والعاملون معها سماء المدينة المنكوبة بضحكات العشرات من الأطفال، تبعتها ضحكات ذويهم والعابرين قريباً منهم.

قطعت الطرق جزئياً، واستقدمت قطاراً حمل الأطفال وأهلهم وسانتا في جولات صغيرة في شوارع بيروت. خرج من حافلات القطار الأحمر معلّمون ومعلّمات تنكروا بثياب العيد، وغنّوا ورقصوا وملأوا الشوارع طيفاً من السعادة. مشهد كان من الممكن أن يكون طبيعياً جداً في ظروف عادية جداً. لكننا لا نعيش في أي شيء يمت إلى الطبيعي بصلة. حتى في أيام "الوهم" الذي كان يُغرق بيروت قبل أزمتنا الراهنة والباقية، قطار أفكارها وأفكارهم لا يُشبه كل ما مرّ في هذه الشوارع، حين كان فيها القليل من الحياة.


لميس و"أفكارها"

توقفت السيارات على جوانب الطرق، وخرج سائقوها والركاب ليرقصوا على صوت الأغاني الميلادية، ويلتقطوا الصور، وكأن الحدث عجيبة قد لا تتكرر. ليس المشهد عجيباً. هو جريء، أو ربما فيه تحدٍّ كبير رافض للموت. حياة تدب في شوارع بيروت. حياة افتقدوا أثرها في كل أنحاء تلك المدينة.

تكمن قوّة لميس في إبداعها وجرأتها، وفي طفولة ترفض أن تغادرها. هي تعرف أن المجتمعات المهزومة لا يمكن أن تقوم مرةً جديدةً إلا بأجيال حالمة، والأحلام تحتاج إلى خيالات تكسر الخيبات إن تعاقبت.

ترفض لميس الانكسار أو الاستسلام. هي التي درست علم نفس الأطفال. تقول إنها تدرك جيداً أي أثر للإحباط والأزمات على الوضع النفسي لأطفال لا ذنب لهم في الحياة سوى أنهم يستحقون أياماً أفضل. تبحث لميس عن هذا الأفضل ليل نهار. فأن تصنع الضحكات وتملأ بها المكان، لهو تحدٍّ يومي تقول لميس التي لا تخشى الفشل، وهي التي لا تدري من أين تأتي بكل هذه القوة لتقود عكس التيار، عكس الموت، نحو حياة حلوة يستحقونها.

قوتها في إبداعها وجرأتها، وفي طفولة ترفض أن تغادرها. لا شك هي تعرف أن المجتمعات المهزومة لا يمكن أن تقوم مرةً جديدةً إلا بأجيال حالمة، والأحلام تحتاج إلى خيالات تكسرها الخيبات إن تعاقبت. لذلك تصنع لهم فقاعة السعادة على طريقتها. تؤمن بأن "الطفل يأكل ويشرب وينام ويتعلم ويكبر بشكل طبيعي إن كان سعيداً". لكن من أين نأتي يا لميس بهذه السعادة لأطفالنا، وقد دفنّا طموحاتنا، وتقزمت أحلامنا لمستقبلهم وسنوات كبرنا؟

قبل العثور على الجواب، يمرّ وئام، الذي اختارته لميس أن يكون "مسؤول الفرح" في أفكارها، يمدّ الأطفال بابتسامة لم نعد نُدرك كيف نرسمها، نحن الأهل، في هذا البلد.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image