بمجرّد قراءة أسماء الشّعراء الذين لحّن وغنّى قصائدهم الموسيقي الفلسطيني باسل زايد، في عمله "أيضاً رأيت"، سيُثار فضول المتلقّي، ليسارع للاستماع إلى الألبوم الصادر أخيراً. يتضمن العمل ثماني أغنيات؛ إذ يلحن ويغنّي زايد ثماني قصائد نثر لشعراء معاصرين، هم أنسي الحاج، وعباس بيضون، وسركون بولص ووديع سعادة وجورج شحادة.
المفارقة الأولى تكمن في أن زايد يبتعد في هذه الخيارات عن النفحة الوطنية المرتبطة بهذا الشكل من الموسيقى، موظّفاً الجاز والارتجال والتقشف في سبيل "القصيدة"، تلك التي لم تُكتب كي تُغنّى، بل لتُقرأ، في تجاوز لخرافة "الموسيقى الداخلية" لقصيدة النثر.
كذلك، يبتعد الموسيقي عمّا انتشر من مزيج بين الجاز والموسيقا الصوفيّة، والتنويعات بينهما، ناهيك أنه يحافظ على فصاحة القصيدة واللغة، التي عادةً ما يتم إهمالها في الموسيقى التجريبية التي يطغى عليها الإلكتروني والروك التجريبي، والراب أيضاً.
الأغنية كتجربة فنية
الأغنيات الثماني ترافقت مع ثمانية أعمال بصرية، تشكّل غلافاً لكل أغنية، أنجزها الفنان حسّان مناصرة؛ إذ نرى أنفسنا أمام تجربة فنيّة تتحرك بين الكلمة واللحن والصورة، من دون أن تترجم بعضها بعضاً، بل يمكن تلقيها على "التوازي" لخلق فضاء المعنى إن صح التعبير، تلك المساحة التي تتفاعل فيها الحواس الثلاث لتكوين "المعنى"، على اختلاف دلالاته.
يكشف الاستماع المتكرر للأغنيات عن نزعة ميلانخوليّة، تتجلى بداية في هيمنة ضمير "الأنا" على القصائد المختارة. كأننا أمام كولاج لمشاعر متنوعة: الجلاد، والمكان المنسيّ، والحديقة الضائعة، وغيرها من المفاهيم التي تتدفق أمامنا.
يلحن ويغنّي الموسيقي الفلسطيني باسل زايد في ألبومه الصادر حديثاً "أيضاً رأيت" ثماني قصائد نثر لشعراء معاصرين، هم أنسي الحاج، وعباس بيضون، وسركون بولص ووديع سعادة وجورج شحادة، لا يفوتكم الاستماع إليها!
وهنا يمكن إعادة تأويل خيارات زايد الموسيقية؛ فاضطرابات الجاز والانقطاعات المفاجئة في الأغنيات، يمكن فهمها على أنها دفقات من الميلانخوليا، تندفع في الحواس كسائلها الأسود نفسه، لا يمكن ضبطه بدقة.
يعلق زايد قائلاً: "تبتعد الألحان عن الإطالة الموسيقية، وتميل أكثر نحو الاختزال والتقشّف؛ إذ تأتي بسيطة ومباشرة، لأهمية دلالة النصوص نفسها، ولضمان اكتمال المعنى الشعري، من دون إقحام رؤية الملحن على أي من القصائد".
هذا التدفق نفسه، يكشف لنا عن جماليات متعددة. مثلاً، فإن زمن الأغنية/اللحن مرتبط بزمن القصيدة، أي زمنها الداخلي، لا إطارات ولا محاولة لليّ عنق الكلام لينصاع للنَغم. الأهم، هناك تهديد للصوت الداخلي للقراءة، أي أنّ صوت تدفق الكلمات الذي نتبنّاه بصمت عند القراءة، يتلاشى على حساب "الأنا" التي تنطق. بالتالي، ربما، نحن لسنا أمام قصائد ملحنة، بل عتبة موسيقية نحو النص نفسه، وأسلوب "قراءته"، وهذا ما يبرر -على الأقل بالنسبة لي- الرغبة بالمزيد بعد نهاية كل أغنية. هذه الرغبة ترتبط بالموسيقى والانجرار وراءها، ليس بالنص ومعانيه، وهنا تظهر سلطة الأخير ودوره في ضبط تدفق مزيج الأصوات.
الحديث عن هذه العلاقة يحيلنا إلى "شكل الأغنية" التقليدية، خصوصاً أننا أمام الجاز، فما يحصل عند الاستماع إلى الأغنيات هو أن شكل الأغنية التقليدي والمعتاد، يتحطم؛ أي أن الضرورات التي يخضع لها "الكلام" عادةً كي يُغنّى، لا نتلمسها بشدة؛ فشكل القصيدة و"نَفَسها" وطولها هو المهيمن، ضرورات التكرار والتعديل وضبط الجمل تتلاشى، لنرى أنفسنا أمام شكل جديد من "القراءة"، واستكشاف لطاقة تحملها القصيدة تحافظ فيها على "نصيتها".
هذا ما يشير إليه زايد نفسه بقوله: "المحاولة اللحنية ليست بسيطةً؛ فالنصوص غير موزونة، ومحاولة إضفاء وزن شعري عليها، يحتاج إلى سبب فني واضح. لذلك، اخترت أن أترك القصائد بشكلها الأصلي قدر المستطاع، والعمل على تطويع النص الشعري للألحان، من دون الإخلال بالمعنى، ومن دون إضفاء معنى محدد، ذي اتجاه واحد، على النصوص. بهذا، جاءت النتيجة كلوحات موسيقية غنائية، تبرز المادة الشعرية على أنها الهيكل والمضمون".
تطويع المعنى
يكشف الاستماع المتكرر لأغنيات زايد عن نزعة ميلانخوليّة، تتجلى بداية في هيمنة ضمير "الأنا" على القصائد المختارة. كأننا أمام كولاج لمشاعر متنوعة: الجلاد، والمكان المنسيّ، والحديقة الضائعة، وغيرها من المفاهيم التي تتدفق أمامنا
نقرأ في البيان الصحافي التقنية التي اتبعها كل من ماتياس كُنزلي، عازف الإيقاعات، ونسيم الأطرش، عازف التشيلو. نلاحظ أن كليهما اعتمدا بداية على القصائد، ثم ولدا انطباعاتهما الشخصية عنها في حدود القصيدة نفسها، أي "لم ينحازا إلى المادة اللحنيّة". نتأمّل هذه الفكرة، إذ تمثّل محاولة فهم العلاقة بين قصيدة النثر، تلك المكتوبة لتُقرأ لا لتلقى أو تغنى، القصيدة التي لا تصلح لأن تكون نشيداً أو أهزوجة، بل تراهن على شعريات جديدة لا ترتبط بـ "الشكل"، وتدفق المقاطع الصوتيّة الموزونة، بل المعنى وفضائه.
نستطرد سابقاً في محاولة لفهم تعليق زايد الذي يقول: "الأطرش، كما كُنزلي، قرأ القصائد أولاً، قبل أن يستمع إلى الألحان، ليعمل بناءً على انطباعه الذاتي والموسيقي، من دون أن ينساق وراء الموسيقى؛ إذ تُتاح له حرية التعبير عمّا قرأه من خلال آلته التي مثّلت عنصراً أساسياً في توزيع العمل، ودُفعت بالتعبير حتى أقاصيها؛ فتضمّن العزف عليها تقنيات مختلفة، تتراوح بين العزف المتواصل، أو المتقطّع، أو النقري".
يفترض ما سبق، عدداً لامتناهياً من الاحتمالات الموسيقيّة، تلك التي يضبطها "المعنى" لا "الكلام"، وهذا ما يبرر أننا نشعر بدهشة ورعب الانقطاع عند الانتهاء من كل أغنية، وكأن كل قصيدة ترسم حدودها الصوتية من دون إغلاق المعنى.
هنا، يمكن أن نستعيد عبارة "الموسيقى عتبة نحو القصيدة"، لتصبح الأخيرة مولّداً موسيقياً، وليست أداة للترجمة أو التقطيع. وهنا يبرز الجاز مرة أخرى، فحسب زايد : "تم الاعتماد في توزيع ألبوم (أيضاً رأيتُ) على نظرية موسيقى الجاز بشكل رئيسي؛ إذ تحتوي القطع على تفاصيل ائتلافية مفتوحة لاستيعاب تعابير وانعكاسات متعددة، تضفي هامشاً من الحرية لدى المستمع لإيجاد المعنى الشخصي".
الألبوم والقصائد متوافرة على قناة باسل زايد على youtube.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.