من مكان ما من ذاكرة أمينة سالم، تخرج الحكايات على شكل ألوان سائلة، موتيفات، خلطات سحرية، ملائكة سود، رموز إفريقية، أحرف، تماثيل لفينوس، حمير وحشية... كل ذلك يتداخل في متن لوحة جامحة وأفكار تلقائية غير مروّضة. تبدو في أعمالها الأخيرة كمن يتحايل على فلسفة الزمن في اللوحة. حساسياتها باتت أكثر قرباً من التعبيرية الواقعية وفن البوب، وانتقل استخدامها للشعبي من ظرفه التراثي إلى التأثيرات الإعلانية المباشرة.
تحت عنوان "المهرجان" ينطلق المعرض السادس للفنانة المصرية الشابة (1981) في "غاليري مصر"، والذي اختارت للترويج له لوحة رجل ذي بشرة داكنة، يقف بطريقة بهلوانية لا تتسق مع ملابسه الكلاسيكية المتأنقة، فهي على ما يبدو تحاول خلق التناقض المحبب في كل أعمالها والتأرجح بين الرصانة والهزل، حيث تنتزع الشخصيات من أماكنها المعتادة وتضعها في مساحات أخرى غريبة عنها، لكن هذا التغريب في تجاربها لا يبدو فجّاً أو قاسياً، بقدر ما يضع المألوف والمتعارف عليه في حياتنا أمام الاختبارات، وبمواجهة مصائر مغايرة لما هو متوقع.
تحت عنوان "المهرجان" ينطلق المعرض السادس للفنانة المصرية الشابة أمينة سالم في "غاليري مصر"
سيقودنا الفضول لتصفح كتالوغ المعرض الذي يحمل عنوان "استعراض البهجة"، بحثاً عن تفاصيل أكثر حول هذا الرجل الأسود الذي يرتدي طربوشاً وملابس تنتمي للقرن الماضي، ويبدو متوتراً ومنتشياً كما لو أنه قد انتُزع من داخل حفل صاخب ليُلقى به بغتة في فضاء لوني سائل، أو كأنه يستعرض لياقته أمام المرآة قبل أن تُقتحم خصوصيته.
لا تبدو لوحة سالم أسيرة شكل تعبيري محدد. ثمة انعطافات مستمرة في بنية اللوحة وشكلها، ممّا يملي تنوعاً مرادفاً في أدوات التعبير وخاماته مثل اللون والكولاج والتصوير، وغيرها من أدوات التوصيل، التي تعطي أعمالها صفة المشروع الهادف إلى إنجاز بحث بصري متكامل. وفي هذه المرحلة نراها تميل إلى إطلالات كلاسيكية للنساء والرجال، وتمزجها بروح التجريب لتؤسس حالة من الشغب والتلقائية التي تبلغ حد الصدامية أحياناً.
بين الرسم والتركيب والكولاج تتحرك مدارات هذه الأعمال، وقد عوّدتنا سالم على الألوان الزيتية كأساس لأعمالها ودمج خامات أخرى لتخلق بصمة خاصة بكل مجموعة. نراها هنا تلجأ لألوان مرحة بنكهة البوب ولاستخدام الخط العربي، نقرأ في إحدى اللوحات: "لإن غبت عن عيني، فعن قلبي لن تغيب"، وتتكرر عبارات الغزل في أعمال أخرى كتعويذة سريّة، لكن الرهان هنا يكمن في السعي إلى خلق بنية شكلية تحفيزية، أكثر من تحميل العمل مقولة محددة، فاللعبة بصرية بامتياز.
في مكامن كثيرة من الأعمال، تتغلب الفطرة على الحرفة وتتسيّد التلقائية على المهارة، تصير هذه "الفوضى" المُحكمة ضرورة لتنقية العمل من الفعل الفني بمعناه التقليدي. اللون لم يعد مخلصاً لمعناه، والكلمة تناقض دلالاتها المألوفة.
وتدخل سالم إلى الميثولوجيا من أبوابها الخلفية. تعيد إنتاجها وفق منظور غير مألوف، لم نعتد مثلاً أن نرى تمثالا لفينوس (ربة الجمال والعشق عند الرومان) بألوان شطرنجية، ممتزجة بخامات جديدة كقصاصات من أوراق المجلات والصحف، وبعناصر أخرى بارزة مثل بالونات ملونة. وتعرض الفنانة عدداً من هذه المجسمات بأحجام مختلفة، معالجةً إياها بأسلوب مختلف وحيوي في كل مرة.
بين الرسم والتركيب والكولاج تتحرك مدارات أعمال أمينة سالم التي عوّدتنا على الألوان الزيتية كأساس لأعمالها ودمج خامات أخرى لتخلق بصمة خاصة بكل مجموعة
صحيح أن أمينة سالم حاولت في معرضها الجديد أن تتحدى نفسها وتخلق مساحة أكبر للعنصر الرجالي وللوحات التي لا تشتمل على أشخاص، وهي تعتبر ذلك جزءاً لا يتجزأ من رحلة تطورها كتشكيليّة. لكن "الأنثوي" يبقى الخيط المتين الذي يربط بين كل الأعمال، وهو ما تؤكده قائلة: "حضور المرأة بكل تفاصيلها ملهم لأعمالي، بقدرتها على العطاء والنجاة والتي تفوق قدرة الرجال بأضعاف، رغم ما تتعرض له في مجتمعاتنا من قهر، لكنها محاربة بطبعها، أحب نموذج المرأة القوية، وأستدعيه في لوحاتي".
في مكامن كثيرة من أعمال سالم، تتغلب الفطرة على الحرفة وتتسيّد التلقائية على المهارة، وتصير هذه "الفوضى" المُحكمة ضرورة لتنقية العمل من الفعل الفني بمعناه التقليدي
ولا تخفي شغفها برسم تفاصيل الأزياء والحلي وأدوات الزينة، فتكوينات الملابس تشكّل مساحة للتنوع والغنى الشكلي والإيقاعي، كما أن الطبيعة اللينة للأقمشة والتعامل الفني معها يعطيها مجالاً أرحب للتوليف والمزج بين الخامات. تقول: "أنا مهتمة بالاطلاع على جديد دور الأزياء. لا بد أن نوسّع انطباعاتنا الجاهزة عن الموضة، لأنها مزيج بين الكوتور وكل أنواع الفنون، إذ غالباً ما ترتبط القطع بالتشكيل، ويستلهم المصممون العالميون التصاميم والموتيفات من اللوحات الشهيرة".
من بين الأعمال التي يضمها المعرض ثمة لوحة تجمع بين أربع نساء وحمار وحشي، هذا الاختلاط الفريد في مرجعيات أمينة سالم، جعل لوحتها أقرب إلى صندوق فرجة تتكوّم فيه حكايا وتفاصيل وتعاويذ وتواريخ، تجمعها بإحساس غريزي، وتوثّقه بقوة وكأنها تخاف أن يفلت من بين يديها.
هذه اللوحة القوية التي يصعب تفكيكها، تُرجعها سالم لبدايتها الفنية وحظها الجيد لالتفات أهلها إلى موهبتها في الرسم، واطلاعها المبكّر على موسوعة تضم أفضل مائة رسّام في العالم. لفتتها آنذاك أعمال كل من بول غوغان وإدغار دوغا، وهو ما قادها لدراسة الرسم في كلية الفنون الجميلة قبل أن تتركها لتتجه لدراسة الإعلام، وتعود إلى دراسة الرسم مرة أخرى على يد الفنان مجد السجيني. وتعتبر الفنانة أنها تنتمي للحركة التشكيلية النسوية الممتدة منذ إنجي أفلاطون حتى اليوم، وتقول إن هذه الحركة جزء أصيل من المشهد التشكيلي، فرض وجوده ونبرته المتفردة.
كل أعمال أمينة سالم فيها من التأرجح بين الرصانة والهزل، حيث تنتزع الشخصيات من أماكنها المعتادة وتضعها في مساحات أخرى غريبة عنها، لكن هذا التغريب في تجاربها لا يبدو فجّاً أو قاسياً، بقدر ما يضع المألوف والمتعارف عليه في حياتنا أمام اختبارات
أما بخصوص معرضها الحالي" المهرجان"، فتقول إن فلسفتها هي تمثيل الصورة التي تراها عن الواقع الحالي، حيث الفوضى التي تميز العلاقات الإنسانية، والواقع الذي أصبح كالمهرجان المستعد دائماً للعرض أمام الآخرين من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة لطبقات بعينها، تسعى للمباهاة بالمظاهر السطيحة للحصول على استحقاق طبقي واهٍ، وتضيف: "أسعى دائماً للسخرية من هذه المظاهر من خلال تصويرها في لوحات، والإشارة للفقاعات الواهية والصراعات وحياة الصخب التي تقودنا إلى دوائر تعيسة وغير صادقة. قد يبدو أن لوحاتي تنتمي لطبقة بعينها وهي الطبقة الأرستقراطية، لكنني لا أسعى لتفخيم أو تمثيل هذه الطبقة، بل للسخرية منها".
الانطباعات الحميمة الأولى التي تتركها أعمال أمينة سالم، سرعان ما تنقلب إلى نقيض محيّر. هذه ليست طفولة خالصة، ولا هي مجرّد حالة ارتداد نقيّ إلى زمن ما. ثمّة ما هو أكثر من النوستالجيا خلف هذا اللعب بالألوان المرحة، وتلك الأفراح الذابلة التي تعكسها مشهدياتها الجماعية. من هنا، يقودنا تعقب أعمالها سالم إلى نتائج مضلّلة، لكنها تقدم إشارات لمشروع متفرّد، يعكس نظرة جديدة لرؤية العالم ومعاصرة حقيقية وغير زائفة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...