مع انطلاق الاستشارة الوطنية في تونس التي سترسم ملامح النظام السياسي المقبل، والإصلاحات الاقتصادية، وغيرها، تعود إلى الواجهة السجالات بين الفاعلين في المشهد؛ بين من يرى أن إجراءات 25 تمّوز/ يوليو الماضي انقلاباً، وبين من يرى أنها تصحيحاً لمسار الثورة التي أطاحت بالرئيس الراحل زين العابدين بن علي، بين من يرى أن الوضع الحقوقي يتجه إلى التأزم، وآخرين يستبشرون بفتح بعض الملفات القضائية وتوقيف متهمين وغيرها من المتضادات.
وسط كل هذا وذاك، تغيب الأسئلة الأهم، وهو غياب قد تكون تكلفته باهظةً: أين مصلحة المواطن التونسي؟ هل من برنامج اقتصادي قادر على انتشال البلاد من أزمتها بما يُفرز تطوراً على المستوى المعيشي للتونسيين؟
أين مصلحة المواطن التونسي؟ هل من برنامج اقتصادي قادر على انتشال البلاد من أزمتها بما يُفرز تطوراً على المستوى المعيشي للتونسيين؟
لا أحد قادر على الإجابة على هذه الأسئلة، سواء من الفاعلين السياسيين، أو الحقوقيين، أو من غير هذه المعسكرات التي تدور جل معاركها حول بسط النفوذ والسلطة، وهما معطيين تحولا بعد الثورة إلى ما يشبه الهوس لدى هؤلاء.
لجرد حصيلة العشرية التي تلت الثورة في تونس، يكفي النظر إلى الابتهاج الذي حظيت به إجراءات 25 تموز/ يوليو، والشعبية الكبيرة التي باتت تحظى بها عبير موسي، رئيسة الحزب الدستوري الحر، وحزبها. فالإجراءات قد تفضي فعلاً إلى ديكتاتورية، بعد أن جُمعت كل السلطات بيد الرئيس سعيّد. أما الحزب الدستوري الحر فتقوده امرأة لا تجد أي حرج في الإعراب عن فخرها إزاء 23 سنةً من حكم الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، بما شهدتها من قمعٍ للمعارضة، وغيرها من الممارسات.
هذان المعطيان يُحددان بما لا يدع مجالاً للشك، حالة الوهن التي بات عليها المواطن التونسي العادي، الذي لم يجنِ من الثورة شيئاً، على عكس هؤلاء الذين لا زالوا يصدحون بشعارات الحرية والديمقراطية في الشارع، والذين استفادوا بشكل ما من الثورة، فهو بات مستعداً لمنح ثقته لأيٍّ كان على أن يُخلّصه من النخبة التي حكمت البلاد بعد أحداث 2011.
فقد منح هذا المواطن نفسه الثقة للإسلاميين، في انتخابات 23 تشرين الأول/ أكتوبر 2011، عندما حازت حركة النهضة على غالبية المقاعد في المجلس الوطني التأسيسي الذي كانت مدته محددةً بسنةٍ واحدة، ومع ذلك تم التمديد له لإفراز "أحسن دستور في العالم"، على ما عرّفه الواقفون خلفه من نواب مؤسسين.
اتسمت تلك الفترة بفوضى غير مسبوقة عرفتها تونس، إذ يكفي أنها شهدت موجة تسفيرٍ للشباب إلى سوريا، وأحداث السفارة الأمريكية، والاغتيالات السياسية، عندما طاولت الشهيدين شكري بلعيد، ومحمد البراهمي، ما أدى في النهاية إلى بروز استقطاب حاد بين الحركة الإسلامية والعلمانيين، مؤلفاً من حزب نداء تونس، واتحاد الشغل ذي النفوذ الواسع، وأحزاب يسارية أخرى تتقدمها الجبهة الشعبية.
أما اليوم، وقد بلغ الصراع ذروته، ونجح الرئيس سعيّد في قطع أشواط لصالحه، أولاً عبر إزاحة النهضة من دوائر الحكم، وثانياً عبر المسارات القضائية التي تواجه الحركة الإسلامية، وثالثاً وهو الأهم عبر بداية وضع أسس مشروعه السياسي، فإن السؤال الأهم يبقى حول مصير المواطن التونسي المهمّش
نجح حزب نداء تونس، ورئيسه الراحل الباجي قائد السبسي، في الإطاحة بالنهضة، في صندوق الانتخابات في 2014، لكنهما توافقا بعد ذلك ليس من أجل تحسين الوضع الاقتصادي الهش، لكن لتمرير أجندة كل طرف منهما؛ فالنهضة كانت متوجسةً من مآلات التعنّت، فسعت إلى تقديم تنازلات، وفي الوقت نفسه ضمان عدم فقدان نفوذها في مواقع حساسة، زيادةً على ضمان عدم محاسبة أحد قياداتها من الذين أداروا مرحلة الترويكا، ونداء تونس كانت له هو الآخر أجنداته وأولها المصالحة مع رموز نظام بن علي، ثم السيطرة على الحكومة، قبل أن يمنح قائد السبسي الأولوية لابنه على مصلحة البلاد، وهو ما أدى في النهاية إلى تفتت ما تبقى من حزبه، وتوتر علاقته برئيس الحكومة وقتها، يوسف الشاهد، الذي يتحمل هو الآخر بلا شك جزءاً كبيراً من الأزمة التي عاشتها وتعيشها تونس.
في انتخابات 2019، نجح قيس سعيّد، ذلك الأستاذ الجامعي المتقاعد في الوصول إلى سدة الرئاسة، بعد أن لقي دعماً من الشباب، ثم من أحزابٍ بينها حركة النهضة التي كان يراودها حلم التوافق معه في ما بعد، على الرغم من اتهامها له في السابق بأنه لا ماضي ثورياً له، بالإضافة إلى أنها كانت تسعى إلى عدم الوقوف في الدور الثاني من الرئاسيات، مع رجل يوصف بالفاسد، وهو نبيل القروي.
قدّرت الحكومة التونسية في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، عجز الميزانية لسنة 2022، بـ20 مليار دولار. كيف سيتم سد هذا العجز؟
لم تمضِ أشهر كثيرة حتى بدأ التصادم بين الطرفين بسبب الحكومة، ثم المحكمة الدستورية، وغيرهما، فالنهضة بدت مصممةً على الحفاظ على نفوذها، في مقابل رئيس يسعى جاهداً إلى الإطاحة بالنخبة الحاكمة حالياً، وإفراز نخبة جديدة تنتصر للشعب المقهور وفق قوله.
أما اليوم، وقد بلغ الصراع ذروته، ونجح الرئيس سعيّد في قطع أشواط لصالحه، أولاً عبر إزاحة النهضة من دوائر الحكم، وثانياً عبر المسارات القضائية التي تواجه الحركة الإسلامية، وثالثاً وهو الأهم عبر بداية وضع أسس مشروعه السياسي، فإن السؤال الأهم يبقى حول مصير المواطن التونسي المهمّش، وخاصةً الطبقة الوسطى، تلك الطبقة التي كانت جل الشعارات تدور في فلكها، سواء من طرف الأنظمة التي تروّج أنها تحاول الحفاظ عليها، أو من نقابات وازنة مثل اتحاد الشغل، التي تسوّق للدفاع عنها.
بدأت هذه الطبقة تتلاشى بالفعل، فالسياسات الاقتصادية المتّبعة كرّست غياباً واضحاً للعدالة الجبائية، بعد فشل الحكومات المتعاقبة في إيجاد نوع من التوافق حول الضرائب بين مختلف الفئات.
قدّرت الحكومة التونسية في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، عجز الميزانية لسنة 2022، بـ20 مليار دولار. كيف سيتم سد هذا العجز؟ الجواب هو إثقال كاهل الطبقة الوسطى بالضرائب، خاصةً في ظل عدم قدرة البلاد على اللجوء إلى المانحين الدوليين، على ضوء مؤشرات سلبية للغاية مثل الترقيم السيادي لها.
وقالت دراسة للمعهد التونسي للدراسات الإستراتيجية، في أواخر العام 2018، إن الطبقة الوسطى تراجعت في حدود الـ25 في المئة.
لقد بات جلياً أن الطبقة الوسطى في تونس، وهي طبقة تأسست بخيار سياسي واجتماعي، هي ضحية الصراعات السياسية، إلى جانب المناطق الداخلية، التي ترزح هي الأخرى تحت وطأة أوضاع صعبة يتغاضى المتناحرون الآن حول الديمقراطية واستقلالية القضاء والحريات وغيرها، عن الخوض فيها. هم ضحية الصراع حول السلطة، فهؤلاء فيهم من يحاول استعادة نفوذه، وفيهم من يحاول التأسيس لنخبة جديدة لكي تحكم.
يجد اليوم التونسيون أنفسهم بين الحديد والنار، فمعارضة الرئيس سعيّد، ومحاولة عرقلة عملية الإصلاح برمتها، تعنيان الوقوف إلى جانب طبقة سياسية سعوا في الأمس، إلى إطاحتها، وهي طبقة فاشلة بالفعل، في مقابل ذلك فإنه من غير الواضح ما إذا كان رئيس الجمهورية يملك برنامجاً اقتصادياً قادراً على إخراج البلاد من الأوضاع التي تردت إليها
يجد اليوم التونسيون أنفسهم بين الحديد والنار، فمعارضة الرئيس سعيّد، ومحاولة عرقلة عملية الإصلاح برمتها، تعنيان الوقوف إلى جانب طبقة سياسية سعوا في الأمس، إلى إطاحتها، وهي طبقة فاشلة بالفعل، في مقابل ذلك فإنه من غير الواضح ما إذا كان رئيس الجمهورية يملك برنامجاً اقتصادياً قادراً على إخراج البلاد من الأوضاع التي تردت إليها.
فعلى الرغم من طرحه مشروع الشركات الأهلية، إلا أنه لم يقدّم حتى كتابة هذه السطور، قانوناً ينظّم عمل هذه الشركات المرتقبة، كما أن عملية الصلح الجزائي مع رجال الأعمال، أيضاً هي عملية يكتنفها الكثير من الغموض.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...