خلف تلك الملامح الباعثة على السعادة وتلك الضحكة القادرة على أن تنتزع كل حواسنا، رسمت المعاناة ملامح نعيمة عاكف التي عاشت تحت جلد الـ"تمر حنة" و"لهاليبو السينما المصرية"، وأخذت تؤرق أحلامها فتقاوم وتعاند وتقف في وجه الكل معلنة أنها أقوى من الحياة نفسها، وأنها لن تسقط أو ترفع الراية البيضاء في مواجهة كل القهر والألم، الذي عاشت وتعايشت معه منذ أن فتحت عينيها على الدنيا.
في سيرك طنطا
بدأت الرحلة من مدينة طنطا في محافظة الغربية شمال القاهرة، حين تفتح وعي نعيمة عاكف على سيرك كبير اختصره وعيها على أنه الدنيا كلها، وقد حاول والدها منذ اليوم الأول أن يدفعها إلى احتراف ألعاب الأكروبات كما حال شقيقاتها غير أنها رفضت وأصرت على أن تعيش طفولتها بلهوها وصخبها وبراءتها دون أن تكون بحاجة إلى الالتزام بجدول للتدريبات وآخر للعروض الليلية بالسيرك.
يكمل المؤرخ الفني محمد أمين بقية رحلة نعيمة أو كما عُرفت بين جمهورها "تمر حنة" ويقول : "مع رفضها القاطع للانضمام إلى جماعة السيرك، عدّل الأب من خطته وبدأ في تدريب شقيقاتها أمامها مع التأكيد في كل مرة على أن الحركات التي يحاول أن يعلمها لهن صعبة و(مش أي حد يعملها).
وبينما كانت نعيمة تراقب من وراء الستار، دفعها التحدي إلى خوض التجربة لتثبت لوالدها أنها قادرة على هذا الفعل. كان الأب قد استسلم وأدمن لعب الورق، ومن هنا تراكمت الديون عليه، فحاول تسديدها من خلال السيرك وبدأ في التفكير فى فقرات جديدة تزيد من أعداد الزبائن التي تراجعت في الفترة الأخيرة، وفي أحد الأيام لاحظ أن نعيمة تؤدي حركات استعراضية راقصة وألعاب الأكروبات التي يقدمها الكبار فى السيرك بمنتهى الاحترافية، وهنا هداه تفكيره إلى أن تكون نعيمة هي الدجاجة التي تبيض له الذهب وتنقذه من ورطته".
إيرادات الفيلم الذي مثلته مع فوزي فاقت كل التوقعات، وبدأت نجومية نعيمة عاكف، التي أوصلتها إلى حد كتابة لقب "معبودة الجماهير"
يكمل أمين لنا: "في اليوم الأول لها بالسيرك كمحترفة أبهرت الكل، وزاد الانبهار حين وجد الجميع أن ابنته البالغة 8 سنوات من العمر قادرة على الرقص والغناء وتقديم ألعاب الأكروبات بمنتهى الاحترافية وكأن عمرها مضروب فى أضعافه، غير أن نشوة الانتصار غابت سريعاً حين تلقت نعيمة صفعة قوية على وجهها أبعدتها عن الأرض لمترين، بعد أن طلبت من والدها أن تحصل على أجر مساواة بباقي أفراد السيرك".
"ولم يكتف الأب بهذه الضربة الموجعة على وجه الصغيرة وإنما حرمها من تناول العشاء، لتقرر أن تحلق بعيداً عن هذا السجن، وتفاجئ أمها بأنها لم تنم في فراشها، وهربت من السيرك. في تلك الأثناء بدأت رحلة البحث عن نعيمة، حتى صادفها أحد رواد السيرك في الطريق وأعادها إلى والدها لتحظى بوصلة من الضرب التي طالت أمها أيضاً".
الانتقال إلى القاهرة
مع تراكم الديون على والدها، وبعد أن قرر أن يتزوج من امرأة أخرى حتى تنجب له الولد عقب أربع بنات من زوجته الأولى، وبعد أن حرم نعيمة من كل ما تحب، اختارت الأم أن ترحل مع بناتها إلى القاهرة رغم أنها لم تكن تعلم أين تحديداً ستحط الرحال في بلد لا تعرف فيه أي شخص.
يكمل الكاتب أحمد بكري تتمة رحلة نعيمة ويقول: "في القاهرة بدأت رحلة ثانية لنعيمة مع المعاناة، حيث اضطرت للعمل في أحد المقاهى كراقصة استعراضية لتوفر نفقات الحياة لها ولأسرتها الصغيرة المكونة من شقيقاتها الثلاث، كما اضطرت إلى العمل مع الفرق التي تتخذ من الشارع مسرحاً رئيسياً لها، يمكن خلاله أن تقابلوا كل صنوف البشر، من جاءوا للاستمتاع بفنونكم ومن جاءوا أيضاً للسخرية منكم ومن فنونكم".
فرقة البهلوانات
في محطة تالية وجدت بديعة مصابني (مكتشفة النجوم) في نعيمة عاكف فرصة للإعلان عن موهبة جديدة تضاف إلى قائمة اكتشافاتها، واعتقدت نعيمة أن الدنيا قد فتحت لها ذراعيها أخيراً لتعوضها عن كل المعاناة التي عاشتها في طفولتها. غير أن النجاح الكبير الذي حققته نعيمة في كازينو بديعة كان سريعاً، حتى بات لها زبائن يحضرون لها بالاسم، ما جعل بعض الراقصات يقعن بينها وبين مصابني.
نهاية قصة الحب كانت محطة مؤلمة لنعيمة التي ذاقت المزيد
يكمل بكري عن تلك الواقعة: "استدعتها بديعة في يوم من الأيام وطلبت منها أن تغير في طريقة ملبسها بحجة أن (الجمهور بيجي الصالة علشان يضحك ويفرفش ويتبسط، ومش هينفع نضايقه وننغص عليه عيشته)، ورغم أن نعيمة لم تفهم مقصد مصابني إلا أنها طلبت منها أن ترقص بنفس ملابس الراقصات الأجنبيات، لترد نعيمة بأنها لن ترقص بالمايوة حتى وإن كان الثمن أن تموت جوعاً.
ومن جديد عادت نعيمة إلى الشارع، بلا عمل، حتى وصل بها الحال إلى أنها لم تعد تجد المال الكافي لتوفير الطعام أو دفع إيجار المنزل المتراكم، وهنا عاد القدر يتدخل من جديد ويوقعها في طريق واحد من متعهدي الحفلات الذي اصطحبها إلى حفلاته في بعض المدن المصرية، بعد أن كونت مع شقيقاتها فرقة البهلوانات التي خطفت الأنظار".
حسين فوزي، من التعاون إلى قصة حب ومعاناة
من الفرقة انطلقت نعيمة إلى الإذاعة لتكتسب جمهوراً أكبر، حتى وصل صوتها ورقصها إلى المخرج حسين فوزي، والذي غامر بها ببطولة فيلم "العيش والملح" من إنتاج عام 1949، رغم أن الشركة المنتجة للفيلم رفضتها في البداية، إلا أن حماس فوزي، كان أكبر من رفض الشركة، التي فوجئت في العرض الأول بإقبال كبير من الجمهور، ورغم الخسائر المتوقعة، إلا أن إيرادات الفيلم فاقت كل التوقعات، وبدأت نجومية نعيمة عاكف، التي أوصلتها إلى حد كتابة لقب "معبودة الجماهير" قبل اسمها على أفيشات الأفلام، كما يقول بكري.
ويتابع لنا: "لم تتوقف علاقة نعيمة عاكف وحسين فوزي عن حدود العمل، بل تخطتها إلى قصة حب، كتبت لها رحلة جديدة من المعاناة، بسبب زواج فوزي قبل أن يجمع القدر بين قلبيهما، بعد وفاة زوجته، فعاشت عاكف أياماً سعيدة تصورتها أخيراً جاءت لتعوضها، وغلفت السعادة حياتها حين علمت أنها تحمل جنيناً في أحشائها".
"غير أنها أجهضت فتبخرت أيامها الحلوة، وبدا أنها مجرد بداية لسلسلة جديدة من العذابات، فبعد غيرة ومشاكل، ورغبة في إثبات الذات على حساب الحب والعشرة والأيام الحلوة، انفصل الثنائي وقيل حينها إن سفر نعيمة إلى روسيا لتمثيل مصر في مسابقة دولية للرقص دون رغبة فوزي هو ما هدم معبدهما على كل ما أبقاه كل منهما للآخر من محبة".
نهاية قصة الحب كانت محطة مؤلمة لنعيمة التي ذاقت المزيد، كما يؤكد المؤرخ الفني محمود العزازي: "حاولت نعيمة عاكف بعد الطلاق أن تُغرق نفسها في فنها إلا أن هاجساً جديداً أطل برأسه لينغص عليها حياتها، حيث بدأت الكوابيس والهواجس تحاصرها وتؤكد عليها أنها ستموت في سن صغير، وأنها لن تنعم بكل ما حصدته من مجد وشهرة، ورغم أنها حاولت المقاومة واستماتت في حربها ضد تلك الهواجس إلا أنها خسرت في النهاية بعد أن هاجمها المرض".
النجاح الكبير الذي حققته نعيمة في كازينو بديعة كان سريعاً، حتى بات لها زبائن يحضرون لها بالاسم، ما جعل بعض الراقصات يقعن بينها وبين مصابني
ويكمل لنا: "بعد الطلاق من حسين فوزي، تزوجت نعيمة من المحاسب القانوني صلاح عبد العليم وأنجبت طفلها الوحيد محمد، الذي عوضها حباً وحناناً عن كل أحزانها وأوجاعها، لكن السينما كانت لها بالمرصاد فتراجعت الأدوار المعروضة عليها من البطولة المطلقة إلى الأدوار الثانية، ثم السنيدة، وهو ما ترك أثراً كبيراً على نفسيتها التي كانت تسوء يوماً بعد الآخر، حتى أن زوجها اضطر إلى إعلان نيتها إنشاء شركة للإنتاج السينمائي وأنها لن تقبل بعد ذلك بأدوار أقل من موهبتها لتحسين حالتها النفسية وإجبار المنتجين على عرض أدوار أفضل وأكبر عليها".
أمل كبير وحياة قصيرة
"أمام تلك الحالة ابتعدت نعيمة عن الشاشة لمدة عام حتى طلبها المخرج حسن الإمام في فيلم (بياعة الجرايد)، ومنه إلى فيلم (أمير الدهاء)، وخلال التصوير وقعت مغشياً عليها، وحين تم نقلها إلى المستشفى تم تشخيص حالتها على أنها مصابة بسرطان في الأمعاء".
في تلك الأثناء استدعت "تمر حنة" الهاجس الذي تداعى إلى ذهنها سابقاً، بأنها سترحل في سن مبكرة، وكان أكثر ما يزعجها في ذلك الوقت ابنها الوحيد محمد صاحب الثلاث سنوات، الذي لم تعش معه الأمومة كما رسمتها وتمنت لها أن تمتد إلى عقود.
يواصل العزازي: "تعودت نعيمة كل يوم الذهاب للمستشفى لتتلقى العلاج، ومر الأمر بهدوء حتى تسرب خبر مرضها إلى الصحافة، ليصبح صراخها المكتوم معلناً، ومأساتها التي احتضنتها بين يديها مذاعة على الملأ. وفجأة ودون أي مقدمات زف إليها طبيبها البشرى وقال إن مستشفى ألمانياً حجز لها موعداً لإجراء جراحة عاجلة في 19 نيسان/أبريل 1966، مؤكداً أن نسبة نجاح العملية كبيرة.
نعيمة التي عاشت الأمل والفرحة لأيام استيقظت يوم 6 نيسان/أبريل، على نزيف شديد وهو ما جعل طبيبها يعجل بسفرها، غير أن القدر سبق الكل وخطف روحها المرحة، عن عمر 36 عاماً، بينما كانت تنطق باسم طفلها محمد، ليشيع جمهورها جثمانها في نفس اليوم الذي كان من المقرر أن تطير فيه إلى ألمانيا لتتلقى العلاج على أمل أن تعود من جديد لابنها ولجمهورها الذي طالما انتظرها على أبواب قاعات العرض مع كل عمل جديد".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع