شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
فنان الضوء الذي جذبني إلى سحر الأطياف... ماهر راضي وداعاً

فنان الضوء الذي جذبني إلى سحر الأطياف... ماهر راضي وداعاً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 20 يناير 202203:05 م

حين قرأت خبر وفاته أمس، تذكرت أحد عشر عاماً من الأحلام والانكسارات، من القيامة البهية لثورة 25 يناير 2011 ونهايتها التراجيدية، المؤقتة. أمس توفي الدكتور ماهر راضي، مدير التصوير الذي حبّب إليّ سحر الأفلام، وأنا صبي، من حيث لا يدري. دخلت السينما لأشاهد "فيلم العيد"، فطالعتني مشاهد من فيلم آخر قام بتصويره، ولم تكن "الفلوس" تسمح بمشاهدته في السينما، ثم انتظرته على الشاشة الأليفة للتلفزيون. أمس فقط تذكرت أنني لم أكلم الدكتور ماهر منذ بضع سنوات، شغلتنا حتى عن أنفسنا عواصف دفعتنا إلى عتمة لا تبدو لها نهاية قريبة. أمس فقط تذكرت أن الرجل لم يحصّن موهبته بجماعة، ولا بأيديولوجيا.

حتى الجائزة الكبيرة التي حصل عليها ماهر راضي كانت من خارج مصر، ونالها عن كتاب نشر أيضاً خارج مصر. في أبوظبي كان لقاؤنا عام 2010، وأهداني كتابه "فكر الضوء" الصادر في سلسلة "الفن السابع" عن المؤسسة العامة للسينما في دمشق عام 2008، وفي عام 2009 فاز بجائزة الشيخ زايد للكتاب. نصّت حيثيات الفوز علي أهمية الكتاب الذي "يعدّ نصاً وطرحاً فريداً ومتميزاً كون الضوء قيمة بصرية ترسم المشهد وتحدِّد جمالياته ليتكامل مع الظلال الناتجة عنه؛ فالنصّ يقترب بعمق من بعض المشاهد المختارة من الأفلام، ويقدِّم تفسير الأعمال فنية الهدف منها هو المعرفة العلمية لمرحلة غير منظورة تظلّ داخل الفنان نفسه".

قلما يوجد فيلم أخرجه راضي من دون أن يكون ماهر راضي مديرَ تصويره؛ من أبرز هذه الأفلام "الإنس والجن" و"الهروب من الخانكة" و"موعد مع الرئيس" إخراج محمد راضي، و"أيام الغضب"، و"زيارة السيد الرئيس" إخراج منير راضي

قبل مقابلته كنت أعرف أنه مدير للتصوير، من أسرة "راضي" المنتمية إلى مدينة المحلة الكبرى، وقد أسهم أبناؤها في السينما والمسرح والغناء، ودائماً تختلط عليّ علاقات الأشقاء وأبناء العمومة بين محمد والسيد ومنير وماهر وعفاف راضي. وقلما يوجد فيلم أخرجه راضي من دون أن يكون ماهر راضي مدير تصويره؛ من أبرز هذه الأفلام "الإنس والجن" و"الهروب من الخانكة" و"موعد مع الرئيس" إخراج محمد راضي، و"أيام الغضب"، و"زيارة السيد الرئيس" إخراج منير راضي. وخارج العائلة عمل ماهر راضي مدير تصوير لأفلام مهمة منها "الأفوكاتو»"لرأفت الميهي، و"الطوفان" لبشير الديك. وفي فيلم "أبناء الصمت" كان ماهر المصور وعبد العزيز فهمي مديراً للتصوير.

قبل لقائنا، في أذار/مارس 2010، لم أكن أعرف انشغاله بل تفرّده في التنظير للمرئيات، وراجعت حيثيات جائزة الشيخ زايد التي جاء فيها أن الكاتب يعرض الأسس والقواعد النظرية التي يستخدمها الفنان عند تناوله العمل الفني، وكيفية استخدامها لتحقيق رؤية فنية تخيلها، للتأثير في عقل المشاهد ووجدانه، "بل توغَّل أكثر عمقاً لمعرفة واكتشاف دور الفنان ومناهج تفكيره وتناميها وتطورها مع عمله الفني من خلال المشاهد المختلفة، ويتحسّس عن قرب طاقة الفنان الشعورية وأحاسيسه، فالنصّ جديد، وهو يطرح قيماً علمية وفنية وجمالية جديدة كمنهج للبناء الضوئي في الفيلم السينمائي". اعترفتُ له أن إنجازه البحثي فاتني، ولكني لا أنسى المشاهد الإعلانية لفيلم "الجحيم".

ففي آب/أغسطس 1980 كافأت نفسي بدخول السينما، للمرة الأولى. كنت إذا مررت بدور السينما في مدينة المحلة الكبرى، وشاهدت ملصقات الأفلام، قدّرت أن العالم في الداخل لم يخلق من أجلي، هذا ترف لا يحتمله وقتي ولا مصروفي غير الموجود، غير المعترف به. كانت السينما، بحكم ضيق ذات اليد، فاكهةً مشتهاة ومستحيلة، إلا في العيد، إذ تسمح "العيدية" المتواضعة بمشاهدة فيلم. في ذلك الصيف، كنت خارجاً من صيام قاس، مصحوب بأعمال يومية شاقة في الغيط، والعيد راحة من الشغل ومن الصوم. ولم أخبر أحداً بوجهتي، وتسلحت بقروش قليلة تكفي السفر إلى المدينة في حافلة النقل العام، وشراء تذكرة لمشاهدة أي فيلم.

كانت السينما، بحكم ضيق ذات اليد، فاكهةً مشتهاة ومستحيلة، إلا في العيد، إذ تسمح "العيدية" المتواضعة بمشاهدة فيلم

كانت "سينما المحلة"، إحدى خمس دور عرض في المدينة الصناعية الصاخبة. لا يعنيني اسم الفيلم، المهم حالة المشاهدة، والانخراط في أجواء كنت أظنها لا تخصني. لا أعتاد الإظلام المفاجئ، وحاولت لملمة جلبابي حرصاً على بقايا قروش أشتري بها ساندوتش فول من محل "البغل"، وكوب عصير قصب. طويت الجلباب تحتي وانكمشت، لا أستطيع الكلام أو التدخل في شجار لا أرى أطرافه، في مقاعد الدرجة الثالثة "الترسو" حيث أقعد. عُرضت مشاهد لعادل إمام، فانتهى الشجار، وصفقوا للبطل وهو يقفز ويطيح رجالاً أشداء، وقلت إن الفيلم أكشن وكوميدي، ثم تبين أنه إعلان عن فيلم "الجحيم" لمحمد راضي، وأننا سنشاهد فيلم "امرأة بلا قيد".

رأيت الرضا في عيني ماهر راضي، وأنه فعل شيئاً مؤثراً، حين قلت إن الفتى الذي نجا من السرقة، حين تسلل إلى هذا الفضاء، أصابته المشاهد الإعلانية، التي سيعرف أن اسمها "تريلر"، وقرر تقصّي هذا السحر الذي تصنعه الألوان والظلال. قال لي إن فيلم "الجحيم" هو ثاني أفلامه كمدير للتصوير، وشرح جانباً من فلسفة الإضاءة والديكور في هذا الفيلم. قلت إن الدنيا صغيرة، فالفتى الذي حافظ على جلبابه من حروق السجائر سيقرأ رواية جيمس كين "ساعي البريد يدق الباب مرتين"، ويشك قليلاً في أن لها ظلاً في "الطريق" لنجيب محفوظ، ويشاهد فيلمين لحسام الدين مصطفى وأشرف فهمي، دون المستوى الفلسفي للرواية.

حتى الجائزة الكبيرة التي حصل عليها ماهر راضي كانت من خارج مصر، ونالها عن كتاب نشر أيضاً خارج مصر

في الشهر التالي، أيار/أبريل 2010، كان اللقاء مع ماهر راضي، وهو يكرَّم في الدورة السادسة عشرة للمهرجان القومي للسينما المصرية. سأكتشف أن الرجل الذي لا يحبّ الكلام عن نفسه، لم يذكر لي أنه فاز بجائزة التصوير الأولى في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة عن فيلم "الجحيم" عام 1981. ذكرتُ فيلم "الجحيم" وجائزته تحديداً، لأن كلامنا قبل شهر كان عن هذا الفيلم وحده، لكنه فاز بجوائز التصوير عن أفلام أخرى. أسعدني أن يصدر عنه المهرجان، بمناسبة تكريمه، كتاب "ماهر راضي... الضوء بين الفن والفكر"، للدكتور ناجي فوزي الذي حرص على أن ينسب بناء الصورة السينمائية في الأفلام الروائية للمخرج ومدير التصوير معاً.

ناجي فوزي، في مقدمة الكتاب، يردّ الاعتبار إلى صناع السينما المصرية، قائلاً إن منهم مبدعين "لهم الحق في أن نضعهم في مصاف المبدعين العالميين من أقرانهم في المهنة السينمائية، فليس الأمر من باب المبالغة التقديرية أو الدعاية المجانية، أن نعلن دائماً أن هناك عدداً غير قليل من مديري التصوير السينمائي في مصر يصلون بفكرهم الإبداعي في الإضاءة السينمائية إلى مستوى العالمية. وبدون مبالغة، فإن مدير التصوير المصري ماهر راضي هو واحد من هؤلاء... إنه فنان يتخذ من إنتاجه في فن الصورة السينمائية حقلاً لبحثه العلمي في فكر الضوء السينمائي، ليصبح البحث في فكره هذا إبحاراً في فنه في نفس الوقت".

في كتاب "فكر الضوء" يلحّ راضي على أهمية امتلاك مدير التصوير فكراً يسعى إلى التعبير عنه، وأن يكون واعياً بالبناء الضوئي للفيلم. وقبل تنفيذ الأفكار ينشأ حوار بين الفنان وعمله، حوار ذاتي حول المعنى، عن التصورات والأسلوب الملائم، "وهو جهد غير منظور لا يعرفه إلا الفنان نفسه في خياله". وينتهي الحوار، أو صراع الأفكار، بالشكل النهائي للتعبير البصري عن الموضوع. فيلم "الجحيم" دراما بوليسية؛ شاب يسرق حقيبة أموال ويلجأ إلى استراحة في طريق صحراوي، كانت الاستراحة مسرحاً للخيانات. واهتدى إلى استخدام لون واحد بدرجات مختلفة، "لون أساسي في الجملة الضوئية". وفي ضوء تصوّر راضي أعدتُ اكتشاف الفيلم، واليوم سأعيد مشاهدته.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image