من دون تعقيدات، فإن الدول نشأت حين قررت مجموعة من البشر، يسكنون حيّزاً مكانياً معيّناً، أن يختاروا من يدير شؤونهم، ويتولى تيسير حياتهم اليومية. وعليه، فإن ثروات أي دولة، ومواردها، هي في الأصل ملك مواطنيها، لا ملك أي سلطة. تلك هي الحقيقة الثابتة التي أقرّتها الدول كافة، وما كنت أظن أنني سأضطر إلى التذكير بها، ونحن في القرن الواحد والعشرين.
لكني اضطررت إلى ذلك، حين وجدتني في دولة لا تعاملنا كمالكين أصليين لثراوتها، بل كـ"زبائن" يجب عليهم دفع كل خدمة تُقدَّم لهم. ظهر ذلك جلياً في قرارات إلغاء بطاقات الدعم التمويني لأي متزوج حديثاً، وسبقت هذا عشرات القرارات المماثلة، فخلال سنوات قليلة في مصر، رُفع الدعم عن الوقود والكهرباء، وباتت الخدمات "سلعةً" ندفع ثمنها شهرياً، كما ندفع حق المرور عبر الطرق الجديدة، والعلاج في المستشفيات العامة، وأخيراً رسوماً كي يستطيع الطالب الدخول إلى امتحانه، وهو ما أكد لي أن تلك هي السياسة الحالية للدولة، وأن الحديث عن كونها إجراءات مؤقتة لإصلاح اقتصادي شامل، لم يكن إلا نوعاً من الخداع، على الرغم من أن المفترض أن تمويل تلك الخدمات يأتي من الموارد التي تدخل إلى خزينة الدولة، والتي هي مواردنا نحن كمواطنين في الأساس.
أصبحت "زبوناً" في بلدي يدفع ثمن الخدمات كافة، وربما كنت أرتضي ذلك إن صاحبه انفتاح سياسي واقتصادي، وأصبح لي حق مراقبة مصير الأموال التي أدفعها من جيبي
وللإنصاف، فإن نموذج "الزبون" ليس حكراً على مصر، وعلى الرغم من أنه لا تعارض بين أن تكون مواطناً، وتحصل على حريتك، وتشارك في صنع قرارك، فإن قلةً من الدول فعلت ذلك، أما الأغلبية في رأيي، فتعاملت مع مواطنيها من خلال نموذجين؛ أولهما نموذج "المواطن" الذي تتكفل به الدولة من خلال توفير المسكن والمأكل والتأمين الصحي والاجتماعي بسعرٍ رمزي، مقابل حرمانه من أي مشاركة سياسية في السلطة، أو رقابية عليها. وفي مصر عشنا تلك التجربة مع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، كما أنها مستمرة حتى الآن في دول الخليج وغيرها، مهما قيل عن دساتير وإجراءات "ديمقراطية" لا تغيّر من جوهر الحكم شيئاً.
أما النموذج الثاني، فهو "الزبون"، والمقصود به ألا تلتزم الدولة تجاه مواطنيها بأي شيء، فجميع الخدمات والسلع من صحة وتعليم وطرق ووقود، يتم دفع ثمنها، سواء من خلال الضرائب، أو نقداً، من دون أي دعم، لكن مقابل ذلك فهناك الحريات السياسية التي تسمح بتداول سلمي للسلطة، بالإضافة إلى حرية المعتقد والرأي وإنشاء الأحزاب، وبالطبع الحرية الاقتصادية الممثلة في قطاع خاص يمكنه أن يزاحم تلك الدول في تقديم الخدمات والسلع لتوفير الأفضل بأقل سعر ممكن، طمعاً في الاستحواذ على السوق.
أما أنا، فحتى صفة "الزبون الحر"، لم تنطبق عليّ، لأنه ليس من حقي اختيار التاجر الذي أشتري منه، إذ لا يوجد سوى "دكان واحد".
وهذا النموذج هو أساس الشعار الغربي "لا ضريبة من دون مشاركة"، أي ببساطة إذا كانت الدولة لن توفر شيئاً، وستأخذ حق الخدمات، فيجب علينا المشاركة لنعرف أين تُصرف أموالنا؟ وكيف؟ وأي السبل أفضل للإنفاق؟ وتقوم بتلك المهمة الصحافة والأحزاب المعارضة ومؤسسات المجتمع المدني باستقلالية تامة.
بالنسبة إلى مصر التي عاشت خلال فترة عبد الناصر، في ظل نموذج "المواطن"، فقد بدأت التحول إلى الخيار الثاني، في عهد الرئيس الراحل أنور السادات، حين بدأ بسياسة الانفتاح الاقتصادي في منتصف سبعينيات القرن الماضي، وتبعتها بمحاولة رفع الدعم عن بعض السلع التموينية، ما أدى إلى انتفاضة الخبز 1977، التي أدت إلى التراجع عن تلك القرارات.
وفي عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، الذي عشت في عهده عقدَين من عمري، لم تتغير سياسة الدولة في عدم الاقتراب كثيراً من الدعم التمويني، كتبرير للقمع السياسي والأمني في العهد المباركي، وليشعرنا بأننا ما زلنا مواطنين تلتزم الدولة تجاههم بتوفير الحاجات الأساسية، مقابل التخلي عن أي أفكار تحررية، وإن كان هذا لم يُجدِ كثيراً مع جيل أدرك أن المواطنة الحقيقية لا تنفصل عن الحرية، وهو ما سعيت أنا وغيري إلى انتزاعه بخروجنا في 25 كانون الثاني/ يناير 2011.
وعلى الرغم من كوني من دافعي الضرائب التي تُحسم شهرياً من راتبي، وتزداد سنوياً تحت مسميات كثيرة، لكن هذا لم يمنع أن أفقد مواطنتي، تماماً خلال السنوات الأخيرة، إذ رفعت الدولة يدها عن أي دعم تقدمه للمواطنين، وتالياً أصبحت "زبوناً" يدفع ثمن الخدمات كافة، وربما كنت أرتضي ذلك إن صاحبه انفتاح سياسي واقتصادي، وأصبح لي حق مراقبة مصير الأموال التي أدفعها من جيبي، كما هو حادث مع جميع البلاد التي تتبع هذا النموذج.
حين أرادت مصر تحويل مواطنيها إلى"زبائن"، تعاملت بطريقة محمد صبحي، في مسرحية "تخاريف"، حين سأل عن الاشتراكية، فأخبروه بأن تصبح كل الأموال في يد الدولة فحسب، فاكتفى بذلك من دون سماع الجزء الثاني من الجملة، وهو أن الدولة يجب أن تنفق على المواطنين
لكن ما حدث، أنه حتى مميزات نموذج "الزبون"، لم أحصل عليها، فليست هناك حرية كاملة في ما أقول وأعتقد، وليست هناك منافسة اقتصادية قوية، وبالطبع غير مسموح بمراقبة الأموال التي أدفعها من جيبي، لتثبت مصر أنها حين أرادت تحويل مواطنيها إلى"زبائن"، تعاملت بطريقة محمد صبحي، في مسرحية "تخاريف"، حين سأل عن الاشتراكية، فأخبروه بأن تصبح كل الأموال في يد الدولة فحسب، فاكتفى بذلك من دون سماع الجزء الثاني من الجملة، وهو أن الدولة يجب أن تنفق على المواطنين. أما أنا، فحتى صفة "الزبون الحر"، لم تنطبق عليّ، لأنه ليس من حقي اختيار التاجر الذي أشتري منه، إذ لا يوجد سوى "دكان واحد".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...