نتشدّق دوماً بعبارات رنانة عن الفن الذي يغيّر العالم ويجعلنا أشخاصاً أفضل، لكن تبقى تلك مبادئ قلّما تتحقق بشكل فعلي على أرض الواقع وتترك أثراً ملموساً، وإحدى هذه التجارب القليلة ما قدّمته المخرجة السينمائية والمعالجة بالدراما، زينة دكاش، في ثلاثة أفلام سينمائية وأعمال مسرحية عديدة، وبها استطاعت تغيير بعض القوانين اللبنانية بالفعل.
اختارت زينة دكاش لنفسها نهجاً مختلفاً، فلا تدافع في أعمالها الفنية عن فئات مستضعفة في عيون الجميع تستحق الشفقة، فلم تختر الدفاع عن اللاجئين أو الأيتام أو مصابي الحروب، وهم فئات بالفعل مستضعفة في وطنها، بل اختارت مناصرة فئة منبوذة من المجتمع أو على الأقل اختار نسيانها.
12 مسجون غاضب
يسهل أن تناصر مريضاً أو ضعيفاً أو طفلاً، لكن لا يوجد أصعب من الوقوف بجوار سجين محكوم يعترف بذنبه، وتطالب له بحياة أفضل، أن تتعالى على أحكامك المسبقة والمبرمج عليها بأنه يستحق ما جنته يداه.
اختارت زينة دكاش لنفسها نهجاً مميزاً، فلا تدافع في أعمالها الفنية عن فئات مستضعفة في عيون الجميع، فلم تختر الدفاع عن اللاجئين أو الأيتام أو مصابي الحروب، بل اختارت مناصرة فئة منبوذة من المجتمع أو على الأقل اختار نسيانها
زينة دكاش هي ممثلة ومخرجة مسرحية وسينمائية لبنانية، حاصلة على ماجستير في علم النفس السريري، ودرست العلاج بالدراما في جامعة كنساس الأمريكية، يتركز عملها بصورة أساسية في السجون اللبنانية، وذلك عبر جلسات العلاج بالدراما، وإعداد المحكومين والمساجين لتمثيل مسرحيات تتقاطع بشكل ما مع تفاصيل حياتهم البائسة، ولكن هذه المسرحيات لم تسفر عن مساعدتهم نفسياً فقط، لكن كذلك نقلت أصواتهم للعالم الخارجي، واستطاعت أن تحقق لهم مكاسب على أرض الواقع، ربما لولا الفن لم يصلوا إليها.
بدأ مشروع الفيلم الأول لزينة "12 لبناني غاضب" كوسيلة للأرشفة للعمل المسرحي بنفس الاسم الذي تعد له مع سجناء "رومية"، وذلك بدون ميزانية خاصة بمساعدة صديقة لمدة عام ونصف، و250 ساعة تصوير. يستعرض هذا العمل البروفات الخاصة بالمسرحية المقتبسة من فيلم أمريكي باسم "12 رجل غاضب"، إخراج سيندي لوميت في الخمسينيات، والذي تدور أحداثه في غرفة المحلفين بإحدى المحاكم لتداول الحكم بإدانة أو عدم إدانة شاب متهم بقتل والده، وفي حين يرغب 11 محلفاً ومحلفة في الإقرار بذنب المتهم بدون تفكير لكثرة الأدلة ضده، شخص واحد فقط يطالب بإعادة تمحيص القضية لإعطاء الفتى فرصة عادلة.
أي أن المسرحية تجعل سجناء يأخذون أدوار محلفين، وتدور حول مفهوم العدالة في القضاء، وخلال هذه المداولات يبدأون في استكشاف أنفسهم وماضيهم، وكيف وصلوا إلى هذه النقطة. حققت المسرحية عند عرضها داخل السجن نجاحاً كبيراً، خاصة مع حضور عدد كبير من المسؤولين الحكوميين وأهالي المساجين الذين لم يقابلوهم منذ زمن طويل.
ومن الناحية القانونية، نجحت المسرحية في دفع الحكومة للبدء في تطبيق القانون رقم 463 لقانون العقوبات لعام 2009، بشأن تخفيف العقوبات، الذي نُشر عام 2002 ولم يُنفَّذ أبداً. حيث يمكن للسجناء اليوم التقدم بطلب لتخفيض عقوباتهم بناء على حسن السلوك.
يسهل أن تناصر مريضاً أو ضعيفاً أو طفلاً، لكن لا يوجد أصعب من الوقوف بجوار سجين محكوم يعترف بذنبه، وتطالب له بحياة أفضل، أن تتعالى على أحكامك المسبقة والمبرمج عليها بأنه يستحق ما جنته يداه
شهرزادات سجن بعبدا
مشروعها السينمائي التالي أتى خلال الفترة التي قضتها مع مسجونات سجن بعبدا للنساء في لبنان، وذلك خلال عملها على مسرحية بعنوان "شهرزاد في بعبدا"، هذه المرّة العمل ليس مقتبساً من عمل فيلم أو عمل قادم، بل تقوم المسجونات بتمثيل أدوار تشبههن، لنساء دُمرت حياتهم نتيجة لقرارات خاطئة أو ظروف عائلية صعبة، وأخريات لم يحكم عليهن بعد بأحكام قضائية وبعض البريئات كذلك.
حمل الفيلم نفس الصراحة الساحرة التي نجدها في الفيلم الأول، فالمسجونات والمسجونون لم يحاولوا إنكار تهمهم، أو إخفاء الذنوب التي اقترفوها، فبعد وصولهم إلى هذه النقطة، اقتنعوا بأن البوح هو الوسيلة المثلى للتطهر والتقدم للأمام وتحسين حياتهم التي تبدو مستحيلة بلا أمل.
النقطة الثانية المتكررة هو شعور السجناء أنهم يعودون إلى الحياة خلال العمل المسرحي والفني الذين يقومون به مع زينة دكاش، ليس فقط لتأثيره النفسي والعلاجي، ولكن لأنهم أصبحوا مرئيين مرة أخرى من العالم، ليسوا مجرد أرقام في الدفاتر الحكومية، أو أسماء منسية من الأهل والأحباب قبل الغرباء.
مرة أخرى، استطاعت مسرحية "شهرزاد" إحداث تغييرات ملموسة لصالح السجناء، ففي نيسان 2014، بعد العديد من حالات العنف الأسري، أقرّ مجلس النواب اللبناني مشروع قانون لحماية المرأة وأفراد الأسرة. كان الفيلم الوثائقي في "يوميات شهرزاد" جزءاً من النشاط الذي تم القيام به تجاه تفعيل هذا القانون.
زينة دكاش ممثلة ومخرجة مسرحية وسينمائية لبنانية، حاصلة على ماجستير في علم النفس السريري، درست العلاج بالدراما في جامعة كنساس الأمريكية. يتركز عملها بصورة أساسية في السجون اللبنانية
السجناء الزرق المنسيين
فيلمها الثالث "السجناء الزرق" الذي عٌرض في مهرجان الجونة لعام 2021، تناول مرة أخرى السجناء، ولكن هذه المرة شريحة أضيق وأكثر بؤساً حتى من السجناء العاديين، فقانون العقوبات اللبناني ينص على أن "كلّ مجنون، كلّ معتوه، كلّ ممسوس ارتكب جرماً، يوضع في مأوى احترازي في السجن إلى حين الشفاء"، وهذا يعني ببساطة أن أي شخص مصاب بمرض نفسي وارتكب جريمة أدخلته السجن، سيحبس في عنبر يسمى عنبر "السجناء الزرق"، ولن يخرج منه حتى لو انتهت فترة محكوميته إلا إذا شُفي، وذلك دون تقديم أي رعاية صحية حقيقية لهؤلاء المسجونين تساعدهم على العلاج، وبالتالي فهم محكومون مدى الحياة بلا أمل في الخروج.
ومثل أعمالها السابقة، بدأ الأمر بمسرحية داخل السجن، يمثل فيها السجناء العاديون قصص المنبوذين داخل مبنى السجناء الزرق، لأنهم لا يسمح لهم بالخروج منه لتمثيل أدوارهم الحقيقية، لتسلط دكاش الضوء على قصتهم في عرض يحضره مسؤولون حكوميون قادرون على تقديم المساعدة لهؤلاء البائسين.
وبالفعل قُدِّم مشروعا قانونين يهدفان إلى تشريع مناسب للسجناء المصابين بأمراض عقلية والسجناء المحكوم عليهم بالسجن المؤبد، أعدتهما كاثارسيس - المنظمة غير الربحية التي أسستها زينة دكاش المعنية بتقديم العلاج بالمسرح والفن- إلى مجلس النواب اللبناني في 29 آب/ أغسطس 2016، بعد توقيع 7 نواب من أحزاب سياسية مختلفة. وتم إعداد مسودات القوانين بدعم من الاتحاد الأوروبي، وبالتعاون مع النواب الذين وقعوا مشاريع القوانين ووزارة العدل، وقامت المسرحية التي أخرجتها دكاش عن حال السجناء الزرق بنقل حالتهم إلى المجتمع وصانعي القرار.
وفي ذات الوقت، ساهم عرض الفيلم والتأثير الناتج عنه في خروج عدد من المرضى والمسجونين المصابين بأمراض عقلية من السجن الأبدي إلى دار مسنين لإكمال حياتهم.
إن مؤسسة كاثارسيس التي تديرها زينة دكاش هدفها العلاج بالفن، لكنها استطاعت أن تأخذ الأمر خطوات إضافية للأمام، فهي لم تعالج مرضاها فقط، لكن كذلك المجتمع بالكامل، من آفة النسيان والتجاهل لشرائح منبوذة، على الرغم من أنهم بالفعل يدفعون مقابل خطاياهم من عمرهم، وليسوا بحاجة إلى عقاب أكبر بخروجهم من مظلة الرحمة الإنسانية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون