شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
لا مكان للخوف في طفولة الفلسطينيين

لا مكان للخوف في طفولة الفلسطينيين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الثلاثاء 11 يناير 202210:35 ص

لقي ستة متسلقين حتفهم على جبل رينيير، قبل ستة أيام من تسلقّي إياه. ظروف اختفائهم قد لا تُعرف أبداً، ولكن من المرجح أنه في أثناء نومهم، غمر انهيار ثلجي مخيمهم، وأطاح به لمئات الأمتار. قال لي دليل الجبل لاحقاً: "المنطقة التي كانوا يخيّمون فيها لم تكن عرضةً للانهيارات الثلجية، حتى أننا لا نعلم من أين أتى هذا الثلج. لقد كان مجرد حظ عاثر".


***


كنت متكوّراً على نفسي، مرتعداً من البرد في كيس النوم، بينما عَصفت الرياح بالخيمة عصفاً شديداً. لففت ورق الحمام على شكل سدادات للأذن، ووضعت جميع الملابس التي بحوزتي تحتي، ولكن دون جدوى. كان مخيمنا يتربع فوق كتلة جليدية ترتفع 3،500 متر. كنا في خيمنا ننتظر حلول منتصف الليل لنبدأ الصعود نحو القمة.

كانت تشرف على مخيمنا كتلة صخرية هائلة تُدعى "ديسبوينتمنت كليفر" (بمعنى "ساطور خيبة الأمل"). تشبه هذه الكتلة أنفاً معوجّاً، وهي ترمقنا بنظرات متحدية. شاهدت في بداية ذلك اليوم مئات المتسلقين ممن حاولوا صعودها، يجرّون أذيال خبيتهم خلفهم؛ قال بعضهم إنها كانت "شديدة الانحدار"، وآخرون إنها "خطرة للغاية"، وغيرهم علت وجوههم الصدمة، وقالوا إن "الريح كادت تطير بنا بعيداً عن الجبل". حاول نصف أفراد مجموعتي العام الماضي، تسلّق جبل رينيير، لكنهم اضطروا إلى الالتفاف عند وصولهم إلى "الساطور" .

بحلول منتصف الليل، ارتدينا السترات الدافئة، والخوذ، ومصابيح الرأس، وأحذية التسلّق المسمارية، ثم بدأنا بتسلّق الجبل الجليدي مربوطين ببعضنا بالحبال. لم يكن في وسعنا رؤية سوى موضع خطواتنا التالية. حينما وصلنا إلى "الساطور"، اضطررت إلى ربط نفسي بحبالٍ مثبّتةٍ لاجتياز مسار لا يتعدى عرضه قدمين، ويظهر من تحته انحدار باهظ. حين وجهت ضوء مصباحي بأقصى طاقته إلى أسفل المنحدر، لم أرَ شيئاً سوى الظلام.

قبل عام، لم تكن الجبال حاضرةً في فكري، فقد كنت مهتماً أكثر بالملاكمة، والسترات الجلدية، وفلسفة العدميّة لفرقة الروك "ذا فيلفيت أندرغراوند". غير أنني لطالما شعرت بغضب دفين يعتريني. وقد نصحني أحد أصدقائي الصريحين أن أطلب المساعدة من شخص ما، ولكن صوت كل كاتب قرأت له، همس في رأسي: "ابحث عن المغامرة". وقد اكتشفت في ما بعد، أن المغامرة الحقيقية، هي مثل الحب الحقيقي، تجد طريقها إليك وحدها، بلا مجهود. يقتصر دورك على قبولها فحسب.


***


في يوم صيف رطب عام 2013، وصلتُ إلى بوسطن بشاحنة نصف فارغة. كنت قد حصلت تواً على درجة الدكتوراه، وبدأت ببرنامج زمالة في كلية الطب في جامعة هارفارد. وعدا عن رفيقَي السكن اللذين تعرفت إليهما عبر الإنترنت، لم أكن أعرف أحداً في المدينة. إلا أنها لم تكن المرة الأولى التي أكون فيها غريباً تماماً. ففي سن الثامنة عشر، وبعد إنهائي مرحلة الثانوية، انتقلت من منزلي في الخليل في فلسطين، إلى بلدة صغيرة وسط ولاية بنسلفانيا، حيث كنت -حسب علمي- العربي الوحيد في نطاق 50 ميلاً. انتقلت بعدها إلى بلدة صغيرة أخرى في بنسلفانيا لإكمال دراساتي العليا.

بعد أن أنهيت إفراغ حقائبي في بوسطن، أرسلت رسائل عدة إلى بعض معارفي الذين ظننت أنهم يسكنون في المنطقة. جاءني رد واحد فقط. وعلى الرغم من أن علاقتنا كانت سطحيةً في الكلية، إلا أننا تواصلنا على الفور. اصطحبتني إلى العشاء، وحدثتني عن بوسطن بلهجتها الروسية الثقيلة. تحولت دعوة السوشي إلى تدخين سيجار على كراسٍ جلدية، ولاحقاً إلى دعوة لنزهة لتسلق جبل صغير في نيوهامبشاير.

لم تشكّل النزهة الجبلية أي تحدٍ يُذكر، إلا أن القمة وفرت لنا منظراً خلّاباً. وفي طريقنا نحو الأسفل، اقترحنا القيام بنزهة ثانية، وكانت وجهتنا هذه المرة جبل واشنطن، وهو أعلى جبل في الشمال الشرقي بارتفاعه البالغ 1،900 متر. عرفت لاحقاً أنه كان يشتهر بطقسه؛ إذ يشكّل بامتداده من الشمال إلى الجنوب، حاجزاً في وجه مسارات العواصف المتوالية القادمة من المحيط الأطلسي. وقد شهدت قمته أسرع رياح سجلها الإنسان. غمرنا هذا الجبل برياح متقلبة، وأمطار، وزخات من البَرَد، فيما كنا نتسلق صخوره نحو القمة.

على الجبال، يظهر جوهر الإنسان. فالإرادة وحدها تجبر الجسد المنهَك على إطلاق العنان للعقل، ليسبر أغوار ذاته من دون عوائق.

على الجبال، يظهر جوهر الإنسان. فالإرادة وحدها تجبر الجسد المنهَك على إطلاق العنان للعقل، ليسبر أغوار ذاته من دون عوائق. كان التحدي الجسدي مشوّقاً بلا شك، ولكن المغامرة في التسلق كانت مرتبطةً بشيء مدفون عميقاً في داخلي. وهكذا، نزلت مترنّحاً من قمة جبل واشنطن، مبلّلاً، ومرهقاً أرتعد من البرد، فقررت البحث عن مغامرة أخطر، وتسلّق جبل حقيقي. قدت سيارتي عائداً إلى بوسطن أدندن مع أداء فرقة "ذا بيردز" أغنية بوب ديلان غير المعروفة "باثز أوف فيكتوري".

وبعد بضعة أشهر، كنت مع اثنين من أصدقائي في مطعم في نيوهامبشاير، وكنا قد أنهينا للتو تسلق قمة جبل واشنطن مرةً ثانية؛ هذه المرة في موسم الثلوج. ترنّح باتجاهنا رجل مخمور بدا عليه شيء من الشر، بل لعلها ملامحه الشيطانية؛ حاجباه المائلان قليلاً، ولحيته الصغيرة المدببة. كان يرتدي قميصاً (تي شيرت)، رثاً أزرق اللون، وسروال جينز واسعاً. قال لنا متلعثماً إنه سمعنا نتحدث عن جبل واشنطن، وإنه قد تسلّقه في الماضي. ثم ذكر جبل رينيير، وهو يقع جنوب شرق مدينة سياتل، ويشتهر بكونه أكثر الجبال بروزاً في القارة الأمريكية الشمالية بارتفاع 4،300 متر. لقد رأيته سابقاً. تبادرت صورته إلى ذهني؛ كان كتلةً هائلةً من الصخر والجليد.

"جبل رينيير هذا، هل يمكن تسلقه؟".

وضع يده على كتفي، حين أحس باهتمامي، وقال متبسماً: "أنت لا زلت شاباً، يمكنك خوض هذه المغامرة بكل سهولة. إنه مجرد عمل شاق".

وهكذا أخذت بنصيحة هذا الرجل المخمور، وكتبت اسمي على لائحة انتظارٍ لمجموعات تحاول تسلق الجبل. حينما سنحت لي الفرصة بعد شهر، اغتنمتها دون تردد.

قبل أيام من رحلتي بالطائرة إلى سياتل، انتشرت الأخبار عن المتسلقين الستة المفقودين. الانهيارات الجليدية يمكن أن تحدث في أي مكان على الجبل، إلا أنني طمأنت نفسي بأن وقوع حادث آخر غير وارد إلى حدٍ بعيد، إن لم يكن مستحيلاً إحصائياً. وعلى الرغم من ذلك، جلست أمام حاسوبي أحدّق صامتاً. بدأت يدي اليسرى ترتجف خارجةً عن سيطرتي. أمسكتها بيميني فوراً، وضغطت بإبهامي بقوة على راحة يدي. كانت ردة فعلي عفويةً، وتلقائيةً إلى درجة أنني حاولت كتابة قصة متباهية حول تسلق الجبال بلا جدوى، لأشهر عدة.


***


في المرة الأولى التي واجهت الموت فيها، كنت في سن الرابعة أو الخامسة، إذ كان والداي، اللذان استخفّا بقدرتي على الفهم واستراق السمع، يتهامسان في المطبخ عن كيف قتل جارنا البقّال بالرصاص، في أثناء حظر التجول. وكان يتم إعلان حظر التجول هذا عبر سيارة جيب مصفحة للجيش الإسرائيلي تجوب الأحياء، معلنةً عبر مكبرات الصوت، وبلغةٍ عربية ركيكة: "ممنوع التجول حتى إشعار آخر". قال والدي إن جارنا ربما لم يكن يعلم بفرض حظر التجول. وبصرف النظر عن السبب، فقد ترك الرجل وراءه عائلةً من خمسة أفراد فريسةً للفقر المدقع. عبر السنين، شاهدت شخصياً تدهور أحوال تلك الأسرة. ومنذ تلك اللحظة، بدأ عقلي يحاول مراراً أن يكسب نوعاً ما الإحساس اليقين بالسيطرة، ليس على الحياة فحسب، بل على الموت أيضاً، وبشكل طبيعي تحول عدم إحساسي باليقين إلى خوف.

وبعد أشهر عدة من وفاة جارنا، أيقظتنا والدتي في منتصف الليل. كان والدي -وهو أستاذ جامعي- غير موجود في المنزل، إذ تم جمعه مع بقية رجال الحي. ارتدت والدتي حجابها، وجلست في زاوية المنزل تعانقنا. همستُ لها بأن تستخرج جنودي من حوض السمك، لكنها طلبت مني الصمت. دخل الجنود المنزل، وأصابعهم على الزناد، وفتشوا كل الغرف، وقلبوا الأغراض رأساً على عقب. ضحك أحد الجنود حين رأى الجندي البلاستيكي العائم في الحوض. كنت أراقبه متشوقاً. لم أدرِ إن فهم أنني كنت أحاول إغراقهم عمداً.

"دخل الجنود المنزل، وأصابعهم على الزناد، وفتشوا كل الغرف، وقلبوا الأغراض رأساً على عقب. ضحك أحد الجنود حين رأى الجندي البلاستيكي العائم في الحوض. كنت أراقبه متشوقاً. لم أدرِ إن فهم أنني كنت أحاول إغراقهم عمداً"

وكأي طفل آخر، صدّقتُ العديد من الأفكار المغلوطة؛ ظننتُ أن الحبس في سجن إسرائيلي هو مرحلة لا بد من المرور بها في الحياة، شأنها شأن التخرج من الثانوية، أو الزواج. قضيت عشرين عاماً حتى عرفت أنني لم أكن وحيداً في إيماني بهذه الخرافة، فقد بدت منطقيةً جداً، إذ قضى معظم الرجال الذين أعرفهم فترات في السجون الإسرائيلية، وجميعهم لأسباب سياسية. تم توقيف والدي، مثلاً، عندما كان طالباً في الجامعة، لقيامه بتوزيع مناشير سياسية. يواجه الفلسطينيون في المحاكم العسكرية الإسرائيلية معدل إدانة يكاد يبلغ 100%.

كما بدا أيضاً أن للجميع قصص تعذيب خاصةً بهم. فمرةً رسم أحد مُدرّسي الرياضيات شكلاً هندسياً ذكّره بمعاناته من وضعية الشبح، وهي تقنية للتعذيب يجلس فيها المعتقل ويداه مقيّدتان خلف ظهره، على كرسيّ منخفض، قاعدته مائلة.

وذات صباحٍ يغشاه الضباب، وأنا ما زلت في المدرسة الإعدادية، استيقظت على صوت إطلاق نار. كان الجيش الإسرائيلي يحاصر منزلاً قيد الإنشاء في منطقة قريبة من منزلنا، وكان يختبئ فيه ثلاثة عناصر من حركة حماس. وعندما رفضوا الاستسلام، قتلهم الجيش الإسرائيلي، ورحل. قيل حينها إن العناصر لم يكن بحوزتهم إلا سلاح واحد. بدا الاعتقاد بأنهم لم يملكوا إلا سلاحاً واحداً فقط معقولاً، إذ كانت حركة حماس آنذاك حديثة العهد. 

قبل خروجنا من المنزل بعد الحادثة، أوصانا والداي بعدم الاقتراب من ذلك المنزل إطلاقاً. قالت والدتي: "الله أعلم شو خلوا وراهم". وقد ترددت هذه الأوامر في آذان أولاد الحيّ جميعهم. ولكن لم يطُل الأمر حتى اقترح أحدهم أن نصعد إلى طرف الحيّ، ونحاول الحصول على رؤية أفضل. وحال وصولنا إلى هناك، التقينا بشابَين من حيٍّ بعيد سارعا بكل حماس لإظهار غنائمهما، واستعراض جيوبهما المليئة بفوارغ رصاصات "إم 16". نظرنا إلى بعضنا البعض، ثم بدأنا بالتسابق باتجاه المنزل، آملين بجمع بعض الرصاصات أيضاً.

كان المنزل محاطاً برجال متجهّمين يلفّون الكوفية حول رؤوسهم. سرعان ما انخرط أخي طارق في البحث عن الكنز، إذ كان يهوى المستحاثات، والقطع الأثرية القديمة. أما أنا، فأثار المنزل فضولي. كان البيت وحيداً غير مكتمل البناء، بجدارٍ متهدم. حاولتُ استراق النظر من الخارج، ولكنني لم أستطع رؤية أي شيء. قَطعتُ الأنقاض بحذر، ودخلت الدار. كان أول ما استرعى انتباهي هي الرائحة الفائحة. كانت رائحةً غريبةً وقوية، شبيهةً بالمسك. بالإضافة إلى ذلك، كانت الرائحة بطريقة ما منفِّرة، ولكنها لطيفة أيضاً في الوقت نفسه. قطعتُ الدرج، ودخلتُ إلى غرفة المعيشة. كانت الجدران مليئةً بثغرات خلقها الرصاص، تخترقها أشعة ضوء ضعيفة. عندها، رآني رجل كبير في السن، وصرخ بي أن أغادر. التففت لأغادر، فوجدت بركةً من الدماء أسفل الدرج، والحائط بجانبها ملطّخاً بطبعات أيدٍ مضرّجة بالدم. كان أحدهم مستلقياً بوضعية غريبة عند زاوية التقاء الدرج بالأرضية الإسمنتية، وفي بطنه ثقبٌ ظاهر. كان يحدّق إلى يديه الملطخة بالدماء، بعيونٍ واسعة، وأخذ يمسحهما على الحائط بطريقة جنونية. بعدها بفترة قصيرة، عدت إلى البيت وحدي، حتى من دون أن أكلّف نفسي عناء البحث عن الرصاص. بعد مرور عام، أو اثنين، تمّ تجديد المنزل، وانتقل إليه زوجان حديثا العهد.

كما يحصل في أي مكان آخر من العالم، يتسابق الأولاد ليبدوا بمظهر الرجال. ولسبب ما، فإن 'الرجل الحقيقي' لا يهاب شيئاً. وهكذا، استعرضنا شجاعتنا، وتفاخرنا بالرصاصات التي قتلت رجالاً كان يمكن أن يكونوا آباءنا.

"كأي طفل آخر، صدّقتُ العديد من الأفكار المغلوطة؛ ظننتُ أن الحبس في سجن إسرائيلي هو مرحلة لا بد من المرور بها في الحياة، شأنها شأن التخرج من الثانوية، أو الزواج. قضيت عشرين عاماً حتى عرفت أنني لم أكن وحيداً في إيماني بهذه الخرافة، فقد بدت منطقيةً جداً"

وسرعان ما تطورت هذه الشجاعة إلى تحدٍّ. فلم تكن تمرّ دورية إسرائيلية من أمام مدرستنا إلا وأمطرناها بوابل من الحجارة. كنا مشهورين بهذا الأمر. وبطبيعة الأمر، لم تُحدِث الحجارة بعربات الجيب المدرعة إلا بعض الانبعاجات هنا وهناك. لكن الإسرائيليين عدّوا الأمر مسألة هيمنة وقوة، فقاموا بتكثيف دورياتهم لتصبح واحدة خلال فترة الاصطفاف الصباحي، وأخرى خلال الاستراحة. كما أكثروا من عبوات الغاز المسيل للدموع التي يطلقونها على المدرسة، وتفاقمت وحشية ضربهم لمن أمسكوا به من الأولاد. إلا أن جميع محاولاتهم للسيطرة علينا باءت بالفشل. بعد عقد اتفاقية أوسلو، انسحب الجيش الإسرائيلي إلى أطراف المدينة، وعند مرور أول سيارة شرطة فلسطينية بالقرب من المدرسة، تعرضت بالخطأ للضرب بالحجارة، لأنها اتّشحت بلونٍ أخضر شبيه بلون سيارات الجيش الإسرائيلي.


***


كان أحد متسلّقي جبل رينيير الذين لاقوا حتفهم، في عمري نفسه. ويظهر من نعيه أنه كان ذكياً وعطوفاً وذا ابتسامة طيبة. وعلى الرغم من أنه كان يعيش بعيداً على الساحل الغربي، شاءت الصدفة أن تعيش عائلته في الحيّ نفسه الذي أسكن فيه في بوسطن. لم يبعد المعبد اليهودي الذي أقيمَ فيه حفل تأبينه عن شقتي إلا بضعة مربعات سكنية، وقد تقرر أن يقام الحفل قبل يوم فقط من رحلتي لتسلق الجبل.

همست حينها لنفسي: "لماذا تريد الذهاب أصلاً؟". قد فرشتُ جميع معدّاتي على أرضية غرفة النوم، وبينما رحت أجوب المكان جيئةً وذهاباً، وأتفقد في ذهني قائمة اللوازم. قلت في نفسي: "لا يوجد شيء لك هناك".

ارتديتُ بدلةً سوداء من دون ربطة عنق، وأذكر أنني غيرت رأيي مرتين في طريقي إلى هناك.

قامت الحاخامة بالتأبين... ثم قالت بعدها: "نحن غاضبون من الرب!"

في وقتها، لم أكن أعرف لماذا كنت متردداً في الشعور بالحزن تجاه شخص لا أعرفه إطلاقاً. كما لم أعرف ماذا أفعل بقبعة الكيباه اليهودية التي أعطوني إياها عند الباب. "هل يجب على جميع الرجال ارتداؤها داخل المعابد اليهودية؟". دخلتُ إلى القاعة الرئيسية، وتفحّصت الحاضرين. وعندما رأيت أكثر من شخصين لا يرتدون شيئاً على رؤوسهم، وضعتُ الكيباه في جيب سترتي، ثم جلستُ بين زوجين مسنَّين في الصف الأخير، واستمعت عابساً إلى ما يُقال.

قامت الحاخامة بالتأبين، بتقليد صلاة الصمت، أي بأن يحنوا رؤوسهم ويتذكرون المتوفى، ثم قالت بعدها: "نحن غاضبون من الرب!"، وقد ملأت كلماتها القاعة، وتردد صداها في داخلي. بعدها، وقف أب المتوفى، وأمه، وأخته، وصديق طفولته، ومن كانت ستصبح خطيبته، وتكلّموا بكلّ حب عن هذا الشاب الذي واصل ملاحقة شغفه حتى بلغ نهايته المريرة. ولاستيعاب المأساة التي ألمّت بهم، استعان الأب -وهو رجل أعمال- بالمنطق، في حين لجأت الأم إلى الشعر. ثم غادروا القاعة على وقع أغاني أغنية "تخيل"، لجون لينون. وانتشرت بعدها الهمسات والهمهمات في أرجاء القاعة المزدحمة، لتتحول شيئاً فشيئاً إلى غناء جماعي. في أثناء عودتي إلى المنزل، هطل المطر بغزارة. لم يشغل تفكيري في تلك اللحظة إلا إن كان ذلك الرجل السكّير الذي أخبرني عن جبل رينيير للمرة الأولى، هو الشيطان نفسه.


***


سرعان ما تحول اتفاق أوسلو للسلام إلى مؤامرة تُحاك لإجبار منظمة التحرير على حكم مراكز السكن الفلسطينية. ومع اكتشاف أنّ وعد الحرية لم يكن إلا طيف خيال يمرّ كسراب علينا، أخذ الغضب يتراكم في الخفاء شيئاً فشيئاً. بعد أن بلغتُ الخامسة عشر ببضعة أشهر، اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية. بدأت الصدامات في القدس. شهدت الأحداث الأولى خسائر كبيرةً في الأرواح، وكان معظمهم فلسطينيين، وجميعهم عزّلاً. سرعان ما انتشرت الانتفاضة إلى بقية الضفة الغربية وقطاع غزة.

بدت الحياة خلال تلك السنوات سجناً كبيراً. تناثرت نقاط التفتيش الإسرائيلية على الطرقات. كان معظم الجنود الإسرائيليين الذين قاموا بعمل التفتيش بعمر الثمانية عشر. عامل هؤلاء الجنود جميع الفلسطينين، شباباً وشيباً، رجالاً ونساءً، كما لو أنهم حيوانات. ربما كانوا يحاولون إثبات رجولتهم أمام أنفسهم وزملائهم، عن طريق اضطهاد شعب بأكمله.

"ارتكب صديقي جريمة قتل قبل بضعة أشهر من ولادة طفلته ‘راية’. كانت تبلغ من العمر شهراً فقط، عندما زارته في المشرحة، وكانت ملاءة ملطخة بالدماء تغطي ما تبقى من وجهه، وقد وضعوا يده الباردة على صغيرته حتى تشعر باحتضانه للحظة على الأقل"

لكي يضمنوا إحكام سيطرتهم أكثر، أغلق الجيش الإسرائيلي المدن، وقطع الطرق بأكوامٍ من التراب، أو عن طريق إقامة مراكز رشاشات تراقب هذه الطرق. ولأنني كنت أسكن في أطراف مدينة الخليل، كان طريقي الوحيد إلى المدرسة مراقباً من مركز رشاش إسرائيلي. اعتاد الجنود إغلاق هذا الطريق، بإطلاق رصاصات تحذير غير معلنة نحو السيارات المارة. بعدها يُغلَق الطريق لساعة، أو اثنتين، قبل أن يُعاد فتحه مجدداً. وفي صباح أحد الأيام، أصابت رصاصة "التحذير" فلاحاً في رأسه، وكان ولداه لا يزالان محشورَين في السيارة معه. بعد ساعات عدة من الحادثة، مشيت على الطريق نفسه متجهاً إلى المدرسة.

بدأتُ خلال تلك السنوات باستكشاف مفهوم الرجولة، وغالباً ما كان يراودني شعور بالزيف حيال ذلك. فأن تخشى الموت صغيراً في الخامسة، أو العاشرة من عمرك، فهذا أمر مبرر؛ أما في الخامسة عشر، فلا مكان لخوفٍ طفوليّ كهذا. الخزي النابع من هذا الخوف فضح ضعف "رجولتي"، فاضطررت إلى أن أدافع عنها باستمرار، كي لا تسقط عني بسهولة. وهكذا باتت متأصلةً في أعماق وعيي فكرة: "من يخشى الموت ليس رجلاً". كان من المستحيل أن أعرف ما إذا كان هذا الشعور يراود الآخرين أيضاً، إلى أن جاء يوم أصيبت فيه مدرستنا بنيران مدفع رشاش. ألحّ المعلم علينا بشدّة بعدم من الاقتراب من النوافذ؛ غير أن ردة فعلنا كانت غريبةً إلى حد كبير؛ فقد نظرنا إلى بعضنا البعض لنرى كيف كانت ردة فعل الآخرين. لم يخفض أي منا رأسه.


***


لست واثقاً متى تم تجنيدهم. أذكر أن سامي كان أول من رحل، فحسب. كان شاباً يتيماً يكبرني بثلاثة أعوام. وكان متفوقاً في دراسته الابتدائية إلى أن اضطر إلى تركها في الصفّ التاسع، لإعالة عائلته. وافتتح متجراً صغيراً لبيع الّلوازم المدرسية بجوار المدرسة. كان سامي حسن المعشر، روت عيناه الذابلتان تعب سنين طويلة. صدف أن جلستُ إلى جانبه ذات مرّةٍ في المسجد. تلا يومها على مسامعنا آيات من القرآن الكريم، ثم سألني عن معنى كلمة "فضيلة". وفي ذروة الانتفاضة الثانية، حين بلغ سامي من العمر الثانية والعشرين، تسلّل إلى إحدى المستوطنات الإسرائيلية، وقتل زوجين من المستوطنين، وتحصّن في منزلهما. القنبلة التي كانت بحوزته، كانت ذات صمام قصير، فانفجرت في يده قبل أن يرميها. كانت رسالة وداع سامي موجهةً إلى والدته، متوسلاً إياها أن تفرح لاستشهاده.

وعندما وصل خبر مقتل سامي إلى جارنا سعيد، ألمّ به المرض أسبوعاً كاملاً. لم نعرف ما إذا كان السبب في مرضه هو تلقيه خبر أنه سوف يكون التالي. قام سعيد بعد أشهر بتفجير نفسه في حافلة في القدس، أسفرت عن مقتل ثمانية، أو تسعة من الإسرائيليين. وأظهرت الصور حافلةً خرجت عن مسارها، وبعض الركاب القتلى ما يزالون في مقاعدهم. كانت إحداهم عجوزاً ترفع رأسها إلى الأعلى، مغمضة العينين، فاتحةً فمها بذعرٍ واضح. أمّا سعيد ذو الثمانية عشر ربيعاً، فبدا في الصور التي تم تداولها، صغير البنية، شاحب اللّون، بوجه صبياني ترتسم في تقاطيعه معالم الطبقة المتوسطة التي ينتمي إليها. لا أتذكره ملتزماً دينيّاً، إلا أنني أتذكر حذاقته، وحدّة ذكائه. بدا شارد الذهن يوم التقيته قبل أسبوع من مقتله، أو أكثر. وفي ليلة العملية، اقتحم جنود الاحتلال دار سعيد، واعتقلوا الرجال، وفجّروا البيت انتقاماً، مخلّفين وراءهم فتحةً هائلةً في المبنى ذي الطوابق الخمسة. من المفارقات الغريبة، أن عائلة سعيد قد انتهت لتوّها من استبدال النوافذ المهشمة، إثر دويّ تفجير بيت سامي على بعد أقلّ من مئة متر منهم.

اشتهر في ما بعد بابتسامته العريضة التي ارتسمت على وجهه، بعدما انفصل رأسه، وانقذف عالياً إثر انفجار حزامه الناسف.

محمود كان أول شخص تعرفت إليه عند انتقالي إلى المدرسة الإعدادية الحكومية في بداية الصف الرابع، إذ صافحني، وأوكل لنفسه مهمة تعريفي بالمكان. شاركته مقعد الدراسة سنوات عدة. هو شابٌ مهذب، ومحبوبٌ، وحلو الكلام ينتمي إلى عائلة فقيرة. كان شخصاً متديناً، لكنه بدا بعيداً عن التعصّب. أذكر أنه كان صاحب صوت إنشاد جميل، وأنه شديد الافتخار بإبهامه الذي بُتر في صغره، في أثناء عمله في ورشة الخشب التابعة للعائلة. اشتهر في ما بعد بابتسامته العريضة التي ارتسمت على وجهه، بعدما انفصل رأسه، وانقذف عالياً إثر انفجار حزامه الناسف. قتل معه عالماً إسرائيلياً كان يجلس في مقهى. تلقّيت النبأ في أثناء جلوسي على أحد كراسي المختبرات العلمية في الجامعة التي سأتخرج منها عالماً أيضاً. أما والدة محمود، فوصل إليها النبأ مع الجنود المدججين بالسلاح الذين اقتحموا بيتهم مع غروب الشمس. ما زالت تحاول الاتصال بمحمود، لتسأله عن سبب تأخره عن العشاء. تردّد جنود الاحتلال في البداية، لكنهم عرضوا عليها صورة رأس ابنها ذي الابتسامة الكبيرة، ليتأكدوا من هويته. أجابتهم بأنها لا تعرف هذا الرأس.

محمود كان الثاني عشر من شباب حيّنا الذين رحلوا.

وعلى الرغم من التفسيرات العديدة المحتملة، إلّا أنّني لا أعلم جزماً دوافعهم. فأحداث الماضي لا تزال لغزاً محيّراً لي. ليس هنالك تسلسل منطقي يربط بينها. لكن ما أعرفه هو أنني قضيت طفولتي أتخيل مواجهة الموت، وأمدّتني تلك التخيّلات بمتعة خاصة حتى وإن انتهت بموتي. كلما وضعت السماعة، واستمعت إلى أغاني فرقتي الروك "بيرل جام"، أو "سونيك يوث"، كان ذهني يشرد عني، فتُهتُ في عالم الخيال. تخيلات انطوت على صور صريحة وتجريدية تلتقي في خاتمة واحدة، حيث يحاصرني مسلّحون عدة مجهولو الهوية. ثم تندلع معركة تودي بحياة ضحايا كُثر. ويكمن سرّ هذا التصور -جوهره وهدفه- في متعته. إذ إنني لم أجد المتعة في إيذاء "الآخرين"، الذين كانوا مجهولين، وبأعداد لا تُحصى. لكنّي وجدتها في هدوئي، وفي سيطرتي على الموقف، وغياب الخوف! حين واجهت المنيّة، وأنا أبتسم! حين متّ رجلاً! عشعشت صورة موتي تلك في أفكاري، ونفذت إلى عمق روحي، وظهرت متجسدةً في أقوالي وأفعالي.

في سن الثانية عشرة، منعني موتٌ شنيع لشخصية سنيمائية ما، من النوم لأسابيع. في الخامسة عشر، امتلكت مجلداً رقمياً سرّياً يمتلئ بصور وحشية لأشلاء بشرية جمعتها من مواقع الإنترنت. وفي السابعة عشر من العمر، صرت أختار من الطرق أكثرها خطورةً في أثناء عودتي من المدرسة. وفي العشرين، حاولت التشبه بأهالي منطقة بنسلفانيا الوسطى. وفي الثانية والعشرين، عزمت على دراسة أمراض قاتلة بحثاً عن علاجات مستحيلة. وعندما أتممت التاسعة والعشرين، أخذني حب المغامرة إلى جبالٍ شاهقة تكشف تضاريسها عن موتٍ محتمل.


***


طريق "الساطور". السواد الحالك. "الريح كادت تطير بنا بعيداً عن الجبل".

بدأنا فور وصولنا إلى الطرف الآخر من الممر الجبلي الضيق، بفك حبال التثبيت، واتجهنا نحو المنحدرات الجليدية العليا. تعرّت على صخور هذه المنحدرات مخاوف الصغر، وتبعثرت في مهبّ الريح. لطالما سعيت إلى هذا "الموت الصغير"، فكان لا بد لي من أن أستعيد هذه المشاعر الدفينة، وأدعها تجتاحني وتعبرني.

جميعنا نتأرجح بين الحياة والموت؛ بين الوجود والنسيان. بالنسبة إلى الكثيرين، يكون هذا التأرجح هادئاً وسلساً كنبض قلبٍ نائم. بينما يكون لآخرين قوياً وشرساً كالريح العاتية تعصف تارةً، وتسكن أخرى. مع كل خطوة كنت أخطوها نحو القمة، كان هذا التأرجح يتسارع، حتى وصل إلى حد التوحد. لم يبقَ شيء غير ذاتي كاملاً، رغماً عن الفراغ.

عندما وصلنا إلى المنحدرات المكشوفة من رينيير، تبدّدت الرياح تماماً، وكأنها كانت مجرد حارس لبوابة مقدسة. نظرت إلى الأسفل، وفأسي مغروسة في صخر المنحدر، فرأيت مجموعةً من المتسلقين تتجه نحو "الساطور" باضطراب وخوف.

بعد ساعات عدة من التسلق، وقبيل وصولنا إلى قمة رينيير، استرحنا للمرة الأخيرة فوق المنحدرات العليا. وبدت أمامنا في الأفق، حيث انقشعت الغيوم، سلسة الجبال الوعرة بألوانها الدافئة التي تتدرج بين أطياف الأحمر والقرمزيّ، وتتحول إلى الأصفر، قبل أن تتبخر في بدن السماء الفولاذية. كنا نهمّ بمواصلة التسلق حين انسلّ خيط ضوءٍ من الشرق، يجرّ خلفه الشمس على مهل.

كانت قمة جبل رينيير جرداء ووعرةً، تماماً كما تخيّلتها. وقد نجح سبعة من أصل ثمانية متسلقين ضمن مجموعتنا، في بلوغ القمة زاحفين تقريباً. وبعد أن خطّينا أسماءنا في سجل القمة، ترنّحتُ في مكاني بسبب نقص الأوكسجين؛ فغرست فأسي عميقاً في الجليد، واتكأت عليه ملتقطاً أنفاسي بصعوبة. جلت ببصري نحو الأعلى إلى الأفق. كانت السماء لا زورديةً تتخللها بعض الخطوط البيضاء المتقاطعة بفعل مرور الطائرات. واستعادت الريح قوتها لتهدر بشدة في أرجاء المكان. كان المشهد مستقراً على هذه الحال كأنه سرمدي، كما لو أنه لم يتغير قط، وعيون لا تُعدّ أبصرت عبر التاريخ المنظر الهائل نفسه.

سأتسلق لاحقاً جبالاً أعلى؛ ولا علاقة لذلك بالرجولة مطلقاً؛ فالأمر برمّته هو الاستمتاع بمنظر جميل، والحصول على قصة جيدة لا أكثر. أما الرجولة، فهي شيء آخر، وقصة مختلفة تماماً، وهذا لا يشعرني بالخيبة على الإطلاق. نظرت إلى أفراد المجموعة الآخرين، وأحسست بتعاطف جذري تجاه كل واحد منهم. كان شعوري هذا أشبه بفهم حقيقة بوذية وسط صالة مطار مكتظة بالمسافرين. أخبرتهم بأنني كنت أتسلق لصالح جمعية خيرية تبني ملاعب للأطفال الفلسطينيين. سحبت علم الجمعية من حقيبتي محاولاً التقاط صورة، إلا أن الريح كانت قويةً، والعلم كبير للغاية. فسارع إلى مساعدتي متسلق آخر، وهو عجوز متهكم من الجنوب الأمريكي، قائلاً: "دعني أساعدك في هذا. ابعث إليّ بمعلومات عن هذه الجمعية".

عرفت أن معظم حالات الوفاة بين متسلقي الجبال، تحدث في أثناء هبوطهم، ولكنني نزلت من القمة وأنا أصفّر لحن أغنية "قبلة... أبني عليها حلماً"، للويس أرمسترونغ.


***


وبينما كنت أهبط من القمة، كان أحد أصدقاء طفولتي يشارك في الوقت نفسه في تنفيذ عملية خطيرة في ضواحي مسقط رأسنا؛ اختطف ثلاثة مراهقين إسرائيليين كانوا يسيرون خارج مستوطنة في الضفة الغربية، وذلك لغرض مبادلتهم بأسرى فلسطينيين. وعندما حاول أكبر الشبان الثلاثة مقاومة عملية الخطف، أطلق صديقي وشريكه الرصاص عليهم، وأردياهم قتلى، ودفنا الجثث في قبور ضحلة محفورة في التلال المحيطة بمنزلنا، وهي التلال نفسها التي لطالما استمتعت بالسير فيها عندما كنت صبياً. وأسفرت هذه العملية بشكل مباشر عن سلسلة من الأفعال العنيفة التي بلغت ذروتها في الحرب على غزة عام 2014. وقد كان ذلك ثالث هجوم من نوعه على غزة، خلال السنوات الست الماضية، والأكثر تكلفةً، إذ خلّف 500 طفل فلسطيني قتيلاً، ومئات الآلاف من الضحايا المصابين بصدمات نفسية.

وبعد أشهر عدة، حاصر الجيش الإسرائيلي المستودع المهجور الذي كان يختبئ فيه صديقي. وتلقّى رصاصةً حطمت الجزء الأمامي من جمجمته، وحوّلت وجهه إلى ثقب أسود من الدماغ والشرايين.

كانت آخر مرة رأيته فيها قبل عشر سنوات، حينما التقينا صدفةً في الشارع، ودعوته بابتسامة عريضة إلى المنزل، وجلسنا في حديقة أسرتي نحتسي الشاي، ونسترجع ذكرياتنا معاً عندما ذهبنا للصيد في البرية، وعدنا بقفصٍ مليء بالعصافير. كنت قد أنهيت للتو سنة دراستي الأولى في أمريكا، وأنهى هو في المقابل أول فترة قضاها في معسكرات الاعتقال الإسرائيلية. وعندما سألته بفضول عما إذا كان قد تعرّض للتعذيب، ابتسم كمن يبتسم لطفل بريء، ومنذ ذلك الوقت وأنا قلق عليه.

"آخر مرة رأيته فيها، كنت قد أنهيت للتو سنة دراستي الأولى في أمريكا، وأنهى هو في المقابل أول فترة قضاها في معسكرات الاعتقال الإسرائيلية. وعندما سألته بفضول عما إذا كان قد تعرّض للتعذيب، ابتسم كمن يبتسم لطفل بريء، ومنذ ذلك الوقت وأنا قلق عليه"

لقد ارتكب جريمة قتل قبل بضعة أشهر من ولادة طفلته "راية". كانت تبلغ من العمر شهراً فقط، عندما زارته في المشرحة، وكانت ملاءة ملطخة بالدماء تغطي ما تبقى من وجهه، وقد وضعوا يده الباردة على صغيرته حتى تشعر باحتضانه للحظة على الأقل.


***


بعد ثلاث سنوات من تسلق رينير، عدت إلى فلسطين بحثاً عن الذكريات المنسية. لم يتغير شيء في حيّنا القديم، سوى آثار الصدأ على الأبواب الحديدية. وقد أعيد بناء الشقة التي كان يعيش فيها سعيد، لكنها لا تزال خاويةً. مشيت في الشارع، وصعدت التلة باتجاه المنزل الذي كانت ترتسم على جدرانه آثار يد ملطخة بالدماء. لقد اندثر تماماً، وحلت مكانه أبنية مرتفعة، وكان هناك أطفال يلعبون كرة القدم في الساحة. أشعلت سيجارةً أخرى، ونظرت عبر الإسفلت إلى الجانب الآخر من الشارع. وتراءت أمامي أم سامي في ثوب النوم وهي تشدّ شعرها بشكل هستيري. وقفت في منتصف الشارع، وشقّت الجزء العلوي من ثوبها، وصرخت وهي تلطم: "ضحكوا عليه". طلب منها رجال العائلة -والبنادق الإسرائيلية مصوّبة عليهم من كل حدب- أن توكل أمرها لله، وأن تتحلى بالصبر. ساد الصمت للحظة وجيزة، وتهادى نسيم لطيف فوق الإسفلت. كانت عصافير الدوري و"أبو زريق" تزقزق في حنايا أشجار البلوط.

نظرت نحو الأفق باتجاه الغرب، حيث كانت هناك تلة بعيدة ذكّرتني بوالدي. لقد كان شخصاً استثنائياً حقاً. ففي سن الرابعة والعشرين، وبينما كان الجميع من حوله يطمحون للانتقال إلى المدينة على بعد بضعة كيلومترات، غادر قريته النائية في شمال الضفة الغربية للالتحاق بجامعة في أمريكا، حاملاً معه رسوم فصل دراسي واحد فقط. ولم يكن من الصنف التقليدي من المهاجرين، لكونه لم يهاجر على الإطلاق؛ وإنما عاد إلى فلسطين بعد عشر سنوات، حاملاً شهادة الدكتوراه في مادة بالكاد نجح فيها في المدرسة الثانوية. لقد أراد لنا أن ننشأ في فلسطين.

أعطانا أبي شيئاً قلّما يمنحه الآباء لأبنائهم: أعطانا الحرية. فالحياة تحت الاحتلال كانت أشبه بالسجن، ولم يشأ أبي أن يكون جداراً آخر من هذا السجن.

سبق لأبي اكتشاف تلة برّية منعزلة على مشارف الخليل. اعتدنا الذهاب إلى هناك كثيراً بعد الظهيرة. كنت أنا وإخوتي نستطلع المكان بحرية لمدة ساعة، أو ساعتين؛ جيث كنت أتسلق الصخور، بينما يواصل أخي طارق بحثه عن تلك الفطور البرية ذات القوى السحرية التي قرأ عنها على الإنترنت. كنا، ولا نزال، نطلق على تلك التلة البسيطة اسم "الجبل".

*هذا الموضوع هو النسخة العربية من مقال بعنوان "نحو الحرية"،  Into Freedom، نُشر عام 2018 في مجلة LA Review of books.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image