شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
ماذا لو حضرت بي أرواح من أحبّ؟

ماذا لو حضرت بي أرواح من أحبّ؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الجمعة 14 يناير 202212:00 م


تؤمن ابنتي جنى بوجود الأرواح، تقول لي بشكل مسلّم وقطعي بلهجتها الإنكليزية التي غالباً ما يصعب عليّ فهمها، ونبرة حاسمة وكأنها شهدت حضور إحدى تلك الأرواح فعلاً: "ماما الأرواح موجودة، هذه حقيقة"، وتُلحقها بالقول: "كل شيء ممكن في العالم".

صغيرتي الحكيمة هذه تقول ما تريد قوله بسرعة لا تسمح لي بمقاطعتها أو التعليق على كلامها. تتكلم من غير توقف مصادرة سنواتي السبع والثلاثين، ناسفة ما قرأتُ وما ألّفت. أنا في نظرها مجرد جاهلة بحقائق غيبية من هذا النوع. تحاول مثلاً إخفاء ضحكتها كل ما حاولت محاصرتها بسؤال لابد أن جوابه يثبت وجود الإله الواحد الضابط الكلّ، وتجيبني بإجابات مموّهة فحواها أنّ هنالك آلهة كثر.
كلّما رأتني حزينة أو أبكي بسبب افتقادي لأحد الراحلين وألمي لغيابهم، تغضب وتسألني: "هل نشكر الله على موت من نحبّ؟ تقولين لي دائماً إنه علينا أن نشكر الله على كلّ شيء".
تغضب إذا سألتني سؤالاً وأجبتها: "إن شاء الله"، وتقول لي: لماذا تقولين "إن شاء الله"، هل يمكن لله ألا يشاء شيئاً نحبّه ونريده أن يحدث؟
أضحك بيني وبين نفسي وأتساءل من أين أتيت بهذه الابنة المتمرّدة على الإله، أنا المؤمنة التي شهدت عجائب في حياتها.
صغيرتي الحكيمة تقول ما تريد قوله بسرعة لا تسمح لي بمقاطعتها أو التعليق على كلامها. تتكلم من غير توقف مصادرة سنواتي السبع والثلاثين، ناسفة ما قرأتُ وما ألّفت. أنا في نظرها مجرد جاهلة 

بعد تراكم الموت

بعد توالي فقدي لأشخاص أعزاء عبر السنين، وتراكم موتى غرباء في روحي سمعت أخبار موتهم وحفرت في قلبي قصصهم الموجعة، فكّرتُ: ترى ما الذي يحدث إن حضرَتْ بي أرواحهم؟
وجاء كلام جنى عن وجود الأرواح ليدعم تفكيري هذا: "ماما، كما أن هنالك أرواح شريرة هنالك أيضاً أرواح طيّبة"، وحين سألتها عن مصدر هذه الأرواح، أجابتني بكلّ ثقة: "أرواح الناس الذين ماتوا".
أضحك بيني وبين نفسي وأتساءل من أين أتيت بهذه الابنة المتمرّدة على الإله؟ أنا المؤمنة التي شهدت عجائب في حياتها

الشاعر الفلسطيني أحمد دحبور الذي التقيته مرات نادرة في حمص، كان أهمها خلال عشاء في مطعم المحطة مع مجموعة من الكتّاب والمثقفين.
علا صديقة بهيج، الصحفية الشابّة التي التقيتها مرة يتيمة في أبوظبي، وشعرت بشيء غامض نحوها وتعاطف غير مفهوم. كانت حينها تستعد لبدء صفحة جديدة في حياتها بعد اتخاذها قرار الاستقرار في الإمارات. سافرت إلى سورية لترتب أمورها قبل أن تعود وتسافر للاستقرار هناك، لكن شاء قدرها أن تسافر في رحلتها الأخيرة عبر حادث سير على طريق حمص_مصياف.
د. رضوان قضماني، أستاذي النبيل وصاحب الأفضال الكبيرة عليّ خلال مسيرتي الدرسية في اللغة العربية.
د. سماح إدريس، ذلك الظلّ العالي في عالم التأليف والنشر وثقافة مقاطعة إسرائيل ومناهضة التطبيع.
جدي حكمت وجدتي ليلى.
سوزي، الطفلة ابنة السنوات التسع التي اختطفها الموت من بين ذراعي أمها دون سابق إنذار.
روعة، الفتاة المنحدرة من إحدى قبائل مدينة الرقة السورية التي نزحت مع عائلتها إلى لبنان، وتعرفت بشاب أحبّته وجرّتها شهوتها الساذجة إلى الهرب والبقاء معه لأيام دون زواج، فما كان من أهلها إلا أن ذبحوها من الوريد إلى الوريد حين وجدوها.
فتاة لبنانية لم تتجاوز الرابعة عشرة من عمرها، ماتت وهي نائمة غرقاً في مصرف المياه الذي بنيت غرفتها فوقه، في حادثة عجيبة ما زلت حتى اللحظة عاجزة عن استيعابها.
زوج أختي الذي فارق الروح وحيداً في مشفى في لبنان، وعاد إلى سورية جثّة. أخبرتني أختي أنها أرادت أن تسألها حين رأتها: "لماذا لا تسعل؟" هو الذي لم يتوقف عن السعال في آخر سنوات ثلاث من حياته، بعد أن فعل المرض الخبيث فعله في رئتيه.
ماذا لو حضرت بي أرواحهم؟ ماذا سأقول لهم.

ماذا سأقول لهم؟

مثلاً، سأطلب من روح الشاعر دحبور أن تهبني ملكتها الاستثنائية في حفظ عناوين الكتب وشواهد جميلة منها مع أرقام الصفحات لأضمّنها أحاديثي، عسى أن تصل إلى سحر حديثه الذي أذهلني في ذلك المساء عند عتبة المطعم بعد خروجنا من العشاء.
ربما سأسأل علا: متى ستنتهي مزحتك هذه وتعودين؟ وسأعود لأسألها بماذا كانت تفكر حين اختطفها الموت.
سأطلب من روح أستاذي دكتور رضوان أن تتجسد كي أطبطب عليها، عساني أخفّف حزنها على فراقها حمص التي أحبّتها وأخلصت لها، لكنها في النهاية غادرتها مطفأة إلى مسقطها دمشق في سيارة نقل الموتى.
"لا بد أن الأرواح تلتقي في مكان ما، لا يمكنك أن ترحل هكذا"

أما دكتور سماح، فسأقول له جملة أخته د. رنا التي قالتها لي قبل أيام وأنا أحاول الاطمئنان عليها: "لا بد أن الأرواح تلتقي في مكان ما، لا يمكنك أن ترحل هكذا".
لروحي جدّي لن أقول شيئاً، فهما يسكناني بالكامل.
سأخبر سوزي الجميلة بأنني منذ رأيت ابتسامتها في الصورة التي نشرتها أمها المنتحبة، أهديتها جميع قصص الأطفال التي سأكتبها.
ولروح روعة ابنة القبيلة سأسأل: "لماذا لم تطلبي من حبيبك أن يتقدم لخطبتك وتجنّبي نفسك هذا الظلم؟".
وفي محضر روح تلك الزهرة التي كان أكبر أحلامها أن تمتلك غرفة نوم جميلة، سأصمت وأناجيها بأن تنام بسلام في أحضان الرحمة لأنه المكان الذي يليق بها بعيداً عن شرّ هذا العالم.
لديّ أسئلة عديدة لزوج أختي، لكني سأشفق على روحه من الألم وأسألها سؤالاً واحداً: "هل وصلتك أصوات نحيبنا، أختي وأنا، بينما كنت قد دخلت غيبوبتك في ساعاتك الأخيرة؟".
يتدحرج الموتى في رأسي وأنا مستلقية بجانب ابني، أضع يدي على جبينه وهو يغفو وأردد صلاة "أبانا". يرتجف قلبي حين أقول: "لتكن مشيئتك"، نعم يارب، أنا هشّة بما يكفي ليرتجف قلبي فيما أقول هذا.
أعود إلى موتاي فأكاد أختنق بحزني.
كثير منهم هامشيين في حياتي، وقلة منهم في صميمها، لكن موت الهامشيين لا يقلّ وجعاً في قلبي. أما الذين فقدتهم وهم من أساسات حياتي، ولم أستطع إلقاء نظرة الوداع عليهم بعدما فارقتهم أرواحهم، فيصعب علي تقبّل موتهم والاقتناع بأنهم لم يعودوا هنا.
باختصار، موتى لم أشهد دفنهم لن أصدّق أنّهم ماتوا.
لكن تعود كلمات ابنتي جنى عن الأرواح الخيّرة ترنّ في أذني لتطمئنني بأنهم جميعاً هنا، يشعرون بي ويصلّون لسلام روحي وسكينتها.
ثم تسكن روحي حين تهدأ جنى وتقول لي: "ماما صلّي معي"، فنبدأ بالصلاة ويغرق جول في النوم.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image