عند عتبة مدرسة سانت بول بمدينة لافال الواقعة في مقاطعة كبيبك الفرنسية بكندا، وقفت وكل ما فيّ يرتعش. أنا التي لطالما تجاهلت أنّ معظم من يحملون إجازة في اللغة العربية مصيرهم التدريس، لذا قضيت سنيناً عدّة من حياتي أهرب من العمل في المدرسة، وأصاب بالدوار لمجرد التفكير بمقاعد الدراسة، وأشعر بالغثيان من رسومات جدران المدارس، لكني اليوم أضع نفسي في هذه الورطة.
الورطة مضاعفة لأن الوقوف في الصف سيرافقه الكلام بالفرنسية. بدأت رحلتي في محو أمّيتي بالفرنسية أواخر عام 2017، لكني لم أنجح في الاستمرار أكثر من شهرين، لأن ابني لم يتجاوز شهره الثامن بعد وكان كثير المرض، فقررت البقاء في المنزل معه حتى يكبر قليلاً.
خطوة خارج الوحل
اليوم وبعد مرور ما يقارب السنوات الخمس على وصولي كيبيك ودراسة اللغة الفرنسية على فترات متقطعة فرضتها ظروفي العائلية، كان لابدّ لي أخيراً من اتخاذ قرار بمتابعة إحدى البرامج التي تمنحني شهادة تؤهلني للعمل في مجال ما، والتوقف عن متابعة دراسة اللغة فقط، فقد سمعت يوماً تشبيهاً لحالة الاستمرار في دراسة اللغة ظلّ يحفر في رأسي طوال فترة دراستي للفرنسية، وهو أن ذلك يشبه الوقوف في أرض طينية لزجة، فتحرّك قدميك لكنّك تظلّ مكانك.
لذا قررت أن أخطو خارج الوحل.
الخيارات هنا كثيرة، ومن كثرتها يحار المرء ماذا يختار، لكن بالمقابل ظروف الاختصاصات التي أحبّ الخوض فيها مستحيلة بالنسبة إلى وضعي العائلي.
بعد معارك طويلة مع نفسي، واستسلام للإحباط تارةً، وأملٍ بشيءٍ أفضل لابد أن يأتي تارةً أُخرى، وغربلة الخيارات، لم يبقَ أمامي سوى خيار متابعة دورة في خدمة الرعاية النهارية في المدارس المسمّاة Service de garde ، نظراً لأن مدّة دراستها لا تتجاوز الشهور الأربعة.
وأستطيع بعدها الحصول على دبلوم يؤهلني للعمل في المدارس مع الأطفال الذين يضطرون للقدوم إلى المدرسة قبل بدء الدوام الرسمي في الفترة الصباحية، وكذلك البقاء في الفترة المسائية، تبعاً لظروف عمل أهلهم.
عند عتبة مدرسة سانت بول بمدينة لافال الواقعة في مقاطعة كبيبك الفرنسية بكندا، وقفت وكل ما فيّ يرتعش. أنا التي لطالما تجاهلت أنّ معظم من يحملون إجازة في اللغة العربية مصيرهم التدريس، لذا قضيت سنيناً عدّة من حياتي أهرب من العمل في المدرسة
لطالما استبعدتُ احتمال أن يأتي يوم وألتحق بهذا البرنامج تحديداً، ولطالما طمأنت نفسي بأنّ الاستمرار في دراسة اللغة متاحٌ دائماً إن استعصت عليّ متابعة إحدى البرامج التي أطمح إليها كأم تربّي طفلين مع زوجها في غربة بعيدة عن دعم الأهل، لكني قررت أخيراً أن أضع "رأسي بين الرؤوس" كما يقول المثل، على الأقلّ هذا سيساعدني في تحسين لغتي ويكسبني تجربةً جديدةً، حتى إن لم أشأ العمل في هذا المجال.
أخيراً أنا أتبع القطيع! سأرمي شهادة الماجستير في النقد الأدبي، وأنسى بكالوريوس اللغة العربية، وأكتم هاجس الكتابة لبعض الوقت.
الكثيرات تابعن هذا البرنامج ولست أختلف عنهنّ بشيء. أنا أيضاً أستطيع. "مَنْ قال بأنّ هذا ليس بالإنجاز كذلك؟"، رحت أواسي نفسي بهذه الكلمات.
سرعان ما بدأت الإبحار في دراسة المواد التي تدور حول شروط ضمان صحة وسلامة الطفل، وتقنيات التدخل بين الأطفال الأصحاء والأطفال الذين يعانون من حالات خاصّة، مثل التوحد وفرط النشاط وضعف التركيز وغيرها الكثير، واستراتيجيات إدارة مجموعات الأطفال وحلّ النزاعات. إلا إن أكثر ما أدهشني هو أنّ أربع مواد من أصل عشر تتعلق بتخطيط الأنشطة وإنشائها.
أمام المستندات اللانهائية والمراجع وفهارس الأنشطة والألعاب التي لا حصر لها، والتي لا بد أن تتوافق مع الاتجاهات الخمسة لخطة التطوير العالمي للطفل، وهي الاجتماعي والنفسي والحركي والإبداعي والإدراكي، وأمام محاضرات المدرّسات وملاحظاتهن المتكررة، فيما يخص الحرص على التعزيز الإيجابي، وعدم استخدام صيغة النفي في أثناء العمل مع الأطفال وإنشاء الأنشطة، وتحرّي فهمهم والتحقق من مشاركتهم الفاعلة في النشاط من خلال توجيه الأسئلة المفتوحة لهم، وتجنّب الأسئلة التي يكون جوابها (نعم) أو (لا).
أمام هذا كلّه لم أجد مهرباً من العودة بالذاكرة إلى الطفولة البائسة في مدرسة لم أعرف خلال سنواتي فيها سوى الغصّة التي كانت لا تترك حلقي، بدءاً من أول أيامها وحتى يومها الأخير.
نعمة كورونا
مرّ الشهر الأول، واستطعت أن أنجح في المواد الثلاث الأول، وحان وقت أول تدريب في المدرسة التي تواصلت مع المسؤولة فيها وقبلَتْني كمتدرّبة، فالمفاجأة التي صعقتني بعد تسجيلي هي أنّه عليّ الخضوع لمراحل أربع من التدريب العملي في إحدى المدارس.
ها أنا في أول أيام تدريبي، في مدرسة سانت نوربرت القريبة من منزلي، وعليّ أن أمضي ساعات طويلة هنا على مدى شهور أربعة.
ولأنني وجدت نفسي في مواجهة المجتمع المحلّي، متمثّلاً ببيئة التربية والتعليم التي تعد أهم أسس المجتمع الكيبيكي، قررت أن أزجّ بنفسي في عمقه أكثر، بوحي من زميلاتي في الدراسة اللواتي وجدتهنّ يعملن جميعاً كمشرفات طلاب في المدارس خلال فترة الغداء، وهو عمل لا يحتاج إلى شهادة تخصصية، بل يكفي أن تكون شهادة البلد الأم معادلة من قبل وزارة الهجرة الكندية حتى يتم القبول، خصوصاً بعدما ازداد الطلب عليه في السنتين الأخيرتين، بسبب فيروس كورونا وما فرضه من متغيرات على قطاعات الحياة كلّها.
أخيراً أنا أتبع القطيع! سأرمي شهادة الماجستير في النقد الأدبي، وأنسى بكالوريوس اللغة العربية، وأكتم هاجس الكتابة لبعض الوقت
فبدلاً من جمع عدد كبير من الطلاب في قاعة خاصة للطعام والإشراف عليهم من قبل مشرفتين، فضّلت الكثير من المدارس إبقاء الطلاب في صفوفهم وتخصيص مشرفة لكلّ صفّ، لذا تقدمت بطلب توظيف إلى مجلس التربية والتعليم للعمل في هذه الفترة، ومنذ اليوم الأوّل، بدأت الاتصالات تتهافت على رقمي من مدارس عديدة، فوجدتني أنساق مثل نائمة تسوقها أحلامها العميقة لتمشي إلى حيث لا تدري ولا تحب!
رحت أقفز من مدرسة إلى ثانية للعمل كموظفة احتياطية. كنت أرفض العمل في مدارس بعيدة عن منزلي وأعتذر بهذه الذريعة. كثيراً ما اعتذرت وقلّما قبلت العمل، لكني بعد أقلّ من شهر وجدت المسؤولة عن قسم الرعاية النهارية في المدرسة التي قبلتني كمتدرّبة، تعلمني بتوفّر شاغر دائم لي، قائلة بنبرتها العملية الاحترافية التي لطالما منحتني الثقة وأشعرتني بالمسؤولية في آن: "ستعملين مع صف الخامس. هو صفّ جيد جداً، عدد طلابه 17 طالب".
يا إلهي، خامس. أيّة ورطة؟
لقد جنّبت نفسي العمل مع أطفال لا تزيد أعمارهم عن السنوات الثماني، فلغتي الفرنسية المتواضعة التي لم يتح لي ممارستها بعد أن تعلّمتها -بسبب فيروس كورونا الذي حبسنا في المنازل- لا تمنحني ما يكفي من الثقة لأواجه بها أطفالاً لديهم خزّانات لا حدّ لها من المفردات.
وبفعل الانسياق نفسه، وافقت وأخبرتها باستعدادي بالمباشرة ابتداءً من الأسبوع القادم، ريثما أعلم المدرسة التي أعمل فيها حالياً بوجوب إيجاد بديلة لي.
عبر قفزة سريعة لكنها بعيدة المدى نحو الماضي، أعبر من بوابة الزمن لأقف في الباحة الكئيبة وأرى وجوه أساتذة وآنسات يملؤها الغضب.
تنادى الفتيات من قبل أساتذتهم وآنساتهم في مدارس كيبيك "ma belle" وتعني "جميلتي"، وأحياناً "ma princess"والتي تعني "أميرتي"، أما الصبيان فينادونهم "mon ami" وينادى مجموع الأطفال "les amis" والتي تعني "أيها الأصدقاء"، أما حين يكون المسؤول عنهم أقل لطفاً، فقد يناديهم "les enfants" أي "أيها الأطفال".
حين بدأت تدريبي، بدأت أفهم لماذا يحب الأطفال هنا المدرسة، ويحزنون مع نهاية الدوام، ويصرخون "لا" حين ينادى بأسمائهم كي يحضّروا أنفسهم للذهاب لأن أحد والديهم قد وصل. لربما حالفني الحظ ووجدت في المدرسة التي أتدرّب فيها تطبيقاً مثالياً لما أقرؤه في الدراسة النظرية، فجميع المربين يتمتعون بمهنية عالية تصل إلى حد المثالية التي يعدّ العدل تاجها في هذا المقام، فالعدل أكثر ما يمكنه أن يساهم في بناء طفل سويّ ينجح ويثمر ويفيد مجتمعه.
حين بدأت تدريبي، بدأت أفهم لماذا يحب الأطفال هنا المدرسة، ويحزنون مع نهاية الدوام، ويصرخون "لا" حين ينادى بأسمائهم كي يحضّروا أنفسهم للذهاب لأن أحد والديهم قد وصل
رحت أراقب سلوك الأطفال وتفاعل المربين مع الجيد منه والسيء. لاحظت أن التشجيع في المواقف كلها هو أساس التعامل مع الأطفال، فإن فعل الطفل أمراً حسناً مهما كان بسيطاً لا يمكن إلا أن توجَّه له كلمة "شكراً" أو "أحسنت"، وبالمقابل لا بد من التدخّل لتصويب أي خطأ مهما عظم أو صغر، بدءاً من عدم الالتزام بالمشي بهدوء في الممرات وانتهاء بالإساءة إلى الآخرين.
مثلاً عقاب الركض في أثناء الانتقال من موقع إلى آخر هو الطلب إلى الطفل العودة من حيث أتى ماشياً حسبما تقول التعليمات، أي بهدوء وصمت، وإن وجّه طفل كلمة مسيئة إلى طفل آخر، يطلب المشرف إليه النّظر في عيني زميله والاعتذار بصدق، وتكون العقوبة مثلاً أن يعدّد ميّزات خمس في شخصيّة الطفل الذي أساء إليه.
الطفل هنا حر، لا تمارس عليه القيود النفسية والاجتماعية والحركية التي نرضعها في بلادنا مع حليب أمهاتنا لنظل مكبّلين بها بقية حياتنا، إلا من استطاع الخلاص منها بقدرة قادر. الأمثلة عديدة.
مثلاً، باحات المدارس واسعة ومفتوحة على الشوارع مباشرة، وفيها ملاعب لكرة القدم والسلة ومفتوحة بالضرورة من إحدى الجهات على حديقة عامة، ولا توجد أبواب لمداخلها العديدة، حيث تتحول بعد انتهاء الدوام إلى ساحات عامة، يستطيع كل من يشاء دخولها والاستفادة من اللعب فيها، لكن وقت الدوام لا يفكر الأطفال بالخروج من الأبواب المفتوحة، لأن شعورهم بالحرية والسعادة يتغلب على الإحساس بالحبس الذي كنت أشعر به ضمن الأسوار العالية في المدارس التي درست فيها.
أثر الشوكولا
الطفل في كندا حر، لا تمارس عليه القيود النفسية والاجتماعية والحركية التي نرضعها في بلادنا العربية مع حليب أمهاتنا لنظل مكبّلين بها بقية حياتنا، إلا من استطاع الخلاص منها بقدرة قادر
في آخر أيام دوامي مع صف الثالث لاحظت أنّ الفتيات المجتمعات حول طاولة واحدة قد تركن الرسم، وأخذن ينظرن إليّ بدهشة وهن يتهامسن. انتظرت قليلاً قبل أن أستوضح منهنّ سبب هذه النظرات الغريبة، ثمّ سألت إحداهن لماذا ينظرن إليّ هكذا، فأجابتني: مدام، أنت جميلة جداً.
فشكرتها وسألتها: ما بالكنّ، هل ترونني للمرة الأولى؟
فأجابوني: نعم، هذه المرة الأولى التي تزيحين فيها القناع.
فانتبهت أنني قد أنزلت قناعي حتى ذقني ونسيت إعادته. انتبهت أنني كنت طوال تلك الشهور أواجههم وأواجه هذه التحديات كلّها بربع وجه ونصف لسان. اليوم أترك هذه التحديات كلها، لأبدأ رحلة جديدة بربع وجه أيضاً، عسى أن يكتمل لساني.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 3 أيامtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع