شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
قصتي أنا وجارتي في البلاد الباردة

قصتي أنا وجارتي في البلاد الباردة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 9 ديسمبر 202111:11 ص


لم أكن على موعدٍ مع أحد، وهذا ما جعل طرق الباب غريباً بعض الشيء.

هذه أوروبا الباردة، البلاد التي تتوجّس فيها من مصيبةٍ، في كلّ مرةٍ يرنّ فيها هاتفك، وفي كلّ مرةٍ يُطرق فيها بابك، من دون موعدٍ مسبق.

فتحت الباب، لأجد امرأةً عشرينيةً تمسك طفلتين بكلتي يديها، وترتجف...

أدخلتها من دون أن أسأل. أعرفها من بعيد؛ هي جارتي في الشارع، التي توصل ابنتها صباحاً، وتعود وهي محمّلة بأكياس الخضار، والخبز العربي، وتومئ لي بنظرة سلامٍ من خلف زجاج الشباك، فأرد التحية بنظرةٍ أيضاً.

ساعة كاملة أدور فيها حول نفسي؛ ماذا أفعل؟ هل اتّصل بالشرطة؟ هل عليّ الإبلاغ عنه الآن؟

تركت طفلتيها عند بابي، ورجعت تهرول، وهي بنصف حجاب، وبملابس منزلية خفيفة.

الطفلتان تبكيان بطريقةٍ هستيرية، وأنا لا أعرف ماذا أفعل.

جثوت على ركبتي أمام الكبيرة، ومسّدت على شعرها، فهمست في أذني: "أبوي قتل* أمي بالقشاط".

ضممتها إلى صدري، وأخرجت الألعاب كلها، والشوكولا، كأني لم أسمع شيئاً.

ساعة كاملة أدور فيها حول نفسي؛ ماذا أفعل؟ هل اتّصل بالشرطة؟ هل عليّ الإبلاغ عنه الآن؟

لم أستطع فعلها. جلست قرب النافذة أنتظر جارتي التي لا أعرف اسمها، ثم رأيتها من بعيدٍ تمسح دموعها بكمّ قميصها، ووقفتْ عند الباب، وطلبتْ أن تأخذ البنات، فدعوتها لتناول فنجان قهوةٍ، بعينٍ عليها، وأخرى على النافذة... شيء من الخوف تملّكني.

شعرت بأن خلفها وحش سيأتي، ويقتلنا جميعاً.

"يلا البيوت كلها فيها مشكلات روقي"... جملة مفتاحية قلتها لأسرد لها كيف يمكنها الاتصال بمراكز حماية المرأة.

لماذا لا تتطلق نساؤنا بسهولةٍ هنا، في هذه القارة العجوز؟ ها نحن نعيش في مجتمعاتٍ تمنحنا حق الحماية على أضعف تقدير. نستطيع أن نحمل هواتفنا، ونتصل بالرقم 110، ونخبرهم بعنوان منزلنا فحسب، وكل شيء سيكون على ما يرام

حينها أخبرتني بأنها المرّة العاشرة بعد الألف، وأنها لا تستطيع فعل شيء، وأنها في كل مرة كانت تستنجد فيها بعائلتها، يهددونها بأنهم سيرمونها في النهر، بعد ذبحها...

ثم ابتسمت، وقالت: "بس منيح وحنون".

أخذت طفلتيها، ورحلت. رحلت من دون أن أعرف اسمها حتى.

لماذا لا تتطلق نساؤنا بسهولةٍ هنا، في هذه القارة العجوز؟

ها نحن نعيش في مجتمعاتٍ تمنحنا حق الحماية على أضعف تقدير.

نستطيع أن نحمل هواتفنا، ونتصل بالرقم 110، ونخبرهم بعنوان منزلنا فحسب، وكل شيء سيكون على ما يرام؛ ستتكفل الشرطة بإبعاد الزوج المعنِّف، وبوضعنا في ملجأٍ بعيدٍ لحمايتنا، وأبناؤنا سيكونون على ما يرام... أخذتني الأفكار، وبدأت أبحر في دموعها. ربما نحن اللواتي نحمل موروثاً شعبياً ودينياً يقسمنا نصفين، نحن اللواتي نخاف من اللوم، ونخاف من الاتهامات، نهرب من كلمة عاهرة، تلك الكلمة التي تقفز أمامنا كل يوم في منشورات فيسبوك، ومقاطع تيك توك، وفي جلساتنا مع أبناء جلدتنا؛ "شفت العاهرة؟ اتطلّقت بس وصلت إلى ألمانيا!".

نخاف من أبنائنا، وعليهم.

نخاف من السكاكين... وربما نخاف من أن نطير، لأنهم زرعوا فينا أننا لم نحلّق يوماً.

في اليوم التالي، مررت بجانب نافذتها، فكانت نوافذ المنزل كلها مكسورةً، وملصفةً في شكل x بلاصقٍ بنّيٍ سميك.

نهرب من كلمة عاهرة، تلك الكلمة التي تقفز أمامنا كل يوم في منشورات فيسبوك، ومقاطع تيك توك، وفي جلساتنا مع أبناء جلدتنا؛ "شفت العاهرة؟ اتطلّقت بس وصلت إلى ألمانيا!"

بعد أسبوعٍ، لمحتها وقد ارتدت بيجامة رياضة وردية، وكان وجهها أقرب إلى لون البيجامة. ابتسمتُ فابتسمت.

شعرت حينها بأن هناك رائحة انتصار تفوح من حولنا. كأن هنالك شيئاً من القوة، وكأنها قفزت لتتناول حقّها من السماء، وهبطت.

قاطعَت حبل أفكاري، وقالت قبل أن أسألها أي شيء: "إجاه عقد عمل بعييييد... بولاية تانية، وصار يجي يوم الأحد كل أسبوعين بس!".

ضحكتْ بصوت عالٍ...

عانقتها.

  • شو إسمك؟

  • آية.


    *قتل: في بعض اللهجات، يستخدم الفعل "قتل" على أنه "ضرب". 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image