قبل 69 سنة، وفي مثل هذه الأيام، اجتمع طاقم مخابرات السفارة البريطانية في طهران، لوضع اللمسات الأخيرة على الانقلاب الذي أطاح بحكم رئيس الوزراء الدكتور محمد مصدّق، يوم 19 آب/أغسطس 1953.
معظم من كتب عن هذا الانقلاب قال إنه كان انقلاباً أمريكياً بامتياز، شاركت به المملكة المتحدة من الخلف دعماً للرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور في حربه ضد الشيوعية العالمية. تحول هذا الانقلاب إلى شيء أشبه بالأسطورة، نظراً لبراعة الولايات المتحدة في خلق الأساطير، أسطورة تُحسب لوكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA) ولمديرها العام آلان دالاس.
معظم من كتب عنه بالغ كثيراً بالدور الذي قام به عنصر المخابرات الأمريكية كيرميت روزفلت، حفيد الرئيس الأسبق ثيودور روزفلت، ليظهره حامياً للديمقراطية وعدواً للشيوعية والرجعية. مع مرور السنوات، بات الانقلاب على محمد مصدّق يعتبر أحد أهم منجزات الولايات المتحدة في القرن العشرين، يُستخدم لتخويف الأعداء وتذكير الأصدقاء بأن واشنطن وحدها قادرة على حمايتهم والتصدي لكل من يقف في وجههم، ووجهها. الرسالة المبطنة منه كانت دوماً: "لا تكونوا مثل مصدّق".
قبل 69 سنة، وفي مثل هذه الأيام، اجتمع طاقم مخابرات السفارة البريطانية في طهران، لوضع اللمسات الأخيرة على الانقلاب الشعبي الذي أطاح بحكم رئيس الوزراء محمد مصدّق
ولكن إذا نظرنا بعمق إلى هذا الانقلاب، نجد أن معظم ما قيل عنه كان غير دقيق، لا سند تاريخي له ولا برهان. ولكن ماكينة الدعاية الأمريكية كانت أقوى من الحقيقة، لا يمكن لأحد أن يتحداها أو يشكك بها، تحديداً في ظلّ غياب وثائق بريطانية أو إيرانية تثبت عكس الرواية الأمريكية. الوثائق البريطانية عن أحداث عام 1953 تبقى مغلقة، أما في إيران، فقد أتلفت معظم المراسلات والوثائق مع الفوضى العارمة التي رافقت سقوط نظام الشاه محمد رضا بهلوي سنة 1979.
معظم المراسلات والوثائق كانت محفوظة في أرشيف جهاز المخابرات (السافاك)، الذي تم اقتحامه ونهبه عشية نجاح الثورة الإسلامية. وكل الشهود الرئيسين على تلك المرحلة، ابتداء من الشاه نفسه ومحمد مصدق، ماتوا، أمّا مدير السافاك، نعمت الله نصيري، وهو الأعلم بخفايا تلك المرحلة، فقد تم إعدامه برصاصة واحدة بالرأس يوم 16 شباط/فبراير 1979. وفي مقابل هذا الضعف في الرواية الإيرانية والبريطانية، كانت الرواية الأمريكية هي الأبقى والأمتن، تُعاد كل يوم، في الصحف والمجلات وفي الأفلام الوثائقية والأعمال الهوليوودية.
تحول الانقلاب على محمد مصدّق إلى شيء أشبه بالأسطورة، نظراً لبراعة الولايات المتحدة في خلق الأساطير، أسطورة تُحسب لوكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA) ولمديرها العام آلان دالاس
مرت سنوات طويلة على انقلاب عام 1953، وتعالت الأصوات المطالبة بالإفراج عن الوثائق الأمريكية لمعرفة إن كانت أسطورة الـCIA في إيران حقيقة أم خيالاً. وقد أكد مدير الوكالة روبرت غيتس أنه سيفرج عن كل ما لديه من أوراق سنة 1993، ولكن شيئاً من ذلك لم يحصل. وتكررت الطلبات أمام خليفته جيمس ولسي، وتكررت ذات الوعود دون أي نتيجة، إلى أن أعلنت الوكالة في أيار/مايو 1997 أن معظم وثائق الانقلاب على محمد مصدق قد أتلفت منذ مطلع الستينيات، أي أنه لا يمكن استعادتها أو الاستفادة منها.
اعتذرت الوكالة عن هذا "الخطأ" دون تبرير سببه، وفي سنة 2000، ظهرت وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت لتعترف بأن بلادها وقفت خلف الإطاحة برئيس وزراء إيران المنتخب ديمقراطياً، لتؤكد الأسطورة وتضيف لها سنداً سياسياً. وفي سنة 2013، جاء تأكيد مماثل عن طريق وثيقة يتيمة نُشرت عبر جامعة جورج واشنطن، لا ذكر فيها للدور البريطاني. الهدف عن هذا "الدلائل" والاعتذارات كان لتثبيت الأسطورة الأمريكية، وليس لقلب صفحة مع إيران.
من هو أجاكس، الذي سُمي الانقلاب على اسمه؟
دعونا نعود إلى هذا الانقلاب، وإلى الدور البريطاني فيه. الأمريكان أعطوه اسماً حركياً "عملية أجاكس"،[ وهو مستوحى من التاريخ اليوناني القديم. شخصية أجاكس تظهر في ملحمة الإلياذة الشعرية لهوميروس، وهو بطل مقدام وشجاع فقد عقله وقتل نفسه بالسيف، يعرفها جيداً كل مهتم وأي مختص بالأدب اليوناني القديم.
ومن أبرز هؤلاء المختصين كان الباحث كريستوفر مونتاغو وودهوس (Christopher Montague Woodhouse)، ضابط المخابرات البريطاني في طهران سنة 1953. عرفه العالم في سنوات لاحقة كنائب عن منطقة أوكسفورد في مجلس العموم البريطاني، ورئيس لمعهد تشاتام هاوس، من عام 1955 ولغاية 1959. عند وفاته سنة 2001، كتبت الصحف عن مسيرته المهنية، وكيف خدم في اليونان خلال الحرب العالمية الثانية، وساهم في تتبع أمين عام الأمم المتحدة الأسبق كورت فالدهايم، في الثمانينيات، بسبب ارتباطات الأخير بالنازية.
مع مرور السنوات، بات الانقلاب على محمد مصدّق يعتبر أحد أهم منجزات الولايات المتحدة في القرن العشرين، يُستخدم لتخويف الأعداء وتذكير الأصدقاء بأن واشنطن وحدها قادرة على التصدي لكل من يقف في وجههم ووجهها. الرسالة المبطنة منه كانت دوماً: "لا تكونوا مثل مصدّق"
لم تذكر الصحف أن وودهاوس كان يعمل في طهران، وأنه كُلّف بالإطاحة بمحمد مصدق من قبل مدير الاستخبارات البريطانية في حينها، السير جون سينكلير، الذي كان يطلق عليه اسم "السندباد" تحبباً وإعجاباً.
دور وودهاوس في الإطاحة بمحمد مصدق
كان وودهاوس مولعاً بالأدب اليوناني القديم، وكان يدرسه في جامعات بريطانيا، وهو صاحب فكرة تسمية عملية محمد مصدق بأجاكس. وقد تشارك هذا الاهتمام الأكاديمي مع صديقه في طهران روبين زايهنير (Robin Zaehner)، وهو ضابط مخابرات أيضاً كان يُدرس اللغة الفارسية في جامعة أوكسفورد (توفي سنة 1974).
وفي لقائه مع الصحفي البريطاني روبرت فيسك، قال وودهاوس بوضوح إن زاهنير كان المكلف بترتيب الأجواء السياسية للإطاحة بالرئيس مصدّق، أما هو (والكلام لوودهاوس) فكانت مهمته نقل الأسلحة البريطانية عبر قاعدة الحبّانيّة العراقية، غرب بغداد.
هدف بريطانيا من الانقلاب على محمد مصدّق كان يختلف كلياً عن هدف الولايات المتحدة الأمريكية، فالأولى أرادته لاستعادة السيطرة على النفط، والثانية لمنع تغلغل الاتحاد السوفيتي في إيران
وقد أمر وودهاوس بدفنها في الصحراء الإيرانية، مع إعطاء مواقعها لعملائه الإيرانيين لنبشها واستعمالها عند ساعة الصفر. كما يقول وودهاوس إن الرئيس أيزنهاور لم يكن يريد الدخول في عملية معقدة من هذا النوع، ولكن مدير المخابرات البريطانية أقنعه بذلك، خلال زيارة قام بها إلى واشنطن يوم 18 شباط/فبراير 1953، أي قبل الانقلاب بخمسة أشهر.
وعند نجاح الانقلاب وهروب الشاه إلى بغداد أولاً ومن ثم إلى روما، خوفاً على سلامته، اجتمع وودهاوس بشقيقته التوأم الأميرة أشرف بهلوي، وطلب منها إبلاغه بضرورة العودة فوراً لطهران، لأن خطر محمد مصدق قد أزيل عن الوجود بشكل كامل. وبعد نجاح المهمة، توجه ضابط أمريكي إلى الشاه حاملاً ذات الرسالة، للتأكيد على ما قاله وودهاوس، وهو نورمان شوارتسكوف، والد نورمان شوارتسكوف، قائد القوات الأمريكية في حرب الخليج الثانية عام 1991.
كل هذه التفاصيل لا تظهر في النسخ الأمريكية لما حدث في طهران في ذلك الصيف اللاهب من العام 1953، والتي تؤكد بأن السلاح وصل بواسطة عملاء تابعين لوكالة الاستخبارات الأمريكية، وأن اسم العملية "أجاكس" كان من ابتكار كيرميت روزفيلت وليس مونتاغو وودهاووس.
حتى أن بعض الكتاب الأميركيين، ومنهم ستيفان كينزر، كاتب سيرة آلان دالاس، ينفي أن يكون لاسم العملية أي علاقة بالتاريخ اليوناني، ويرجح في كتابة The Brothers أن يكون نسبة لمسحوق الغسيل Ajax، في إشارة إلى رغبة أمريكا بـ"تنظيف أيران وتطهيرها" من النفوذ الشيوعي. وهذا يتناقض طبعاً مع حقيقة دامغة، وهي أن محمد مصدق لم يكن شيوعياً بالمطلق، بل أرستقراطي فارسي ووطني متطرف. كان يكره الشيوعية بقدر ما يكره الهيمنة البريطانية على ثروات بلاده. والمعروف أيضاً أن المحرض الرئيسي للانقلاب، بالنسبة للإنكليز، كان تأميم مصدق لقطاع النفط في إيران، وضرب شركة النفط الإيرانية البريطانية، التي باتت تُعرف لاحقاً باسم British Petroleum BP.
إذاً، هدف بريطانيا من الانقلاب كان يختلف كلياً عن هدف الولايات المتحدة الأمريكية، فالأولى أرادته لاستعادة السيطرة على النفط، والثانية لمنع تغلغل الاتحاد السوفيتي في إيران. وهذا ما قالته مجلة LIFE الأميركية ذائعة الصيت في خمسينيات القرن الماضي، عندما بررت الانقلاب بالقول: "الروس قد يتدخلون في أي لحظة، لسرقة النفط، وإشغال حرب عالمية ثالثة". وقد استخدمت عبارة grab the oil الأمريكية، التي كررها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قبل سنوات، عند تبرير بقاء قواته في سورية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع