غرائبيةُ المشهد، سورياليةُ الحبكة، ومستفزةُ الخطاب؛ هكذا يمكن أن نقارب مدرسة الفنان المغربي، نبيل لحلو، الفنية التي لا تنتصر إلا لقناعات مؤسسها منذ ستينيات القرن الماضي، إلى اليوم. الكاتب والممثل والمخرج والموضّب الذي يقبض على أدواره كمن يقبض على جمر، لا يهادن ولا يجامل في إبداعاته التي يمكن تصنيفها في إطار المسرح والسينما السياسيَّين، لا يحتاج إلى ساعي البريد لإيصال رسائله، ولا إلى حمام زاجل مخاتل. وحدها المدافع تليق بحممه لمن يهمهم الأمر. استضافه رصيف22، بعد عرضه المسرحي الأخير "المرأة صاحبة المسدس 45"، الذي تؤدي دور البطلولة فيه صوفيا هادي، الفنانة المتفردة، ورفيقة درب الفنان نبيل لحلو، وهي المسرحية التي عُرضت على المسرح الوطني محمد الخامس في الرباط، وتقدَّم على مسارح مختلفة في المغرب مع بداية العام الحالي.
هل يمكننا الحديث عن "سينما مسرحية"، و"مسرح سينمائي"، كتناصّ تتسم به مدرسة نبيل لحلو الإبداعية؟ وما موضع التماهي والتقاطع بين العالمين؟
ليست هناك سينما مسرحية، أو مسرح سينمائي من وجهة نظري. سؤالك هذا يبدو لي مرتبطاً بمشاهدتك عملي المسرحي الأخير "المرأة صاحبة المسدس 45". المسرحية التي كتبتها الكاتبة الفرنسية، ماري رودوني، خصّيصاً للممثلة المغربية الكبيرة صوفيا هادي، والتي تضمنت مشاهد سينمائية وُظّفت على شاشة عاكسة في الخلفية لتمكين الممثلة صوفيا هادي -التي تشخص دور لورا ساندر- من تغيير ملابسها ثلاث عشرة مرة، لتظهر كل مرة في ديكور جديد ومختلف على الشاشة والركح. طبيعة العمل هي التي تستدعي توظيف مفردات معيّنة قد تجيب على احتياجاته الفنية. فمثلاً، أتذكّر سنة 1965، وكان عمري عشرين سنةً، قمت بإخراج مسرحية في الهواء الطلق تحت عنوان "الساعة"، تتناول موضوع البطالة، وهي من تأليف محمد التيجاني تيمود، استعملت فيها سيّارتين متبوعتين بدراجتين ناريّتين تأتيان من بعيد متوجهتين نحو الركح المملوء بعجلات مستعملة. قدمت المسرحية في ساحة باب المكينة في مدينة فاس، حيث أصبح الفضاء يستقبل سنوياً مهرجان الموسيقى الروحية منذ عقدين، طبعاً في تلك المرحلة كان المشهد بمثابة خلخلة لقواعد المسرح المتعارف عليها آنذاك.
أعمال نبيل لحلو الفنية، سواء المسرحية أو السينمائية، تنتصر لعنصر التركيب والتشبيك وتستدعي نوعاً من الاستنفار في التلقّي، فغرائبية الطرح لـ"تيمات" جادة، لا تستسهل فعل الفرجة، فهل هو رهانك لخلق جمهور يقظ؟
سبق لي أن قلت في استجواب سابق لأسبوعية لبنانية، إنني فشلت في خلق جمهور مغربي مثقف يعشق المسرح الجميل والجيد ويحب الذهاب إليه لمشاهدة الأعمال المسرحية العالمية الجيدة، لأن الدولة المغربية فشلت في زرع بذور الثقافة في عقل المواطن المغربي مند فجر الاستقلال. ويعزو فشلها هذا إلى فشل النخبة المغربية المثقفة. المخزن أسكتها كما أسكت وروَّضَ الأحزاب السياسية التقدمية، فالكل استسلم وترك الشعب يعيش كما نقول باللغة العامية "يعوم في بحره".
ونحن نتابع، ليس إنتاجاتك الفنية فحسب، ولكن حتى خرجاتك الإعلامية، سواء المكتوبة أو المرئية، نلاحظ أنك في سجال مستمر مع محيطك؟ هل فعلاً هناك ما يستدعي ذلك، أم هو طقس ومزاج؟
لا بد من العودة إلى الوراء لأُبرز الأسباب التي دفعتني لكتابة رسائلي المفتوحة التي وصل عددها إلى أكثر من ثلاثمئة رسالة. ففي شهر آذار/ مارس سنة 1970، ونحن على خشبة مسرح سينما "لامبير" في مدينة فاس نستعد لتقديم مسرحيتي "السلاحف" أمام جمهور ملأ كل مقاعد صالة العرض، نادى عليّ شرطي جاء إلى المسرح ليأخذني إلى مقر الشرطة، ثم أخبرني العقيد الممتاز أنه توصل من العاصمة الرباط بأمر مفاده منع عرض مسرحية "السلاحف" التي كانت تقدَّم تحت إشراف وزارة الثقافة ووزيرها الأول محمد الفاسي.
انطلاقاً من هذا المنع، الذي ما هو إلا ظلم محض، بدأت بكتابة رسائلي المفتوحة الموجّهة إلى الرأي العام، وإلى المسؤولين، وأول رسالة مفتوحة لي نشرتها جريدة الرأي المغربية في شهر آذار/ مارس 1971. في السنة نفسها، مُنعت مسرحيتي "الموسم الكبير" التي تتناول القضية الفلسطينية. وعندما أصبحت مخرجاً سينمائياً، تكالب الفاشلون ضدي لكوني استطعت ما بين 1978 و1983، إنتاج أربعة أفلام وإخراجها، وبدءاً من سنة 1992 منعت من الإنتاج والإخراج السينمائي لمدة تسع سنوات، وسبب المنع أنني كتبت رسالةً مفتوحةً إلى أقوى وزير للداخلية والإعلام الراحل إدريس البصري، إذ قلت له إن المدير العام للمركز السينمائي المغربي، ورئيس لجنة الدعم، لصّان تجب محاكمتهما، ولم أنتج وأخرج فيلمي السادس "سنوات المنفى"، إلا بعدما وجّهت رسالةً مفتوحةً بتاريخ 30 تشرين الأول/ أكتوبر 1999، إلى الملك محمد السادس كشفت فيها عن المنع التعسفي الذي طالني لسنوات، ومع ذلك لم أتمكّن إلاّ من إنتاج ثلاثة أفلام فقط، وإخراجها، بينما كان في استطاعتي أن أُخرِج في عهد محمد السادس أكثر من عشرة أفلام، لأنني لا زلت مُحارَباً من طرف الفاشلين الذين يسيّرون أمور السينما.
نبيل لحلو: "وجّهت نداءً إلى ملك المغرب، وقلت لجلالته إن كل ما نفعله ونقوم به، فنياً وسينمائياً وتلفزيونياً، يبقى بمثابة أعمال صغيرة جداً، وهزيلة جداً، وتافهة جداً"
ما مساحة الهدنة داخل المبدع نبيل إذا قسناها بالمسافة؟ ومن منهما الحامل أو المسند، الاستفزاز أم الإبداع؟
قد استشهد في الإجابة بمشهد من شريطي السينمائي الأخير "شوف الملك في القمر"، الذي أنتجته وأخرجته سنة 2011، إذ يقول البطل المخرج الذي عُذّب في أثناء استنطاق الشرطة، موجّهاً كلامه إلى جدّه وجدّته: 'جدّي، جدّتي، أنا الآن صاعد عند ربي الذي قبل أن ينتج لي فيلمي الأول الذي يتكلم عن جميع الدكتاتوريين الذين اغتصبوا الإنسانية منذ أن فتحت عينيها، وقتلوها عندما فتحت فمها، أنا سعيد لأن الموضوع أعجب سيدي ربي"، كيفما كانت قوة الموهبة أو العبقرية التي يملكها المبدع، وقيمتها، فمن دون الإمكانات المادية تبقى إنجازاته محدودةً. هذه هي حالي.
مسرحية "المرأة صاحبة مسدس 45" جديد فرقة نبيل لحلو الذي انتزع عرضه من بين فكَّي الإغلاق الثقافي الذي يشهده المغرب بسبب الوضع الوبائي، ففي أي وجهة ونحو أي رقم قد تشهر مسدسك؟
كما قلت مسرحية "المرأة صاحبة المسدس 45"، كتبتها ماري رودوني لصوفيا هادي بعدما شاهدتها تشخّص لمدة تفوق الساعتين دور المحامي جان باتيست كلامانس، في مسرحية السقوط للكاتب الفرنسي ألبير كامو الحائز على جائزة نوبل. في هذه المسرحية، تشهر لورا ساندر –وهي ممثلة مسرح- مسدسها للدفاع قبل كل شيء عن نفسها وحياتها في مدينة مليئة بالأخطار، إذ وجدت نفسها في بلد أجنبي بعدما غادرت بلدها الذي اندلعت فيه الحرب الأهلية.
في معظم أعمالك أنت الكاتب والمخرج والممثل. إلى أيٍّ منهم ينحاز المبدع داخلك؟ ألا تجد أن هذا الاستفراد بسلطة الأدوار هو الشطط نفسه الذي تروم كبحه بكشفه فنّياً؟
منذ طفولتي، وحبي وعشقي للمسرح، هيّأني للقيام بكل شيء. فأول مسرحية اقتبستها هي "يوليوس قيصر" لوليام شكسبير. قمت بإخراجها كهاوٍ. حصل هذا سنة 1963، السنة التي ودّعت فيها مدينة فاس مسقط رأسي للذهاب إلى باريس لدراسة المسرح. أما أول مسرحية كتبتها باللغة الفرنسية، فكانت تحت عنوان "أصحاب الملايير" التي قمت بإنتاجها وإخراجها وتشخيص دورٍ فيها، وتقديمها في "دار المغرب" في باريس في شهر آذار/ مارس سنة 1967. تعوّدت على القيام بأدوارٍ عدة لأنني لم أجد لا منتجاً ولا مساعداً، فاعتمدت على نفسي، وهذا يبدو واضحاً وطاغياً في أفلامي التسعة، إذ يجدني المتفرج فيها ككاتب ومخرج وممثل رئيسي وموضّب ومصمم ملابس ومناظر إلخ... أقوم بما قام به شارلي شابلن قرناً قبلنا.
ونحن نعيش تحت رحمة كورونا منذ سنتين، والتي أضحت سيدة التشوير للعالم، ماذا عن أوبئة الفن والثقافة والفكر في عالمنا؟ هل من وصفة لمناعة جماعية؟
استمرار انتشار وباء كورونا الفتاك القاتل في بلادنا مند سنتين تقريباً، لا يجب أن ينشر اليأس والبؤس في ذهن المواطن البسيط المسكين الفقير الذي يمثّل 90 في المئة من الشعب المغربي. هذا المواطن الذي لا يذهب لا إلى مسرح ولا إلى سينما، كان على الدولة عبر قنواتها التلفزيونية أن تطعمه يومياً، وهو يعيش في الحجر الصحي داخل حجرته، أو بَرَّاكَته (بيت الصفيح)، بتصوير الأعمال المسرحية المحترفة الجيدة وبثّها، لتمكين محترفيها من الحصول علي مصدر عيشهم بما أن المسارح وقاعات السينما أُغلقت.
"عندما أصبحت مخرجاً سينمائياً، تكالب الفاشلون ضدي (...) وبدءاً من سنة 1992 منعت من الإنتاج والإخراج السينمائي لمدة تسع سنوات بأمر من وزير الداخلية إدريس البصري". نبيل لحلو لرصيف22
أعمالك الفنية لا تحصل على الدعم المادي الذي يناسب إمكاناتها الإبداعية إلى درجة أنك كتبت رسالة شكر موقّعة بأمير المَزْلُوطين (المفلسين)، بخصوص فيلمك "شوف الملك في القمر"؟ إلامَ يُعزى الأمر بنظرك؟
أنتجت وأخرجت ما بين 1978 إلى 2011، تسعة أفلام لا يتعدى مجموع دعمها من طرف المركز السنيمائي المغربي سبعة ملايين درهم ونصف، بينما سنة 2016 أهدى مدير المركز السينمائي المغربي سبعة ملايين درهم إلى صديقه المدير العام السابق للمركز السينمائي، هذا السينمائي الفاشل الذي منعني من القيام بإنتاج أفلامي، وإخراجها، بعدما قمت بإدانته عبر رسالة مفتوحة كما قلت.
عناوين أعمالك، وحتى موضوعاتها، غريبة وهزلية من قبيل "القنفوذي "، و"إبراهيم ياش"، و"معجزة 30 فبراير". هل هي لإثارة السخرية أو لإيصال رسالة ما؟
الذين يستمرون في وضع هذه الأسئلة، لم يروا أفلامي، ولا مسرحياتي. شريط "إبراهيم ياش" أي (إبراهيم من؟)، قصة تراجيدية بأسلوب سوريالي عالٍ، تتناول جحيم البيروقراطية بشكل هزلي، فيما مسرحية "معجزة 30 فبراير" مسرحية تتكلم عن الثورة الروسية.
إذا أعرناك عين الناقد الفني، كيف ترى المشهد المسرحي والسينمائي المغربي لما يزيد عن نصف قرن؟
بمناسبة مرور 20 سنةً على العهد الجديد، وجّهت عبر شريط فيديو نداءً إلى ملك المغرب، وقلت لجلالته إن كل ما نفعله ونقوم به، فنياً وسينمائياً وتلفزيونياً، يبقى بمثابة أعمال صغيرة جداً، وهزيلة جداً، وتافهة جداً، في الواقع ليس في العالم بأسره مدرسة واحدة لتكوين دكاترة في مجال المسرح. يجب إغلاق ما يُسمّى بالمعهد العالي للفنون الدرامية والتنشيط الثقافي، لأنه لم يمنح البلاد إلا ممثلين وممثلات لا قيمة ولا موهبة لهم/ ن، مع بعض الاستثناءات، وفي المقابل يجب إنشاء معاهد خاصة بالمسرح في كل المدن الكبرى، وإلغاء شهادة البكالوريا كشرط للالتحاق بالمعاهد.
أما بالنسبة إلى السينما فلقد كتبت مقالا وجّهته إلى السيد شكيب بن موسى حينما كان يشغل منصب رئيس اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي. قلت له إنه يجب إغلاق المركز السينمائي المغربي لأنه لا يصلح لأي شيء. يمكن تغيير جميع بناياته إلى مستشفى يعود بالنفع على ساكنة الأحياء الشعبية المتواجدة قرب المركز. منذ أكثر من 14 سنة، أصبح المركز السينمائي المغربي في خدمة المخرجين "الأجانب" ذوي الأصول المغربية الذين يستفيدون من صندوق الدعم بحصص الأسد، أما المخرجون المغاربة الذين ولدوا ونشأوا ويعملون في المجال بالمغرب، لا تعطى لهم أي قيمة. الدليل على ما أقوله هو أن نتائج صندوق الدعم لديسمبر/كانون الأول، منحت 5 ملايين درهم لمخرج بلجيكي يعيش ويعمل في بروكسيل. كما أعطت 5 ملايين درهم إلى مخرج بريطاني ولد بضواحي لندن، ويعيش ويشتغل في لندن. سيقول لنا المسؤولون إن الأمر يتعلق بمخرجين ذوي أصول مغربية. يا للتفاهة!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون