سمرقند، مدينة القباب الزرقاء، واللون الأزرق الفيروزي الذي أحبه تيمورلنك قبل مئات السنين وطبع به المدينة بأكملها ليصبح اسمها فيما بعد "المدينة الزرقاء". حمل اسم سمرقند لقرون عديدة جواً من الصوفية المميزة. تقع هذه المدينة الأسطورية في عمق سهوب آسيا الوسطى على الحدود الخارجية للجغرافيا، في أوزبَكِستان. استولى عليها الإسكندر ونهبها جنكيز خان، ثم أصبحت في ما بعد عاصمة إمبراطورية تيمورلَنك الأبدية.
كتب الشاعر الأمريكي الشهير إدغار آلان بو عنها: "والآن، أجّل بصرك في سمرقند/أليست ملكة الدنيا؟/مزهوة على جميع المدن، وفي يديها مصائرهن؟". ووصفها ابن بطوطة في رحلته الشهيرة: "إنها من أكبر المدن وأحسنها وأتمها جمالاً، مبنية على شاطئ وادٍ يعرف بوادي القصَّارين، وكانت تضم قصوراً عظيمة، وعمارة تُنْبئ عن هِمَم أهلها".
يقول المؤرخون إنه بين عامي 1404 و1841، اخترق الأوروبيون عزلة سمرقند الكبرى. ولكن اليوم، على الرغم من أنها لا تزال محاطة بالصحاري والسلاسل الجبلية، إلا أن أمجادها لا تزال تلوح في الأفق البعيد. هذا المكان الذي كان يُعرف بمرآة العالم وحديقة الروح، والذي كان في يوم من الأيام يذهل ويخيف النفس الأوروبية، أصبح من أهم المعالم السياحية. فلم تعد سمرقند قاعدة لجحافل الغزاة الذين يمارسون الإبادة الجماعية، ولم تعد مجالاً لأمراء الحرب القساة، ولم تعد حتى جزءاً من الاتحاد السوفياتي، ولكنها أصبحت تغري الغرباء بدلاً من صدهم.
يشقّ هؤلاء الغرباء طريقهم عبر الشوارع القديمة للتحديق بدهشة في المعالم الأثرية التي أطلقت الخيال البشري بجمالها الأسطوري لعدة قرون. تفترض السلطات الأوزبكية أن الزائرين يريدون رؤية هذه المدينة كما رآها تيمورلَنك، تعيد بناء أطلالها الفخمة، وتعيد طلاء الواجهات الباهتة وتكسي البلاط الجديد على الجدران حيث سقطت الجدران القديمة. تلك المعالم الأثرية العظيمة المستوحاة من المدينة الفارسية تم إعادة تشكيلها، ورسمها وبنائها.
يشقّ هؤلاء الغرباء طريقهم عبر الشوارع القديمة للتحديق بدهشة في المعالم الأثرية التي أطلقت الخيال البشري بجمالها الأسطوري لعدة قرون
هل كان قصدهم تكريم هذه المدينة الرائعة أم أنه نوعٌ من التخريب حسن النية، بعد أن تم تحويل سمرقند اليوم إلى مدينة ملاهٍ، وهي نسخة مثالية من عالم عجيب قد يصلح أن يكون في لاس فيجاس، ولكنه يبدو مؤلماً في غير محله هنا.
سد الثغرات
لعل أشهر مكان في سمرقند على الصعيدين العمراني والديني هو مجمّع "شاه زِنده" المقدس، الواقع على السفح الجنوبي من تل أفراسياب، وهو مقبرة ضخمة لأمراء مرتبطين بالسلالة التيمورية. يقال إن تنوع الزخارف لتلك الأضرحة ذات القباب هو الأعظم في آسيا الوسطى. كان الاكتشاف الأكثر روعة بين الحفريات الأثرية هو اللوحات الجدارية من القرن السابع، وهي معروضة في متحف أفراسياب الواقع على الطرف الجنوبي الشرقي من التل.
"والآن، أجّل بصرك في سمرقند/أليست ملكة الدنيا؟"
داخل مقبرة شاه زنده الخلابة، التي اشتهرت منذ فترة طويلة بأرقى مجموعة من فن الخزف في آسيا الوسطى، تعطينا الجدران المصممة بشكل معقد والمكسوة بالبلاط الملون إحساساً حيوياً عما كان يجب أن يكون عليه السير في هذه المناطق منذ قرون. لكن الممرات القديمة نفسها رُصفت حديثاً بأحجار بلاطة ناعمة، وتم ملء الفجوات في أعمال البلاط بنسخ حديثة غير متطابقة مع الحقيقة منها.
تقول لاريسا مالوفا، الرسامة التي تبيع اللوحات المائية لشاه زنده للسياح العابرين: "أشعر أن الحقيقة هنا بدأت تضيع، لقد منحتني الأجزاء الأصلية من المكان هذا الشعور الدافئ، والاتصال بالأيام الخوالي، لكن شخصاً ما قرر أن السائحين يرغبون أن يبدو كل شيء مثالياً"، ثم تابعت تقول بحسرة: "كل عام يُعاد بناء المزيد هنا، مما يعني أنه يتم فقدان المزيد مع مرور الوقت''.
تتمركز سمرقند اليوم في ساحة ريجستان، وتتركز العديد من المعالم التاريخية التي تذكرنا بالعصور القديمة حول الميدان. يمكن رؤية ثلاث مدارس إسلامية ضخمة تحيط بالميدان؛ هي مدرسة "شيردار" ذات الزخارف التي يظهر عليها أسد يزأر، ومدرسة "تيلا كوري" التي تتميز بزخارف مذهبة على الجدار الداخلي للقبة الزرقاء، ومدرسة "أولوغ بيك" التي بناها عالم الفلك الشهير، حفيد تيمورلَنك.
سمرقند، مدينة القباب الزرقاء، واللون الأزرق الفيروزي الذي أحبه تيمورلنك قبل مئات السنين وطبع به المدينة بأكملها ليصبح اسمها فيما بعد "المدينة الزرقاء"
كانت ساحة ريجستان أكثر المعالم الأثرية روعة وشهرة منذ بنائها في القرن الخامس عشر، وهو فناء مفتوح محاط من ثلاث جهات بأقواس مرتفعة ومآذن شاهقة وقباب فيروزية. كتب اللورد كرزون بعد زيارته قبل قرن من الزمان: "في الأصل كانت ريجستان هي سمرقند، وعلى الرغم من حالة الخراب الذي وصلت لها، تبقى أنبل ساحة عامة في العالم". أما اليوم، ذهب الخراب المجيد ومعه الكثير من نبل ريجستان، فواجهات المساجد والمدارس الدينية أصبحت مشرقة للغاية لدرجة أنها تبدو مغطاة بورق حائط أزرق اللون إلى درجة الثمالة. يوجد في الفناء الخلفي لساحة ريجستان لافتة صغيرة مكتوبة بخط اليد، كُتب عليها "متحف". وهي تشير إلى الطريق لعرض صور فوتوغرافية بالأبيض والأسود تُظهر الروعة التي تخسرها سمرقند الآن.
قصة خيالية
تعطينا الصور التي التقطت في مطلع القرن لمحة عن حياة المدينة وسط الأطلال القديمة، وعلى الرغم أن في هذه الصور لا توجد قباب كاملة أو جدران سليمة تماماً ، ولكن هناك ما يكفي من المجد ليعطينا إحساساً بالرهبة والوقار. يفضل أمين هذا المعرض الجلوس بين صوره بدلاً من الخروج والاطلاع على ما فعلته السلطات باسم حفظ التراث.
انتابني الكثير من الحزن أثناء حديثه لشدة أنني نسيت أن أساله عن اسمه، وتابع يقول: "كان التجول في سمرقند رومانسياً للغاية، كان الأمر أشبه بالعيش في قصة خيالية. حاول علماؤنا إيقاف ما حدث، لكن لم يكن بوسعهم فعل شيء. عندما يأتي مسؤول حكومي ويقول إن الأنقاض ليست لطيفة بما فيه الكفاية ولا ترضي عينيه ويجب إعادة بنائها، لا توجد وسيلة للناس العاديين للاحتجاج".
المصير المحزن نفسه يلف مدينتين تاريخيتين أخريين في أوزبكستان، خيوة وبخارى. في بخارى تم وضع البلاط على جدران غير مكتملة، وأعيد طلاء الأسقف بألوان مبهرجة، أما في خيوه فقد تم تنظيف الأبواب الخشبية المنحوتة بطريقة لم تزل الأوساخ فقط، وإنما الكثير من التفاصيل الأصلية أيضاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه