رائحة القصص التي لا تنتهي بالضرورة "عندما تنتهي"، تتربّص خلف الأفلام التي نشاهدها بحثاً عن أنفسنا في الدرجة الأولى، وفي كفاحنا المستمر لإشباع جوعنا لحياة لم تبدأ بعد، ووسط نضالنا الفاشل سلفاً للهروب من الواقع.
وسلام على "ثوما" بوقارها الأسطوري في ملصق أوبريت "غراميّات عايدة". وبما أنها "سيرة وانفتحت"، سلام على الكتابة اليدويّة الزخرفيّة والصور الملوّنة الخياليّة التي تروي الكثير من النوادر الصغيرة خلف قصة هذا الفيلم أو ذاك، في الملصقات التاريخيّة والنادرة التي يحتفظ بها الشاب محمد دياب، ويعاملها بكثير من التفهّم والحب.
سلام على الكتابة اليدويّة الزخرفيّة والصور الملوّنة الخياليّة التي تروي الكثير من النوادر الصغيرة خلف قصة هذا الفيلم أو ذاك، في الملصقات التاريخيّة والنادرة التي يحتفظ بها الشاب محمد دياب، ويعاملها بكثير من التفهّم والحب
وها هو خجل العاشقة الأبديّة فاتن حمامة، يتجلّى من خلال الرسمة المنجزة يدويّاً في ملصق فيلم "الحرام". وصحيح أن ملصق فيلم "شمّ النسيم"، كما يروي لنا دياب خلال جلسة مطوّلة في قهوة بيروتيّة شعبيّة، "لم يظهر على الأرجح منذ عرض الفيلم عام 1952، ولكن بعد بحث طويل تمكّنا من العثور عليه، لكن وجدنا فقط النصف العلوي من هذا الملصق المكوّن من ورقتين، وعلى الأرجح لن نتمكن من العثور على النصف السفلي أبداً".
عن الشغف بملصقات الأفلام المصريّة التي ظهرت خلال الفترة الذهبيّة من ثلاثينيات القرن الماضي وحتى الثمانينيات منه
قصص غير مروية
القصص التي لم ترو بعد هي أيضاً قصص. ولهذا السبب، أنشأ هذا الشاب الشغوف منصّة City Lights Posters المتخصّصة بملصقات الأفلام المصريّة على وجه التحديد، وخلال الفترة الذهبيّة التي امتدت من ثلاثينيات القرن الماضي وحتى الثمانينيات منه، ليكون للحكايات التي ترنّحت في الكواليس على أنغام نزوات الأبطال ويوميّاتهم، لحظات لا يريدها عابرة.
وقد استوحى الاسم من العلاقة بين السينما ونمط الحياة في المدن العربيّة في منتصف القرن، حيث برزت ملصقات الأفلام وأضواء السرادق وزيّنت مدخل صالات السينما بـ"قامتها المهيوبة".
وها هي شاديه "العيّوقة" التي تليق بها "الزنطرة" والدلال، تلوي رأسها "شي ما بينذكر" لتستسلم لقبلة جامحة ( أقلّه، بقدر ما كان مسموحاً به في ذلك الوقت!) من محبوبها في ملصق فيلم "ألف ليلة وليلة". ولسمحوا لي أن ألفت انتباهكم بأن ألوان الملصق طبيعيّة، و"الزوايا" تتفتّح وردة جريحة بألوان متوهجة وساطعة، وذلك بفعل الطباعة الحجريّة التي تميّزت بها ملصقات الأفلام المصريّة حتى منتصف ثمانينيات القرن الماضي، وجعلت الملصقات تبدو وكأنها في الواقع لوحة فنيّة.
ترعرع دياب الذي لا ينتبه لأي شيء يدور من حوله عندما تنبثق النوادر من ذاكرته فيحوّلها قصصاً طريفة، سرعان ما تتحوّل نديمة الجلسة، مع الأفلام المصريّة.
ويرى في الملصقات النادرة التي يضعها في تصرّف الهواة وشغفهم المجنون، الانعكاس الحقيقي للهوية الثقافية العربيّة. وأكثر ما يفتنه ويشغل باله في هذه الملصقات "المنحوتة نحتاً"، هو استعمال الخط العربي بأسلوب أنيق وحرّ، جعل العلاقة بين الفنان الذي يصمم الملصق والخطّاط، تستريح على الإبداع غير المكبوح، والخلق الذي يجاور الجنون بانفتاحه وقدرته على تحويل الأحرف لامتداد طبيعي لحوادث الفيلم. فإذا كانت القصّة رومنطيقيّة بإطلالتها، تنساب الأحرف بدلال العاشقة، وإذا كان التشويق والرعب من العناصر التي تتربّص خلف المشاهد وتحرّك اتجاهها، تظهر الأحرف وكأنها تعيش التوتر والخوف من خلال حركة الخط فيها المترنّحة، وهكذا دواليك.
قد تكون الملصقات النادرة للأفلام المصرية التي يعشقها الهواة ويشغف بها الناس انعكاسًا حقيقيًّا للهوية الثقافية العربيّة
فيا أهلا بالمصممين الذين كتب لهم المجد في تلك الأيام، نذكر منهم على سبيل المثال، راغب عبد الرحمن، أحمد فؤاد ووهيب فهمي، من دون أن ننسى "جسور" الذي يقال إنه صمم أكبر عدد من الملصقات السينمائية وامتدت حياته المهنيّة 4 عقود. ويروي محمد دياب أن هؤلاء الفنانين كانوا يحضرون مقر التصوير أو ينطلقون من بعض الصور الخاصة بالفيلم بعد انتهاء التصوير، ليبتدعوا الملصق الأقرب إلى عمل فني يتميّز بالرقي والكثير من الانتباه إلى أدق التفاصيل... وياأيها الشيطان، استوطن فيها بقدر ما تشاء.
من يعلم، قد نفهم شعور شادية وهي تلوي رأسها "شي ما بينذكر" باستسلام العاشقة التي تنتظر قبلة المحبوب بعطش "مقلق"
ويعمل محمد مع مجموعة من الموظفين المستقلين في مكتب مخصص لهم في منصّة Antwork القائمة في أول شارع الحمراء البيروتي التاريخي، والتي تضع فسحتها في تصرّف المحترفين من جميع الحقول.
وبإمكان الزائر أن يتصفّح المجموعة الكبيرة التي يملكها محمد ويؤكد بأنها أصليّة ولا تخضع لـ"الاستنساخ" أو إعادة الطبع (وتتعدى الألف ملصق)، عبر الموقع الذي ولد في العام 2017 وبعد أعوام طويلة من هواية تجميع الملصقات التي أدمنها محمد باكراً، وبفضلها أنشأ نادياً سينمائياً صغيراً للأصدقاء، عرض فيه الأفلام القديمة من خلال الـBlue Ray (أسطوانة مرئيّة عالية الدقة).
كما بإمكانه أن يقرأ عن كواليس الأفلام وبعض ومضات من التاريخ في البلوغ المشوّق فيه. فنجان قهوة (للمدمنين مثلي!) ورحلة قصيرة مع متخصصين في تاريخ الأفلام. هيا بنا نقرأ عن "ثنائية الريف والمدينة في الأفلام والثقافة المصريّة"، أو"عندما استحوذت الأفلام الغنائيّة المصريّة على شباك التذاكر".
ولهؤلاء الذين يعشقون لمس الملصق (أو البوستر) والوقوف وجهاً لوجه مع نزوات الفنان (المجنون بقدرته على استحضار الشرقطة في ملصق يحوّله لوحة) الذي خلّد من خلاله الأفلام، ينظّم محمد وفريق عمله الصغير جولات تستمر الواحدة منها ما يقارب الساعتين، للغوص في تاريخ الملصقات، وللاستماع إلى النوادر عن هذا الفيلم وذاك، والانهماك بالقيل والقال حول هذا البوستر وذاك.
ومن يعلم، قد نفهم شعور شادية وهي تلوي رأسها "شي ما بينذكر"، باستسلام العاشقة التي تنتظر قبلة المحبوب بعطش "مقلق".
وفي كل الأحوال، سنخرج من الجولة وفي دفتر ذكرياتنا "كم خبريّة" وبعض قصص. إذ إن القصص التي لم نسمعها من قبل هي أيضاً قصص.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...