قبل شهرين، تم الكشف عن فضيحة ضخمة تتعلق بوثائق سرية مسربة تثبت تواطؤ النظام الفرنسي مع الزعيم المصري المشير عبد الفتاح السيسي، في جرائم ارتُكبت في مصر عام 2016. وكان الفرنسيون متواطئين في تنفيذ ضربات جوية ضد المدنيين، ما تطلّب استدعاء وزير القوات المسلحة الفرنسية للتحقيق، يوم 22 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021.
الضربات الجوية كانت عمليةً عسكريةً سريةً مشتركةً جرت في مصر تحت زعم مكافحة الإرهاب، وتعقّب المسلحين الجهاديين. أطلقوا عليها اسم "سيرلي". كانت لدى فرنسا مخاوف بشأن تأثير مقاتلي الدولة الإسلامية في المنطقة، مما أدى إلى مشاركتهم المصريين في القيام برحلات استطلاعية فوق ليبيا. رافق ضابط مصري فريق المخابرات الفرنسية في الاستماع إلى التنصت الحي للمحادثات. أدرك الفرنسيون أن التهديد الإرهابي كان ضئيلاً، وأن المصريين استخدموا المعلومات لاستهداف المهرّبين بدلاً من ذلك.
لقد كان تحوّلاً مفاجئاً للأحداث، عندما استخدم الزعيم المصري المعلومات التي تم الحصول عليها لاستهداف مهربين ومدنيين آخرين على الحدود الليبية، والقضاء عليهم. وأظهرت الوثائق السرية المسربة أن سوء استخدام المعلومات الفرنسية حوّل العملية العسكرية إلى حملة إعدامات تعسفية. أرسل الفرنسيون هناك العديد من الرسائل إلى رؤسائهم يحذّرونهم من إساءة استخدام المصريين للمعلومات التي تم الحصول عليها، والذي أسفر في النهاية عما لا يقل عن 19 تفجيراً للمدنيين في السنوات من 2016 إلى 2018.
تجاهلت فرنسا التضييق على المصريين تماماً، وقامت بمباركة صفقة تم عقدها بين ثلاث شركات فرنسية والنظام المصري، لبيع تكنولوجيا ضخمة لبرامج التجسس طلبها السيسي في عام 2014، وتركيبها
ولم تنفِ القوات المسلحة الفرنسية صحة هذه الوثائق، وعلّقت بالقول: "إن مصر شريكة لفرنسا، ونقيم معها -كما هو الحال مع دول أخرى- علاقات في مجال المخابرات ومكافحة الإرهاب". وأضافوا في وقت لاحق أنهم لن يُعلّقوا على طبيعة التعاون، لكنهم سيطالبون ببدء تحقيق. على الجانب الآخر، لم يكن هناك أي رد فعل رسمي مصري، باستثناء حظر الوصول إلى موقع Disclose على جميع مزوّدي خدمات الإنترنت الخمسة في مصر. وDisclose هي وسيلة إعلامية تروّج للصحافة الاستقصائية، وهي الوسيلة التي قامت بنشر الوثائق المسربة.
تهريب البضائع نشاط إجرامي خطير قطعاً، ومع ذلك هذا ليس مبرراً للقتل الوحشي للمدنيين. في أي مكان آخر، يحظى أي متهم بمحاكمة عادلة، وليس بالقطع مقبولاً أن يتم تفجيرهم، أو إطلاق النار عليهم. قتلت إحدى هذه الغارات بدورها في 5 تموز/ يوليو 2017، ثلاثة مدنيين في واحة البحرية. قُتل مهندس مع اثنين من زملائه في سيارته بصاروخ ووابل من الرصاص، وهم في طريقهم إلى العمل. ليس هناك ما يُسمّى قتلاً مُبرراً مهما كان النشاط المزعوم للضحايا، فهذا لا يُبرر هذه الفظائع.
تقنية برامج التجسس الفرنسية
لم يعد فشل "سيرلي" موضع شك بحلول نهاية عام 2016. وعلى الرغم من الانتهاكات والجرائم الواضحة المرتبطة بهذه المهمة، أظهرت فرنسا بوضوح رغبتها في استمرار التعاون، عندما صرحت وزيرة القوات المسلحة آنذاك، سيلفي جولار: "ماكرون على استعداد لدراسة إمكانية زيادة استخدام طائرات الاستطلاع"، ووصفت نتائج هذه العملية بأنها "استثنائية".
كانت صفقات الأسلحة، في الواقع، مغريةً للغاية بالنسبة إلى النظام الفرنسي. وجد جان إيف لودريان، وزير دفاع الرئيس السابق فرانسوا هولاند، فرصةً جيدة في السيسي، الذي وصل إلى السلطة عن طريق انقلاب عسكري. سعى السيسي إلى الشرعية السياسية لإعادة تأكيد سلطته مما جعله فريسةً سهلةً لصفقات الأسلحة هذه، حتى يحظى بالفرنسيين كحلفاء غربيين له. تجاهل وزير الدفاع الفرنسي تماماً انتقادات وزارة الخارجية الفرنسية لصفقات السلاح المصرية.
لعبت الإمارات العربية المتحدة دور الوسيط في صفقة التجسس الرقمي هذه. وأكدت إدارة شركة نيكسا تكنولوجيز، أن "الطلب من الحكومة المصرية جاء إلينا من خلال شركة إماراتية اتصلت بنا، وأخبرتنا بالمتطلبات"
اهتمت الحكومة الفرنسية بمكاسبها الخاصة وصفقات السلاح التي أغرقها بها النظام المصري فحسب، ولم يكن مهماً كم أصبحت الحياة قبيحةً بالنسبة إلى المصريين. وحسب وزارة الخارجية الأمريكية، فقد تم الإبلاغ عن نحو 65 ألف معارض في سجون مصر، بينما "اختفى" ثلاثة آلاف آخرون بعد اعتقالهم منذ وصول السيسي إلى السلطة، ومنهم معارضون سياسيون، وصحافيون، وعاملون في المنظمات غير الحكومية، وغيرهم ممن يدافعون عن حقوق الإنسان، أو لا يعيشون وفق تعاليم النظام العسكري.
إذا كنت ناشطاً سياسياً أو حقوقياً في مصر، فهذا يعني أنه سيتم تعقّب هاتفك، أو التنصت عليه، أو مراقبته، وستتم مراقبة نشاطك على شبكة التواصل الاجتماعي، وتسجيله. هذا شيء اختبرته بصفتي ناشطة سياسية وحقوقية مصرية خلال الثورة المصرية، وبعدها، وحتى الآن. ومع ذلك، لا يزال النظام المصري يعتقد أنه بحاجة إلى مزيد من السيطرة على الناس، على الرغم من أنه لا يمكن لأحد الهروب منه. أنت تخاطر بحياتك يومياً، إذا لم تعلن الولاء للنظام، أو إذا كانت لديك أفكار مختلفة.
تجاهلت فرنسا التضييق على المصريين تماماً، وقامت بمباركة صفقة تم عقدها بين ثلاث شركات فرنسية والنظام المصري، لبيع تكنولوجيا ضخمة لبرامج التجسس طلبها السيسي في عام 2014، وتركيبها. كما قاموا بتدريب ضباط المخابرات المصرية على استخدام النظام لجمع المعلومات الجماعية من شبكة الاتصالات السلكية واللاسلكية في مصر.
قامت Nexa Technologies بتثبيت برنامج مراقبة على الإنترنت يُسمّى Cerebro، وقام Ercom-Suneris بتثبيت Cortex vortex للتنصت على الهاتف، وتحديد الموقع الجغرافي، بينما زودت شركة الأسلحة الفرنسية العملاقة Dassault Systèmes النظام المصري ببرنامج يمكنه البحث والوصول إلى المعلومات، وربطها بقاعدة البيانات الوطنية المصرية. بلغ إجمالي عقود الشركتين الأوليين 26.4 مليون يورو في عام 2014. وسهّلت تكنولوجيا برامج التجسس الضخمة قمعاً غير مسبوق للمجتمع المدني المصري منذ ذلك الحين.
لعبت الإمارات العربية المتحدة دور الوسيط في صفقة التجسس الرقمي هذه. وأكدت إدارة شركة نيكسا تكنولوجيز، أن "الطلب من الحكومة المصرية جاء إلينا من خلال شركة إماراتية اتصلت بنا، وأخبرتنا بالمتطلبات".
اتهم القضاء الفرنسي، في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، شركة نيكسا تكنولوجيز بـ"التواطؤ في التعذيب والاختفاء القسري في مصر بين عامي 2014 و2021". على أية حال، هذا غير كافٍ إطلاقاً. تجب محاكمة الرئيسين الفرنسيين فرانسوا هولاند وإيمانويل ماكرون وحكومتيهما، لتورطهما في انتهاكات حقوق الإنسان في مصر، كشركاء في الجرائم التي ارتكبها النظام المصري.
صفقات السلاح: حجة لتجاهل انتهاكات حقوق الإنسان
لا تزال فرنسا تدعم السيسي دبلوماسياً وعسكرياً. ومع ذلك، لم يكن النظام الفرنسي المستفيد الوحيد من بيع الأسلحة لمصر. في 9 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، اتهمت العديد من منظمات السلام وحقوق الإنسان الدولة الهولندية بتصدير أسلحة إلى البحرية المصرية. في العام الماضي، وافقت هولندا على العديد من تراخيص تصدير الأسلحة إلى مصر، على الرغم من التقارير حول وضع حقوق الإنسان هناك. غرّد كينيث روث، المدير التنفيذي لـ هيومن رايتس ووتش: "يتعين على حكومة هولندا أن تعلن أمام المحكمة عن سبب بيعها أسلحةً لمصر، على الرغم من إشراف الرئيس السيسي على أسوأ قمع في تاريخ البلاد الحديث".
في شباط/ فبراير 2021، وافقت إدارة بايدن على بيع صواريخ بقيمة 200 مليون دولار لمصر. ووصف دونالد ترامب السيسي بـ"الديكتاتور المفضل لدي"، الأمر الذي أجبر بايدن على التعهد بموقف أكثر صرامةً من حقوق الإنسان. ولكن من المؤسف أن هذا النذر لم يتم الوفاء به بالكامل. وتأتي هذه الصفقة وسط مخاوف جدية بشأن السجل الحقوقي المصري، الذي تضمّن، حسب تقرير وزارة الخارجية لعام 2019، العديد من الانتهاكات والتجاوزات، مثل "القتل غير المشروع أو التعسفي، بما في ذلك القتل خارج نطاق القضاء، والاختفاء القسري والتعذيب، والاعتقال التعسفي، وظروف السجن القاسية والمهددة للحياة، والكثير من السجناء السياسيين، والتدخل التعسفي أو غير القانوني في الخصوصية، وأسوأ أشكال القيود المفروضة على حرية التعبير".
في ألمانيا، وافقت حكومة المستشارة السابقة أنجيلا ميركل، على صفقة أسلحة لمصر قبل تركها منصبها. أثار الضوء الأخضر لصفقة الأسلحة المثيرة للجدل مخاوف بعض السياسيين الألمان وغضبهم، بسبب سجل حقوق الإنسان المصري الضعيف، وتورطها في الحرب الأهلية اليمنية. نحو ثلاثة مليارات يورو من تراخيص تصدير الأسلحة الألمانية في عام 2020، كانت لما يسمى بـ"دول العالم الثالث"، خارج الناتو والاتحاد الأوروبي. قطعت الحكومة الألمانية الجديدة العديد من الوعود بتنفيذ "سياسة تقييد تصدير الأسلحة". ومع ذلك، لا يزال من غير المعروف ما إذا كانوا سيوفون بوعودهم.
بعد تعذيب جوليو ريجيني، الطالب الإيطالي الذي اختفى في مصر عام 2016، وقتله، كان مفاجئاً أن تستمر إيطاليا في صفقات الأسلحة المصرية في عام 2020. تلقّت مصر 25 من أصل 50 صاروخاً، كجزء من صفقة أسلحة مع إيطاليا. كانت صفقة الصواريخ جزءاً من اتفاقية أكبر لبيع فرقاطتين من طراز Bergamini.
كان ناشطو حقوق الإنسان والبرلمانيون الإيطاليون غاضبين للغاية، وحاولوا إيقاف الصفقة، بينما علّق والدا ريجيني على هذه الصفقة، بالقول: "الدولة الإيطالية خانتنا". يبدو أن بيع ترسانة عسكرية إلى مستبد يسمح بقتل أحد مواطنيك، هو أمر يمكن أن يكون أكثر أهميةً بكثير من حقوق الإنسان. العلاقات القوية مع مصر، على الرغم من الضغوط الداخلية الإيطالية، مهمة بشكل كبير لإيطاليا، من أجل الحفاظ على دور فعّال في شرق البحر المتوسط والمنطقة. إيطاليا هي أحد مؤسسي منتدى غاز شرق المتوسط، ويتم إنتاج نصف الثروة البترولية المصرية تقريباً بواسطة ENI المملوكة للحكومة الإيطالية.
حقوق الإنسان هي أكبر عملية احتيال يقوم بها السياسيون في جميع أنحاء العالم. من الأسهل بكثير أن ننظر إلى الاتجاه الآخر، بدلاً من فقدان أحد أكبر مستوردي الأسلحة في العالم، فقد تم تصنيف مصر كثالث أكبر مستورد للأسلحة في الفترة ما بين 2016 و2020. على مدى السنوات التسع الماضية، عانى المصريون المختلفون مع النظام، كثيراً. لم يتم عدّهم بشراً حتى، وليست لهم أي حقوق. ومع ذلك، فإن النظام العسكري الذي يسيطر على البلاد بقوة السلاح، محكوم عليه دائماً بالفشل في نهاية المطاف. يجب أن يركّز القادة والسياسيون الغربيون على عدم إغفال الهدف الأخلاقي الذي يدفع كل واحد منّا لأن يكون إنساناً. هذه هي الطريقة الوحيدة التي تمكّنهم من أن يكونوا على الجانب الصحيح من التاريخ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...