"أكْثِر من شرب المياه".
هذه هي العبارة التي ينفخها جميع أطباء ألمانيا في وجهك عند أي شكوى تتقدم بها في العيادة، مهما كانت الأعراض التي تعاني منها،
في حين كنا نأخذها على سبيل الضحك، إلى درجة أننا بدأنا ننصح بها أصدقاءنا عندما يعانون من ألم الفقدان، أو قلق الحب، أو هذيان الوحدة.
فإن اشتكى أحدهم من الإفلاس، قلنا ممازحين: muss Wasser trinken. أي عليك أن تشرب ماءً.
فإن اشتكى أحدهم من الإفلاس، قلنا ممازحين: muss Wasser trinken. أي عليك أن تشرب ماءً.
بدّلت منذ قدومي إلى ألمانيا خمسة أطباء، والغريب أنهم يتشاركون الشخصية نفسها تقريباً.
في البداية، كنت أذهب إلى الطبيب لأشكو هزال جسمي، أو كثرة نسياني، وضعف ذاكرتي. كان يضحك ويقول: "كم يوم إجازة تحتاجين؟ ما اسم الدواء الذي تحتاجين إليه؟"، وكأنه يشعرني بأنني أختلق الحجج لأحصل على إجازة مرضية، أو علبة دواء التهاب، إذ نعرف كلنا في ألمانيا كم أن حبوب الالتهاب صعبة المنال فيها، فيمكنك بسهولة الحصول على عشرة غرامات من أي مادة مخدّرة، لكن لا يمكنك أن تحصل على حبة مضاد حيوي واحدة، أو حقنة ديكلون المسكنة.
وعندما كنت أصرّ على شكواي، كان يقول إنها عوارض نفسية بسبب الحرب والتغييرات الجذرية عندنا!
-عندنا؟ من نحن؟
كان يجيب بأننا نحن اللاجئين/ القادمين الجدد، كثيرو الشكوى، ومعلولون.
بدأت أنشر مشكلاتي الصحية على مجموعات العرب في ألمانيا.
ولاحظت أن المئات يشاركونني الأعراض نفسها، والأغرب أنهم يتلقون التشخيص نفسه والنصائح عينها: أكثروا من شرب الماء.
إذ نعرف كلنا في ألمانيا كم أن حبوب الالتهاب صعبة المنال فيها، فيمكنك بسهولة الحصول على عشرة غرامات من أي مادة مخدّرة، لكن لا يمكنك أن تحصل على حبة مضاد حيوي واحدة، أو حقنة ديكلون المسكنة
اليوم، بعد سبع سنوات، بدأنا نتشارك أعراضاً جديدةً. أعراض حقيقية غير أعراض الوحدة والشوق والحنين وهموم إيجار منازل أهالينا في البلاد. إنها أشياء مشتركة تصيبنا جميعاً، ألا وهي: الأرق، وعدم التركيز، وضيق التنفس، والخمول، وتساقط الشعر وجفافه، والصداع، ووجع المفاصل، وفقر الدم، وزيادة في ضربات القلب، ونوبات الهلع التي تتسلل من أسفل أقدامنا إلى أعلى رؤوسنا... وبعد سلامة التحاليل، بدأنا جدّياً بالتهام حبوب فيتامين د، الذي يعوّض بدوره غياب الشمس عن أرواحنا وشرفاتنا وجلودنا، وبدأنا بشرب الماء بكثرة.
زجاجة بجانب السرير، وزجاجة في حقائب ظهورنا، وأخرى بجانب الكنبة... في كل مكان زجاجة مياه. نشرب على أمل الخلاص، لكن لا شيء يتغير...
وكأن هذه الأعراض شيء يأتي مع حقيبة السفر. شيء ما يلتهمنا من دون أن نعرف ماهيته.
نحن نشرب الماء، وطبيب العائلة يضحك من دون أن يأخذ مشكلاتنا الصحية على محمل الجد، ونطلب تحاليل عامةً، وصوراً إشعاعيةً. عجباً! فالنتائج كلها "تمام التمام".
لكن لا شيء يتغير...
نبحث عن إجابات واضحة لأعراضنا، ولا نعثر على شيء.
ثمة شيء أكثر غرابةً من عدم التشخيص. ثمة شيء يجعلني أصدّق ضحكة الطبيب الأولى، وكأنه متأكد من أن هذه الأعراض تأتي هدايا مع إقاماتنا الدائمة في بلاد الخلاص، كما نسميها.
أحياناً يصيبك شيء ما، وتشعر بأنك محتاج إلى طبيب بسرعة قصوى، إلى أن تصفعك البيروقراطية والمواعيد والإجراءات...
هنا كل الأشياء مصنفة ضمن قوائم، وكل يعمل حسب القانون المكتوب، القانون الذي لا تعرفه.
تحتاج إلى موعد من طبيب عام، ثم تحويلٍ إلى طبيب مختص، ثم موعد عند المختص. فترات انتظار طويلة تجعلك تنسى أعراضك الأولى أساساً. مخاوفك يتعامل معها الطبيب على أنها أمر طبيعي، فتهرع إلى "غوغل"... تسأل وتدخل بدوامة الهلوسات والاحتمالات.
غوغل الذي يصدّر لك السرطان، كأول خيار على سؤالك عن ثآليل الجلد، فتغرق في الهوس والخوف.
يحتلّك الخوف من أن تموت وحيداً في بيتك، بلا تشخيص، ويحتلّك الخوف من التشخيص.
ويحتلّك الخوف وعدم الثقة بكل ما يقوله طبيبك. طبيبك الذي يتعامل معك على أنك الطفل المدلل كثير الشكوى، والمريض الذي لا يعاني من شيء في التحاليل والصور، لكنه ما زال يقول إنه ليس على ما يرام. وأنت المعتاد على أطباء يتعاملون مع أعراضك بسلاسة أكثر، وطمأنينة، كأنهم يعرفون مما تعاني قبل فحصك حتى، وغالباً ما كان صيدلاني الحي هو طبيب الجميع، ونادراً ما كنت تدخل عيادةً. الصيدلاني يشخّص، ويعطي الدواء والحقن، ويقرأ التحاليل.
اليوم صار جارك هو طبيبك، وأنت طبيب جارك...
تتصل به عند أول عارض، وتسأله: هل عانيت مما أعاني؟! يقول نعم، ثم يعطيك نصيحةً، وينتهي الأمر.
ربما اليوم بدأنا بتصديق الطبيب، لربما هي فعلاً عوارض نفسية لا علاقة لها بالحالة الجسدية لأي منا. لكنها أعراض حقيقية نشعر بها، وتؤرقنا وتؤلمنا أحياناً، وحملناها على ظهورنا.
مشاعر متكدسة تحت الجلود، تظهر على شكل مرض، وربما فعلاً تحتاج أجسامنا إلى سنين طويلة لتتأقلم مع نمط الحياة هنا.
يحتلّك الخوف وعدم الثقة بكل ما يقوله طبيبك... وأنت المعتاد على أطباء يتعاملون مع أعراضك بسلاسة أكثر، كأنهم يعرفون مما تعاني قبل فحصك حتى، وغالباً ما كان صيدلاني الحي هو طبيب الجميع، ونادراً ما كنت تدخل عيادةً. الصيدلاني يشخّص، ويعطي الدواء والحقن، ويقرأ التحاليل
هنا حيث الشمس الكاذبة، التي تظهر كشمعة وسط السماء ، تُظهر لك انعكاسك على الحائط، وتمنحك جرعةً من الطاقة الإيجابية، ثم تختفي فجأةً، كأنها لم تكن. أجسادنا تشتاق إلى الشمس...
الشمس التي نعرفها وتعرفنا وتحفظ ظلالنا في الطرقات.
هنا كل الظلال غريبة، وهزيلة، لكنها حرّة، وهذا أضعف الإيمان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومينأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومينحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 5 أيامtester.whitebeard@gmail.com