أثارت الاكتشافات الأثرية الأخيرة، في محافظة دهوك، اهتماماً كبيراً بين المختصين، إذ اكتشفت البعثة الأثرية المشتركة بين مديرية آثار دهوك، وجامعة أوديني، العديد من الآثار التاريخية الآشورية، كانت آخرها معصرة استُخدمت في صناعة الخمر، وتحديداً النبيذ.
يقول مدير دائرة الآثار في محافظة دهوك، الدكتور بيكه س البريفكاني: "تم اكتشاف المعصرة في أثناء المسح الأثري الذي قامت به مديرية الآثار في محافظة دهوك، وجامعة أوديني، في السنوات الماضية، وبدأ التنقيب فيها هذا العام، قرب قرية الخنس المعروفة قديماً بإسم خانوسا، وهو موقع أثري معروف في قضاء شيخان التابع لمحافظة دهوك، ويبلغ عددها 14 معصرةً تعود إلى فترة الملك سنحاريب، وتُعدّ من أكبر المعاصر وأقدمها في شمال بلاد الرافدين".
ويضيف: "البعثة المشتركة اكتشفت أيضاً 1،140 موقعاً أثرياً آخر، في حدود محافظة دهوك، بالإضافة إلى مواقع أخرى تم اكتشافها بمشاركة جامعات أخرى، وقمنا بتسييجها، وتتم حالياً دراسة الأمطار، والأحوال الجوية لهذه السنة، لضمان حمايتها مستقبلاً".
ويُعدّ الآشوريون من الأقوام السامية القديمة، نسبة إلى سام بن نوح، ويُرجع المؤرخون وجودهم إلى الألف السابع قبل الميلاد. برزت حضارتهم بشكل خاص في الألفية الثانية قبل الميلاد، بعد أن سيطرت على عاصمة الأكاديين، ووسعت دولتها لتمتد من الخليج العربي إلى جنوب تركيا، ومناطق البحر المتوسط؛ سوريا وفلسطين وشمال مصر.
تم اكتشاف 14 معصرةً تعود إلى فترة الملك سنحاريب، وتُعدّ من أكبر المعاصر وأقدمها في شمال بلاد الرافدين
ويزخر التاريخ الأشوري بالعديد من المنجزات، خاصةً في المجال الفني، إذ عبّروا عن تميّزهم بالقوة، من خلال تشييد الثيران المجنّحة التي تُحاكي قوّة ملوكهم، كما زيّنوا البيوت والقصور بالنقوش والرسومات، وبرعوا في ابتكار إستراتيجيات الدفاع والتحصين العسكري، بالإضافة إلى إسهامهم الكبير في العلوم الفلكية، والرياضية، وتقسيم التقويم السنوي.
ويشكّل الآشوريون اليوم أقليةً عرقيةً في العراق، تعتنق الديانة المسيحية، ويُقدَّر عددهم بنحو 300 ألف نسمة يعيشون في مناطق شمال العراق، بالإضافة إلى وجودٍ قليل في العاصمة بغداد.
تعج آثار بلاد ما بين النهرين بالكثير من الألواح والقطع الأثرية الدالة على وسائل صنع الخمر، وطرقه، ويعدّ المؤرخون السومريين، أول من خمّر الجعة، وميّزوها كغذاء رئيسي يتم تناوله عن طريق القصبة (الشفّاط)، وهو ما يدفع للاعتقاد بأنهم أول مستخدِمٍ لهذه الوسيلة في الشرب.
يعدّ المؤرخون السومريين، أول من خمّر الجعة، وميّزوها كغذاء رئيسي يتم تناوله عن طريق القصبة (الشفّاط)، وهو ما يدفع للاعتقاد بأنهم أول مستخدِمٍ لهذه الوسيلة في الشرب.
وعدّ السومريون الجعة مشروبهم القومي، وأُطلقوا عليه اسم "نينكاسي"، قبل أن يتحول هذا الاسم إلى إله للجعة. ولشدة تقديسهم له، وضعوا العديد من القوانين بشأنه، كالمادة 108 من قانون حمورابي التي تنص على أنه "إذا كانت صاحبة الحانة (إذ تبوأت النساء منصب تصنيع الجعة وتقديمها، ولا يد للرجال فيه)، لا تقبل مقداراً من الذرة، مقابل ثمن الشراب من الجعة، ولكنها تقبل بالمال، أو كان ثمن الشراب أقل من قيمة الذرة، تتم إدانتها وإلقاؤها في الماء"، بالإضافة إلى المادتين 109 و110 اللتين تحددان بعض القوانين الأخرى في هذا الخصوص.
كما تطرقت ملحمة جلجامش إلى هذه العادة السومرية مرات عدة: "فتحت البغي فمها قائلةً لأنكيدو: كل الخبز يا أنكيدو، إنه مادة الحياة، واشرب من الشراب القوي، فهذه عادة البلاد، فأكل أنكيدو الخبز حتى شبع، وشرب من الشراب المسكر سبعة أقداح، فانطلقت روحه، وانشرح صدره، وطرب قلبه، وأضاء وجهه".
وعُرف العديد من الشعراء والمفكرين العراقيين بإدمانهم على الخمر، كالشاعر أبي نوّاس المعروف بتمثاله وهو يحمل الكأس، بالقرب من شهرزاد وسط بغداد، وهو شاعر الخمر الذي عُرف عنه حبه الشديد للخمور، ونظمه القصائد في عشقها:
"رَقَّت عَنِ الماءِ حَتّى ما يُلائِمُها لَطافَةً وَجَفا عَن شَكلِها الماءُ
فَلَو مَزَجتَ بِها نوراً لَمازَجَها حَتّى تَوَلَّدُ أَنوارٌ وَأَضواءُ"
يقول الباحث في التاريخ، عمار الصبيحاوي: "سجّل التاريخ هوس العراقيين بالخمور منذ القدم، واستمرت هذه الصناعة خلال العصور الماضية، إذ يُعلّب المواطنون التمور، ويخمّرونها داخل منازلهم، خاصةً في أوقات الشدة".
ويضيف: "شهدت فترة منتصف التسعينيات من القرن الماضي، تشديداً كبيراً على هذا الجانب، ضمن الحملة الإيمانية التي قادها النظام السابق (عهد الرئيس العراقي الراحل صدام حسين)، ثم عاد إلى إفساح المجال أمام إنتاج الكحول وبيعه قبل الاحتلال (عام 2003)، بمدة وجيزة".
وكان النظام السابق قد أصدر التشريع رقم 6 لعام 2001، وبيّن فيه آلية بيع المشروبات الكحولية، والمساحات المطلوبة للمحالّ المختصة، وأعمار العاملين فيها، بالإضافة إلى ضرورة الاستحصال على موافقة مجلس الشعب، لطلب منح إجازة بيع المشروبات الروحية، قبيل بدء إجراءات منحها. وتشير المادة التاسعة إلى حظر بيع هذه المنتجات في عدد من الأماكن ذات القيمة الدينية، وغيرها.
"في منتصف التسعينيات قاد نظام صدام حسين "حملة إيمانية حظر من خلالها بيع الخمور "
بعد الاحتلال الأمريكي، أُغلقت مصانع الخمور، وعلى رأسها مصنع الجعة الشرقية "فريدة"، ومصنعا شهرزاد وسنبلة، بالإضافة إلى معملَي عرق العصرية، والمسيح، ما أدى إلى عودة التخمير المنزلي، حتى إتاحة استيراد هذه المنتجات من دول الجوار.
وعاد البرلمان العراقي إلى حظر استيراد المشروبات الكحولية، وإنتاجها، وبيعها، في تشرين الأول/ أكتوبر 2016، ما أثار موجة جدل كبيرة بين مؤيد يعدّها مخالفةً لتقاليد المجتمع العراقي، وبين مستنكر يعدها انتهاكاً للدستور العراقي الذي يكفل حرية الفرد، وحمل هذا الجدل عنوانين: العراق بلد عشائري مسلم، وهاشتاغ بغداد لن تكون قندهار.
انتقد النائب عن جبهة الإصلاح، مشعان الجبوري، قرار البرلمان بحظرها، مشيراً إلى أن "مقاتلي الصحوات غالبيتهم اعتمدوا على شرب الخمور في قتالهم لتنظيم الدولة"، قائلاً: "الشباب لو ما يشربون، أغلبهم ما قاتلوا داعش".
ووضع آنذاك النائب حيدر الملا، القانون في خانة الانتصار لـ"الفكر الداعشي"، في إشارة إلى أحكام الشريعة التي فرضها تنظيم داعش في مناطق سيطرته، إذ تشدد في منع بيع الخمور، ولاحق تجّارها، وأنزل بهم أشد العقوبات التي تصل إلى حد الإعدام.
كذلك انتقد النائب عن جبهة الإصلاح، مشعان الجبوري، قرار البرلمان، مشيراً إلى أن "مقاتلي الصحوات غالبيتهم اعتمدوا على شرب الخمور في قتالهم لتنظيم الدولة"، قائلاً: "الشباب لو ما يشربون، أغلبهم ما قاتلوا داعش".
ويقول أحد تجار الخمور س. أ. الذي رفض وضع اسمه كاملاً: "على الرغم من أن القانون لم يُعمل به في بغداد، إلّا أن طرحه قد انتهك حرية الفرد، إذ تضم البلاد مختلف الأطياف الدينية والفكرية، وتالياً من غير المنصف العمل بهذه القرارات"، مؤكداً "تفهمه حظر المشروبات الكحولية في المناطق الدينية، ولكنه يستغرب أسباب حظرها في بقية المحافظات".
ويضيف: "أدى القانون إلى رفع موجة تهريب الكحوليات، واستهلاكها، في المحافظات التي حُظرت فيها، كما زاد من ظاهرة إدمان المخدرات التي تفوق سلبياتها الكحول، ومعظم هذه المحافظات تابعة لأحزاب معروفة تسيطر على تجارة المخدرات، وترى أن الكحول يهدد ازدهار تجارتهم، ولذلك يحاولون دوماً الاستمرار في حظرها".
وشهد العراق خلال الفترة الماضية تظاهراتٍ منددةً بفعاليات مهرجان بابل الدولي الذي انطلق بعد انقطاع دام 19 عاماً، بسبب ما يراه البعض عودةً للغناء، والكحول، والفساد في المحافظة، فيما لا يزال هذا الجدال مستمراً ولا يزال القانون العراقي يُنفَّذ بشكل انتقائي في محافظات دون أخرى، في بلد يزخر بالقوانين المتناقضة كزخوره بأزماتها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...