شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!

"قرارات رفض لم الشمل ترقص أمامي"... وبدت يد أم العبد على فخذي ثلجةً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الخميس 13 يناير 202212:06 م

في كل مرّة يتصل فيها مكتب البلدية بي، لتحديد موعد ترجمة، أكون على موعد بوح جديد. كل مواعيد الترجمة التي قمت بها، كانت تتحول إلى بوح صباحي، يضحكني مرةً، ويبكيني مرات.

تأخر انتظارنا في غرفة انتظار الطبيب، وكانت أم العبد متعبةً، تعتلي وجهها ملامح مغتربة ضائعة، تتلفت حولها كصغيرة أفلتت يد أمها...

عند كل كلمة تقولها السكرتيرة، تلتفت نحوي، وتطلب أن أترجم حتى التحيات الصباحية.

صار لدينا بيت صغير في ريف ألماني بعيد. وزّعنا الشموع على الشبابيك، ووضّبنا أدوية الضغط وإبر الأنسولين في مكانها، ولائحةً بأسماء المترجمين، وأخرى لمواعيدنا.

تضع أم العبد يدها على فخذي، وتطبطب عليّ، وتحكي...

تحكي كأنها لم تحكي من قبل...

سألتها عن أولادها... فتنهدت، وبدأت بالكلام:

"الآن عادت بي الذاكرة إلى ذلك القطار، حين كنت هائمةً بكل شيء، أدور حول نفسي، وأنظر إلى أسماء المدن الغريبة، وأتفقد حقيبتي كل دقيقة. شيء ما كان يشعرني بأنني صغيرة جداً، ومرئية جداً، وكأن الكون كله قد توقف عند مقعدنا، أنا وأبي العبد. وضع يده على يدي، فاستكنتُ.

كان القطار منطلقاً من النمسا، إلى هولندا، مروراً بألمانيا.

وكنا قد أرسلنا كل الأولاد والبنات وأزواجهم وأحفادنا إلى هولندا، قبلنا بسنتين...

منذ أن هُجّرنا من منزلنا الأول، لم يتسنَ لنا أن نجلس وحدنا لنشرب كوب شاي واحد. لم أنم بجانب أبي العبد منذ أربع سنوات. كيف سأنام وأنا الحجة؟ شيء من الخجل والعيب كان يتربص بنا؛ همسات زوجات أولادنا، وضحك أحفادنا، والتلميحات الغريبة.

كنا نتحاشى أن يصادف استحمامنا في اليوم نفسه حتى.

يا إلهي كم اشتقت إلى أن أضع وجهي على صدره، وأغيب. أسابيع وأنا أتحايل على أبي العبد كي نلحق بالأولاد إلى أمستردام، لكنه رفض. كان يريد مساحةً لأرذل العمر. مساحة يستطيع فيها أن يحتضنني من دون نظرات اللوم والتعييب، والغمزات، والضحكات المكتومة.

يا إلهي كم اشتقت إلى أن أضع وجهي على صدره، وأغيب. أسابيع وأنا أتحايل على أبي العبد كي نلحق بالأولاد إلى أمستردام، لكنه رفض. كان يريد مساحةً لأرذل العمر. مساحة يستطيع فيها أن يحتضنني من دون نظرات اللوم والتعييب، والغمزات، والضحكات المكتومة

خليط من موروث العيب والعادات والخجل، يجعل غزل الأجداد جريمةً، ويرسم حاجزاً يفصلهم، ويُبعد الأيدي والأجساد.

كنت ارتدي حجابي أمام أبي العبد. كنت أخجل من أولادي وزوجاتهم، وكان يتحاشى النظر في وجهي، فإن ناموا أتى إلى فراشي، وقال لي بابتسامة: تصبحين على خير يا بنت.

"يا بنت" كانت كفيلةً بتعويض كل الكلام الذي لا يقال.


صار لدينا بيت صغير في ريف ألماني بعيد. وزّعنا الشموع على الشبابيك، ووضّبنا أدوية الضغط وإبر الأنسولين في مكانها، ولائحةً بأسماء المترجمين، وأخرى لمواعيدنا.

فساتين نومي الخجولة معلّقة في الخزانة، وكنبة تتسع لكلينا، كان يغازلني كما لم يغازلني مرةً، وعندما يتصل الأولاد يضحك، ويستعيذ من الشيطان. بدا هذا المنزل أكثر دفءاً من كل شيء، وكأن أبا العبد خلع وجهاً، وألصق آخر.

لربما كان يخاف من اللوم، أو من الاستهزاء مثلاً، "وبعد الكبرة جبّة حمرا"، "وبعد ما شاب ودّوه عالكتّاب"... صار ليّناً مزوحاً وودوداً، يغلي لي الشاي، ويدهن لي قدميّ بزيت الزيتون، كأنني أعيش معه للمرة الأولى!

اشتريت أحمر شفاه، دهنت به خدودي، ثم لوّنت شفاهي، وخرجت من غرفتي لأفاجئ أبا العبد. مشيت على رؤوس أصابعي، ووجهي يتحول إلى بستان فراولة، كلما اقتربت من الصالة، كلما ازداد احمراري، ودقات قلبي، أنا السبعينية التي تراهق في منزلها البعيد، يا لنا من أحمقَين، كيف ابتعدنا هكذا عن الأولاد؟".

تنظر حولها من جديد، وتكمل: "أين أبو العبد؟ لم يأتِ معي كعادته، يكره الأطباء والمشافي...".

يرنّ هاتف أم العبد فترتعب.

"إنها ابنتي"، تقول.

تفتح مكبر الصوت:

- "كيف صرتِ ماما؟".

- "الحمد الله، في العيادة ناطرة الدكتور يفوّتني، دقّي لأبوكي بالبيت اطّمني عليه".

صمت يخيّم على المكالمة.

- "ماما حبيبتي استهدي بالرحمن، وخلّصي موعدك، وروحي نامي إنت تعبانة... بابا الله يرحمه، إله سبع شهور متوفي، لسا عم تنسي؟".

"اشتريت أحمر شفاه، دهنت به خدودي، ثم لوّنت شفاهي، وخرجت من غرفتي لأفاجئ أبا العبد. مشيت على رؤوس أصابعي، ووجهي يتحول إلى بستان فراولة، كلما اقتربت من الصالة، كلما ازداد احمراري، ودقات قلبي، أنا السبعينية التي تراهق في منزلها البعيد، يا لنا من أحمقَين، كيف ابتعدنا هكذا عن الأولاد؟"

برد جسد أم العبد، وبدت يدها التي على فخذي ثلجةً. فجأةً سقط الهاتف من يدها... ورمت بجسدها على حضني، وتمتمت:

"حاسّة روحي عم تطلع من جسمي، أصوات أحفادي تناديني من بعيد، وأبو العبد يبتسم لي، الوحدة تأكلني على مهل... قرارات رفض لم شملي لأولادي، ترقص أمامي".

غفت في حضني دقائق، وأيقظها صوت الممرضة، وهي تنادي: "فراو عايدي".

الطبيب النفسي يضع صورةً عائليةً على طاولته... نظرت إلي أم العبد، وضحكتْ بصوتٍ عالٍ.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image