شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
الترجمة الفورية...عمل آلي لإنسان يشعر

الترجمة الفورية...عمل آلي لإنسان يشعر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

السبت 15 يناير 202212:55 م

يعيش أهل بلدي


حين بدأت العمل كمترجمة شفوية، كان يشغل بالي اتقان اللغة والتمكن منها والقدرة على التعبير عن جمل تُقال بالعاميات العربية إلى اللغة الفرنسية، لغة البلد الذي استقريت فيه مؤخراً.

وعلى الرغم من الجهد الذي بذلته في الدراسة بشكل ذاتي، حين يتاح لأم مثلي الدراسة عبر الإنترنت، فقد حققت تقدماً ملحوظاً، كنت أحس في بداية تحدثي بالفرنسية كمن يرتدي ثوباً لأحد آخر، تحسّ بضيق الثوب عليك مرات وأنت تتحرّك، وتحسّ بأنه لم يفصّل على قياسك، وبأن قماشه غريب عما عهدته من أقمشتك التي ارتديتها من قبل، لكني صرت اليوم مرتاحة حين أرتدي هذا الثوب، ولم أعد أحس بثقله علي.

كرة التنس

غير أن هنالك تحديات تواجه المترجم الفوري هي أبعد من اتقان اللغة بحد ذاتها، فأنت رسول بين طرفين، غالباً ما يكون أحدهما المساعد الاجتماعي، والطرف الآخر هو دائماً هذا المهاجر الغريب الذي يحتاج أن يفهم وضعه وما هو بصدد القيام به، وربما تراوده أسئلة، ومخاوف، وأنت تنتقل برشاقة بينهما ككرة تنس بين لاعبين، تحمل رسالة بلغة مختلفة كل مرة، عليك أن تكون أميناً للكلمات، وعليك أيضا أن تحمل معها لغة جسد المتحدث متسائلاً ومجيباً، سعيداً وحزيناً، متفائلاً ومتشائماً، ومستهجناً مرات!

في مواقف السعادة والأخبار الجميلة والاكتفاء، تجد كلمات وجملاً كثيرة لتعبر بها، أما في حالات الحزن والأخبار السيئة والعوز، فتضيق العبارات والكلمات، حتى يكاد يصبح ما من داع للترجمة، يتكفل الجسد بالتعبير وتقول العيون ما لا يجرؤ اللسان على التفوّه به!

اللغة بثياب العمل

ودوماً ما تكون لغة الترجمة الفورية بسيطة مباشرة مفهومة، تبتعد عما عهدته من قبل، كاتباً أو شاعراً أو قاصاً، لغة عملية كقميص خفيف وبنطال من الجينز، تؤدي المهمة دون تكلف، لا دانتيل ولا تطريز، ولا قماش يشفّ عن مشاعرك الحقيقية أو رأيك بما يقال، وإن كان فاقعاً بالنسبة لك، أنت هنا لمهمة محددة هي الترجمة وفقط، دع مشاعرك في قفصها الصغير وتخلّص من إحساسك بالضيق والتعاطف والقهر، وترجم بلا استعارات أدبية!

التحدي الحقيقي لك كمترجم هو أن تضع مشاعرك جانباً، وتخبره بلغة رشيقة منضبطة، وبكلمات محددة بحالته تلك، أن تختصر ما أمكن دموعك، أن تحيل اللغة إلى خبر في جريدة وأن تصمت حيث تود البكاء... مجاز في رصيف22

يزيد من صعوبة مهمة المترجم في حالات كثيرة صعوبة الوضع الذي يعانيه اللاجئ أو المهاجر، فكيف تترجم له ما يخبره به المسؤول حول رفض لجوئه مثلاً، وبأي مشاعر ستنقل له خبر اكتشاف مرض خبيث لديه، هو المنفي هنا، لا عائلة تسند قلبه أو تواسيه!

التحدي الحقيقي هو أن تضع مشاعرك جانباً، وتخبره بلغة رشيقة منضبطة، وبكلمات محددة بحالته تلك، أن تختصر ما أمكن دموعك، أن تحيل اللغة إلى خبر في جريدة وأن تصمت حيث تود البكاء.

غالباً ما يطلب الآخرون الذين تترجم لهم بلغتهم، بل بلغتكم، أن تتأكد من نقاط يستغربونها، أن تستفسر، أن تبدي استغرابك، هم يريدون منك أن تتفهّمهم كما تفهمهم، أن تسندهم لأنك منهم، أصعب ما يواجههم في لحظات معينة أن يحسّوك حيادياً، رغم أن الترجمة هي مهنة الحياد أساساً، أنت ترتدي قفازات، وتكاد لا تلمس ما تنقله، في وقت تفرض اللحظات الصعبة أن تخلع قفازيك وتظهر انفعالك وتكون إنساناً، وربما تجبرك قسوة اللحظة على فعل ذلك، بل وعلى أن تكون عارياً، ليس من قفازيك فحسب بل من قلبك الذي يتمزّق ألماً وتعاطفاً، أن تكون إنساناً!

حين يطعن اللغة الألم

خانتني دموعي مرتين، مرة وأنا أترجم لسيدة أراها للمرة الأولى مع طبيبتها، وهي تحكي لها كيف ماتت ابنتها بعد شهر من دخولها المستشفى، دون أن يستطيع الأطباء إنقاذها ودون أن تستطيع فهم ما يحدث لصغيرتها، ذبلت الفتاة الرضيعة على ذراعي والدتها، كما يذبل زر الورد!

فكيف تترجم للاجئ ما يخبره به المسؤول حول رفض لجوئه مثلاً، وبأي مشاعر ستنقل له خبر اكتشاف مرض خبيث لديه، هو المنفي هنا، لا عائلة تسند قلبه أو تواسيه... مجاز في رصيف22

في المرة الثانية أخفت الكمامة التي كنت أرتديها دموعي عن عيون الشاب الذي كان يتحدث عن موت والدته في بلاد بعيدة، ساعات قبل مقابلة تتطلب منه أن يكون متماسكاً، حاضر البديهة، مقابلة ستقرر مصيره!

ظل صوتي يترجم ما قيل بكل أمانة دون أن تتغير نبرته، فيما كانت دموعي تسقط تحت ثقل الألم، حالة من التمزّق لم أستطع أن أفعل حيالها الكثير، كما لا نستطيع أن نلطف الكلمات حين يكون المعنى قاتماً، والحياة ظالمة.

تعيش حيوات الآخرين بلغتك

يبدو لي مما شهدته في هذه المهنة، وإن لسنوات قليلة، أنك كمترجم تنعم بإيجابيات وسلبيات أن تعيش مواقف جميلة وصعبة في حياة أناس آخرين، ومعهم، تضع نفسك مرات مكانهم، تستصعب ما يواجهونه، وربما تجد حلولاً، ومرات تترك معاناتهم بصماتها على نفسك، وتتعلم من كل ما سلف.

وربما تعتقد أنك بممارستك لمهنة الترجمة أصبحت تمارس عملاً مهنياً آلياً، فتكتشف أن تتقاطع مع عمل الروائي أو الأديب، الذي يعيش حياة أبطاله، بحلوها ومرها، لكنك في هذه المهنة، الترجمة للاجئين، تصبح أنت شخصية روائية، تتلقى مصائر المشاركين الآخرين وتتفاعل معها، وتجد نفسك فجأة، شخصية روائية هامشية، تموت وتحيا، تتألم وتفرح، في سطور قليلة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image