النائم في هوى المنحدر
حين أفكر في المستقبل ينتابني شعور بأن أحلامنا ستكون قيد المراقبة، ربما سيخترعون جهاز كشف الأحلام على غرار جهاز كشف الكذب، فتلك الحكومات التي تتجسس على اتصالاتنا وتراقب حساباتنا وتدويناتنا سترغب في مراقبة أحلامنا، بالتعاون مع شركات التكنولوجيا العابرة للقارات، التي تسعى لقراءة أفكارنا وتطور برامج وتقنيات الذكاء الاصطناعي يوماً بعد يوم بشكل مخيف.
ماذا لو حلمت بسيادة الرئيس أو جلالة الملك وأهنت أصحاب السمو والمعالي؟ ماذا لو رأت زوجتك مع من كنت تخونها بالأمس خلال أضغاث أحلامك؟ ماذا لو سرقت خزينة بنك وغدوت مليونيراً؟ وماذا لو قتلت مديرك الوغد أو الأولاد الذين تنمروا بك في طفولتك خلال إحدى شطحات عقلك البشري؟
تخيل أن تخلد إلى النوم على فراشك، فتستيقظ لتجد الأصفاد في يديك، ورجال الأمن من حولك يوجهون لك لائحة اتهامات تتضمن القتل أو السرقة أو قلب نظام الحكم بسبب حلم رأيته؟ ربما سنحيا حينها في جمهورية الأخ الأكبر.
تدهشني قدرة العقل البشري على صنع العوالم والهروب من الواقع وكسر قيوده، يأسرني عالم الأحلام؛ حيث تتحطم كل القوانين على شطآن الخيال، يعانق الموت الحياة وتتلاشى المسافات في لمح البصر، ونتحرر من ذواتنا للحظات دون قيود تأسرنا، أحمد الله على نعمة رفع القلم عن النائم حتى يستيقظ.
عجوز في جسد طفلة
حين كنت صغيرة كانت لدي أحلام بملء الكون، لا تعرف المستحيل، أغرق في أحلام يقظتي ومخيلة خصبة لطفلة مهووسة بقراءة القصص والروايات. كانت مخاوفي صغيرة مثلي، لا تلبث إلا أن تطفو في أحلام مزعجة، كأن أتأخر على الامتحان أو أدخله دون أن أدرس شيئاً، أو تسقط أسناني أو أفقد فردتي حذائي وأطوف الشوارع حافية أو نفقد السيطرة على سيارة أبي.
لكن كلما كبرت كلما صبغت الغرائبية أحلامي، وصرت أكثر قدرة على تجاوز العوالم والمسافات بطريقة تدهشني.
ماذا لو حلمت بسيادة الرئيس أو جلالة الملك وأهنت أصحاب السمو والمعالي؟ ماذا لو رأت زوجتك مع من كنت تخونها بالأمس خلال أضغاث أحلامك؟... مجاز في رصيف22
في منطقة الحلم حيث لا وجود لقوانين الفيزياء، ويمكن للسماء أن تمطر أسماكاً أو زيتوناً، ويمكن أن تطاردني أمواج تسونامي دون أن أغرق، وينبت لي جناحان وأحلق عالياً حتى بدونها. أسافر بالزمن أحياناً وتتلبسني روح ما لنبيلة في العصور الوسطى، تهرب من مطاردة لأشخاص يحملون مشاعل متأججة، يكون لي شعراً غجرياً له لون الكستناء وأرتدي فستاناً أزرقاً منتفخاً ثقيل الوزن، أستمر في الهروب دون أن أعرف مم أهرب!
لا تخيفني أمواج تسونامي التي تزورني في أحلامي منذ الطفولة؛ فتربطني علاقة خاصة بالبحر، بموجه الهادر وزرقته الساحرة، بمائه أغسل روحي كلما لوثتها الأيام، لطالما وجدت نفسي بين أمواجه، وأتخلص من ضعفي الجسماني وصعوبات حركية لازمتني منذ مولدي مبتسرة، ببنيان ضعيف ورئتين غير مكتملتين؛ فلم أعرف الركض والألعاب الرياضية كما الأطفال. كنت كعجوز في جسد طفلة تعد عمرها على أصابع اليد الواحدة، لا تجد نفسها إلا بين صفحات الكتب وفي البوح إلى الأوراق الذي وجدت طريقي إليها في عمر الثامنة، وفي أن أشق أمواج صديقي البحر وأسلم نفسي لمياهه وملوحته.
سفينة النبي نوح تدنو نحونا
لم أخش البحر حتى حين كدنا نغرق ذات يوم أنا وشقيقاتي، في غفلة من العمة التي حسبتنا نلهو، ولم تتصور أن التيارات القوية سحبتنا وألقت بنا في حفرة عميقة.
كنت أنا، ابنة الحادية عشر، أصارع الموج مع شقيقتي الوسطى التي تصغرني بعامين، بينما يغمر الماء كلياً الشقيقة الأصغر لنا ذات الستة أعوام. أتشبّث بيدي أختيّ بكل ما أتيت من قوة، كل ما عرفته في تلك اللحظات الفارقة أنني لن أتخلى عن شقيقتي، حتى لو غرقت معهما.
كان الماء يصل إلى ذقني، بالكاد نستطيع التنفس أنا وشقيقتي الوسطى، أما الصغيرة فكانت تصارع سكرات الموت، بينما أحملها بيدي لتصعد فوق سطح الماء لتتنفس لثوانٍ قبل أن تسقط في القاع من جديد، حلاوة الروح تدفعها للتشبث بخصلات شعري، علها تنقذها من الغرق، في ذلك العمر اعتبرتني منقذها الأوحد. حين أتذكر ذلك أفهم سبب نظراتها إلي في صورنا الفوتوغرافية الممتزجة بالدهشة والانبهار.
دقائق مرت علينا كالجحيم وأنا بين محاولات جذب شقيقتاي خارج الحفرة، مصارعة التيار، لكني كنت أحرث في بحر هائج. سألت شقيقتي الوسطى إن كان بإمكانها تولي أمورها ومحاولة الخروج دون أن أجذبها، لأتمكن من إنقاذ شقيقتي الصغرى التي تصارع الغرق، فقالت: نعم، نجحت أخيراً في انتشال الصغيرة من تحت الماء، لكن القدر قرر أن يرحمنا ويعطنا فرصة جديدة للحياة، حين أهدى لنا أمواجاً عملاقة حملتنا بيدها الحانية، وألقت بنا على الشاطئ ليكتب لنا عمراً جديداً. أذكر أننا حين عدنا إلى البيت يومها، قالت جدتي الراحلة إن القلق كاد يقتلها بعدما وقف طائر البوم على نافذتها وأخذ بالنهام، فأيقنت أنه نذير شؤم وراحت تدعو الله بالسلامة.
يخاصمني الإلهام كلما نبت طفل في أحشائي، مخاوف الولادة وكوابيسها تطاردني، دوماً أكون وحيدة في ساعة المخاض، ويأخذونني عنوة إلى غرفة العمليات لأستيقظ من نومي فزعة... مجاز في رصيف22
لم أحقد على البحر حتى حين كنت أرى الناس يصارعون الغرق، وذويهم يصرخون ويركضون على الشاطئ كالمجانين، وحكايات الكبار عن الجثث الغارقة التي يلفظها شاطئنا، ولا حتى حين لدغتني قناديل البحر بسمها، مخلفة قروحاً تشبه آثار السياط، رحت أداويها بالخل، كما نصحني أهالي الإسكندرية، ولم يفقدني الالتهاب الرئوي الحاد في أول رحلة بحرية لي عشقي للبحر.
أقف وصغاري على شاطئ البحر، أرى الموج يختفي والماء ينحسر ثم يفيض وسفينة خشبية تشبه سفينة النبي نوح تدنو نحونا، وترسو بهدوء على الشاطئ. أعاد لي ذلك الحُلم ذكرى دافئة، حين كنت صغيرة وذهبت مع أبي إلى شاطئ البحر في الصباح الباكر، في يوم اختفت فيه الأمواج الصاخبة واكتسى صديقي البحر بلون فيروزي كمياه المالديف، حينها رسا قارب صيد قرب الشاطئ، وراح الصيادون يجذبون الشباك المليئة بالصيد الوفير لإخراجها من الماء، طلبوا العون من والدي فاستجاب لهم، استمروا في طقس الجذب حتى أتموا مهمتهم، وليشكروا أبي، أهدونا سمكة كبيرة من نوع "المحرات" أو "الحداية" كما يسميها المحليون.. بعد سنواتٍ رأيت مشهداً مشابهاً في فيلم "عجميستا"، فضحكت من أعماق قلبي.
أذكر أنها كانت أكثر الأسماك التي رأيتها في حياتي عناداً وتشبثاً بالحياة، فلساعات لازالت تتحرك خارج الماء، حتى اضطرت جدتي لذبحها، أحببت كثيراً مذاقها الذي كان بطعم البهجة.
لعنة أن أكون كاتبة
لعلها لعنة أن أكون كاتبة، فتطاردني الشخوص والحكايات في أحلامي وفي يقظتي، وكأنها لم تنبت في رأسي من العدم، بل تعيش في بعد آخر أو في مكان آخر من هذا العالم، ربما يبعد عني ملايين الكيلومترات.
قبل تخرجي من الجامعة بقليل، كنت ممتنة لكابوس كئيب أيقظني من نومي والدموع تنهمر من عيني. قبو مظلم وباب خشبي قديم وطفلة صغيرة ودرب مخيف، وكلمات غامضة أشبه بتعويذة ألقيت في أذني، صاحبتني لعنتها بعد استيقاظي. لم أستطع منع نفسي من الركض إلى دفتر أوراقي والإمساك بقلمي لأبدأ بالكتابة ودموعي تصاحبني، كل ما عرفته أن روايتي الثانية ولدت الآن وأن بطلتها "مارجريت" خرجت من قلب ظلمة كابوسي لتخبرني المزيد عن عالمها ومأساتها التي رأيت لمحة منها.
كانت محتجزة في ذلك المكان قبل أن تنبت قاتلة في عالم من القتلة لا يعرف الرحمة، ولم أستطع منع نفسي من تقمص شخصية البطلة والتعاطف معها، شعرت بأنها داخل رأسي وأنني داخل رأسها، حتى بعد انتهاء كتابة الرواية التي وددت لو استكملها بجزء ثان كيلا أفارق فتاة كابوسي.
يخاصمني الإلهام كلما نبت طفل في أحشائي، مخاوف الولادة وكوابيسها تطاردني، دوماً أكون وحيدة في ساعة المخاض، ويأخذونني عنوة إلى غرفة العمليات لأستيقظ من نومي فزعة.
قد أعلق في أحلامي، وأفقد التمييز بين الواقع والخيال، وأحياناً تغدو أحلامي صاخبة لتتحول إلى ساحة معارك، أصارع القتلة والشياطين والضواري، أدافع فيها عن نفسي أو أحد أفراد عائلتي، فتارة أقتلهم وأخرى يقتلونني... مجاز في رصيف22
بعد وضعي لطفلي الأول بوقت قصير كنت في حاجة لما يعيدني للكتابة من جديد، لكن لم يوقظ شغفي من سباته العميق سوى تلك الخرساء الجميلة ذات العينين الخضراوتين بلون العشب، التي أجبرها أهلها على الزواج برجل قاس ضخم الجثة يثير الخوف في نفسها، ولا تعرف كيف تصف إحساسها لأسرتها الذين يعتبرونها "عاهة"، وأنها محظوظة لعثورها على عريس يوافق على خرسها.
تلك الجميلة التي لم تحب شيئا في عالمها بقدر ببغاءها الذي يفهمها بلغة العيون، اقتحمت أحلامي في ليلة صيفية قبل خمس سنوات، وأرغمتني على رؤية مصيرها المفجع حين قتلت هي وطيورها على يد عريسها القاسي في ليلة الدخلة، قبل أن تخلع فستان الزفاف! استيقظت من نومي وفي قلبي شجون بحجم الكون، وانتهزت فرصة نوم صغيري ورحت أبوح للورق بسر زائرتي الخرساء، وتصالحت مع الكتابة من جديد فأهدتني هذه المرة قصة قصيرة.
أحلام الكاتبات الأكثر جنوناً
قد أعلق في أحلامي، وأفقد التمييز بين الواقع والخيال، وأحياناً تغدو أحلامي صاخبة لتتحول إلى ساحة معارك، أصارع القتلة والشياطين والضواري، أدافع فيها عن نفسي أو أحد أفراد عائلتي، فتارة أقتلهم وأخرى يقتلونني، أو أكون شاهدة على جريمة قتل؛ كتلك المرة التي صاحبت فيها قاتلاً لاتينياً خطيراً هرب من سجنه برشوة الحراس، ليقتل رجلاً بسوق عمومي في وضح النهار، قبل أن يعود من جديد لزنزانته. لعلي لهذا السبب لم أفقد صوابي حين رأيت مؤخراً امرأة تقتل على يد سارق، أمامي في الشارع وفي وقت الظهيرة!
بالنسبة لي لا أصدق كثيراً نظرية فرويد عن أن الأحلام وسيلة النفس لإشباع رغباتها ودوافعها المكبوتة، وأجد في نفسي ميلاً لتصديق اعتقاد الإغريق بأن الأحلام هبة إلهية لكشف معلومات للبشر وزرع رسائل في عقل النائم، فأحلامي خارجة عن المألوف وعن السيطرة، إنها أحلام الكاتبات الأكثر جنوناً بين الأحلام.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...