لم يعد باب العامود مجرد رمز تاريخي لمدينة القدس، أو مجرد معلم معماري يميز بلدتها القديمة فحسب، بل أضحى أيقونة ثورة المقدسيين على الاحتلال الإسرائيلي، ومركزاً لتجمعهم في أوقات احتجاجهم وانتفاضهم ضد ممارساته. خلال السنوات القليلة الماضية، حولت سلطات الاحتلال الإسرائيلي منطقة باب العامود إلى ثكنة عسكرية، وبنت فيها ثلاثة أبراج تتمركز فيها قواتها، في محاولة لتشويه هوية المكان وإضافة صبغة احتلالية ساعية لفرض السيادة الإسرائيلية بالقوة. لكن المقدسيين، نساءً ورجالاً وأطفالاً، رفضوا هذا العام أن يفرض الاحتلال نفسه على حيزهم ووجودهم، وأعلنوا باب العامود رمزاً للثورة، فقاوموا وهم عُزّل، بالحناجر والحجارة والزجاجات الفارغة.
"باب العامود"، أصبح حيزاً حيوياً للمقدسيين؛ يجتمعون في ساحته، ويقيمون على أعتابه أنشطتهم السياسية والاجتماعية، بما يشبه الدور الذي تؤديه مراكز المدن، أو ما يسمى بالدارجة "وسط البلد". وقد سطع اسم "باب العامود" خلال شهر كانون أول/ ديسمبر من عام 2017، في أعقاب إعلان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب رسمياً اعتراف إدارته بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس.
استفزاز الاحتلال عبر نزع الحق الديني
بدأت قصة "باب العامود" هذا العام، عندما منعت قوات الاحتلال المقدسيين من التجمع في ساحته، بحجة أن ذلك يأتي ضمن إجراءات محاربة انتشار فايروس كورونا. ذلك على الرغم من أن سلطات الاحتلال ألغت معظم التقييدات المتعلقة بالتجمهر، ولا تطبقها في المناطق اليهودية. منعت قوات الاحتلال- مستعينة بفرقة "اليسام" وهي فرقة شرطية خاصة- المقدسيين من التواجد في ساحة باب العامود، وممارسة التقاليد الرمضانية السنوية. علماً بأن الحديث يدور عن مجرد فعاليات متنوعة ما بين ترديد الأناشيد الوطنية والدينية، والأنشطة الفلكلورية كالدبكة، وفعاليات مخصصة للأطفال."أصبح ذلك برنامجنا اليومي: نتجمع في منطقة باب العامود، ننشد أغاني الثورة الفلسطينية، نرفع علمنا، ثم نهتف ضد الاحتلال. فتهجم علينا قوات "اليسام" بقنابل الصوت والرصاص المعدني"
لم يكن المنع الذي تزامن مع بدء شهر رمضان المنصرم سلمياً، بل أغلقت قوات الاحتلال ساحة "باب العامود" بالسواتر الحديدية، وطردت بائعي البسطات بالقوة، وقيدت مرور الناس، علماً أن باب العامود هو المدخل الرئيسي إلى البلدة القديمة من مدينة القدس. رفض المقدسيون قرار السلطات الإسرائيلية، ووصفوه بأنه "غير مبرر" وتقف وراءه أهداف خبيثة، فصمموا على البقاء والاحتشاد. إلا أن قوات الاحتلال ردت عليهم بلغة القوة، ما أدى إلى إصابة المئات من الفلسطينيين، من نساء وأطفال وشبان ومسنين.
يقول أحمد؛ الشاب المقدسي العشريني لرصيف22، وهو من سكان بلدة سلوان المتاخمة للمسجد الأقصى: "شعرنا أن الاحتلال يتعمد إخراجنا في منطقة باب العامود بالتحديد. لكن ذلك خلق في أنفسنا رغبة في التحدي، بأننا سنبقى هناك وسنأتي كل يوم إلى باب العامود، سنواجه محاولات قمعنا بالقوة، ولن نستسلم للرصاص المعدني وقنابل الغاز والصوت". ويضيف قائلاً: "أصبح ذلك برنامجنا اليومي: نتجمع في منطقة باب العامود، ننشد أغاني الثورة الفلسطينية، نرفع علمنا، ثم نهتف ضد الاحتلال. فتهجم علينا قوات "اليسام" بقنابل الصوت والرصاص المعدني. نتفرق لدقائق معدودة، قبل أن نعود إلى ساحتنا المجيدة، ونحن نعرف أننا سنتعرض للقمع مرة واثنتين وثلاث".
"باب العامود هو بمثابة مسرح للمقدسيين خلال شهر رمضان، يجلسون فيه، يتبادلون الحديث، ويشاهدون الفعاليات الرمضانية، يخرج المقدسيون من أماكن سكنهم الضيقة في المدينة إلى باب العامود حيث متنفسهم"، يقول أحمد.
باب العامود: قلب المدينة
أما الصحفية المقدسية سلمى (اسم مستعار)، التي فضلت عدم ذكر اسمها لدواع أمنية، فتقول لرصيف22 إنها لم تفوت يوماً خلال شهر رمضان، إلا وتواجدت فيه على درجات باب العامود للمشاركة في تغطية الأحداث من جهة، وإنشاد الأغاني الثورية ومشاهدة الدبكة الشعبية من جهة أخرى.تتابع سلمى: "كان الأمر بمثابة إثبات للوجود، أن نكون أو لا نكون. أردنا أن نثبت للعالم أننا نتعرض للقمع والقتل والترهيب ونحن نقوم بأنشطة سلمية شعبية. كنا نحتفي بالشهر الكريم، نرفع علم بلادنا، نهتف لها وندعو لحريتها. لكن، وبدون سابق إنذار، تهجمت علينا قوات الاحتلال بأسلحتها، دون أي اعتبار لوجود الأطفال والشيوخ والنساء الحوامل". "أصبحنا كصحفيات وصحفيين، نتابع عبر وسائل التواصل البرامج الوطنية أمام باب العامود خلال كل يوم من أيام شهر رمضان، وننشرها عبر صفحاتنا، محاولين أن نشحذ الهمم وأن ننشر دعوات التجمهر أمام باب العامود بشكل خاص. والهدف هو تجميع أكبر عدد من الفلسطينيين، لنُثبّت حقنا في حرية التواجد في مدينتا"، تقول سلمى وتضيف: "هناك إجماع شعبي على أن باب العامود هو المكان الأنسب للتجمهر ورفض الاحتلال. أعتقد أنه أمر غير قابل للتفسير بكلمة أو اثنتين، هو باب العامود ببساطة، وسط البلد وقلب المدينة، لا يمكن استبداله بمكان آخر".
وتنوه الصحفية الفلسطينية إلى أن "أقوى ذخيرة يمتلكها المقدسيون في باب العامود هي الحجارة والزجاجات الفارغة، وما تيسر من مخلفات القمامة. في المقابل، استخدمت قوات الاحتلال أحقر الأساليب لتفريقنا وإفراغ منطقة باب العامود من أهلها، كأن يرشوا المنطقة بأكملها بالمياه العادمة، والتي تسببت بروائح كريهة لا يمكن تحملها"، وتتابع مبتسمة: "لكننا اعتدنا رائحتها، لم تعد وسيلة ناجحة للاحتلال لتفريقنا".
باب العامود اعتُبر عبر التاريخ رمزاً للثورة. فسلكه الثوار دخولاً وخروجاً من المسجد الأقصى. كما كان شاهداً على استشهاد العديد من الشبان الفلسطينيين
طريق الثوار وساحة الشهداء
يقول المختص في شؤون مدينة القدس والمسجد الأقصى، د. جمال عمرو لرصيف22 إن باب العامود اعتُبر عبر التاريخ رمزاً للثورة. فسلكه الثوار دخولاً وخروجاً من المسجد الأقصى. كما كان شاهداً على استشهاد العديد من الشبان الفلسطينيين، من بينهم من ارتقى خلال السنوات القليلة الماضية. "كأنه طريق المجاهدين والثوار. فالمنتصرون يسلكونه دائماً، وهذا ما حصل خلال الأحداث الأخيرة في مدينة القدس"، يقول عمرو ويشير إلى أنه وإثر استشهاد عدد من الشبان في ساحة باب العامود خلال السنوات الماضية، أصبح يطلق عليها "ساحة الشهداء". وتشير دراسة نشرتها مجلة الدراسات الفلسطينية إلى أن أكثر من 20 شاباً وشابة فلسطينية استشهدوا في السنوات القليلة الماضية في منطقة وساحة باب العامود برصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي، بحجة تنفيذ أو محاولة تنفيذ عمليات طعن أو إطلاق نار ضد الجنود.ويقول عمرو إن الاحتلال الإسرائيلي يعي الأهمية الرمزية والاقتصادية لهذا الباب بالنسبة للفلسطينيين. لذا فهو يتعمد أن يجعله مساراً للمستوطنين الذاهبين لحائط البراق (حائط المبكى عند اليهود)، رغم وجود طرق أخرى تؤدي إليه. كما أنه يسمح لهم بتنظيم "مسيرة الأعلام" الاستفزازية احتفاء باحتلال القدس، لكن الشباب المقدسي أفشل مسيرة هذا العام التي أقيمت في الثامن والعشرين من رمضان، رغم أنها تنظم في المكان منذ أكثر من 30 عاماً.
مشهد من الحياة اليومية لمدينة القدس امام باب العامود في اربعينيات القرن الماضي (Apo Documentaries)
مكانته التاريخية المستمرة
اكتسب باب العامود أهمية ثقافية واستراتيجية وجغرافية خلال كافة الحقبات التي عايشها، ليصبح على مدار قرون الممر الرئيسي لجميع القوافل التجارية والأفواج السياحية المتجهة للقدس. وليصبح في يومنا هذا، إشارة محلية رمزية لمدينة القدس.
يعود بناء باب العامود إلى عهد الإمبراطور الروماني روما هدريان في القرن الثاني الميلادي. ثم في العهد العثماني فتحت ستة أبواب في سور القدس، سميت الأبواب غالباً بأسماء المدن أو الجهات التي تطل عليها. فسمي باب العامود بـ"باب نابلس" و"باب دمشق". يقول جمال عمرو: "سمي بباب نابلس كونه يقع على الطريق المؤدية إلى مدينة نابلس شمالي فلسطين. أما اسم باب دمشق فأعطي له لأن القوافل قديماً كانت تخرج منه متجهة إلى مدينة دمشق في سوريا". ويشير عمرو إلى أن سبب تسمية باب العامود بهذا الاسم يعود إلى عامود كان يبرز في الساحة الداخلية للباب خلال الفترة الرومانية، وذلك ضمن سلسلة أعمدة ممتدة في البلدة القديمة حتى آخر طريق "خان الزيت". "الباب ما زال موجوداً حتى الآن، لكن الأمر يحتاج للنزول عدة درجات للوصول إليه ورؤيته"، يقول عمرو.
"باب العامود الشاهق، الجميل بتفاصيله المعمارية، صُمم لمواجهة الغزاة عبر التاريخ. باب محصن بحجارة مقدسية قوية، وشهد معارك ومجازر عدة، إلا أنه طريق المصلين المفضل، من مسلمين ومسيحيين إلى كل من المسجد الأقصى على يساره، وكنيسة القيامة على يمينه. كأنه يُرحب بكل الناس، يضمهم ويوصلهم إلى دور عبادتهم"، يؤكد عمرو.
لا تتوقف سلطاته عن استفزاز التجار الفلسطينيين في منطقة باب العامود بهدف تهويد البوابة، ضمن خطة تهويد المدينة بعامة
باب لتهويد المدينة
يُحب الفلسطينيون وزائرو القدس باب العامود بشكل خاص، ويعتبرونه مكانهم المفضل في المدينة. وحول ذلك يقول عمرو: "هو الباب الأكبر والأسهل للوصول، هو الوحيد من بين أبواب البلدة القديمة في القدس الذي تنزل إليه نزولاً. لذلك فهو يستهوي الناس. بالإضافة إلى كونه مزاراً مفضلاً للسياح، وموقعاً استراتيجياً للتنقل والتسوق بالنسبة للفلسطينيين". لكن فوق هذا الجمال والحيوية ترقد خطط الاحتلال التهويدية.فلا تتوقف سلطاته عن استفزاز التجار الفلسطينيين في منطقة باب العامود بهدف تهويد البوابة، ضمن خطة تهويد المدينة بعامة. فمثلها مثل مناطق أخرى في القدس الشرقية كحي الشيخ جراح الذي انتفض العالم من أجله، تسعى إسرائيل ضمن هذه الخطط إلى إفراغ القدس من سكانها وتطهير "عاصمة" كيانها عرقياً. وكانت بلدية القدس أشعرت التجار مراراً في باب العامود معلنة عن نيتها إغلاق المنطقة الممتدة من الباب حتى شارع الواد وصولاً إلى حائط البراق، زاعمة أنها ستجري أعمالاً في البنى التحتية. لكن المقدسيين يعون مخططات الاحتلال وأن الهدف من هذه الأعمال هو شق المزيد من الأنفاق والحفريات. فيصنعون ما بوسعهم، وحيدين دون سلطة أو قيادة، إلى الوقوف بوجه تهويد مدينتهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...