شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
آلاء الصديق وحزني المؤجل

آلاء الصديق وحزني المؤجل

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الجمعة 7 يناير 202201:17 م


19 حزيران/ يونيو 2021، أقسى يوم في الحياة.

#آلاء_الصديق_في_ذمة_الله، أثقل عبارة يمكن أن تمر.

لا شيء أسوأ من أن أذهب مع آلاء في رحلة، تموت فيها، وأعود وحيدةً من دونها، ثم لا أراها مرة أخرى.

دعونا نتفق على أن الفقد هو أكثر شعور مؤذٍ عرفه البشر.

الفقد في الغربة نوع مضاعف من الألم.

الفقد في ظروف لا تملك فيها حق الترحّم، ونعي من تحب، هي دنيا ملعونة.

أن يُؤجَّل الحزن حتى تتوائم "الظروف"، فلا يسمح لك بأن تحزن كما يجب، لا في الوقت الذي يجب، ولا بالطريقة التي يجب.

وأي حزن يصلحُ في رحيل آلاء.

لا شيء أسوأ من أن أذهب مع آلاء في رحلة، تموت فيها، وأعود وحيدةً من دونها، ثم لا أراها مرة أخرى

في نهاية كل أسبوع حافل بالخيبات، والقليل من الانتصارات، نجتمع لنقيِّم البشر، وننتقد مواقف، ونعطي مقاربات، وكأننا ملكنا العالم.

نحتج على الحياة، نشتم الجميع، ونلعن الاحتلال. كلام لا يتجاوز كوب فلات وايت من دون رسمة.

نتأمل قسوة الحياة، ونسوّي أنفسنا منصدمين من بشاعة الكوكب.

نبالغ في الضحك، ونسرف في اللعب، وكأن الهموم بعيدة.

تخسر في البلوت فتعترف بأن الحلو الذي أحضرته معها، وأكلناه مجاملةً، طبخته في المايكرويف على الرغم من احتوائه على ست بيضات!

آلاء رفيقة الأفكار والنضال والفتاوى والليل والفرح والحش.

جمعتنا بلدان وظروف متشابهة، وتقاسمنا الخوف والترقب والتعاسة والمصير المجهول.

تكاد تكون آلاء الوحيدة من جيلنا، التي نستطيع القول إنها حاولت بقدر ما استطاعت.

من أجل عالم عربي لا يُرجى له صلاح، تعمل. وعلى الرغم من اللا أمل، تنافح.

تكتب وتعلق وتغرد وتشارك وتحارب.

تكاد تكون آلاء الوحيدة من جيلنا، التي نستطيع القول إنها حاولت بقدر ما استطاعت.

ناهضت الظلم علناً، بكل أشكاله وأنواعه، ولم تسكت عن حق، ولم تتفرج على معاناة، ولم تنتظر نتيجة.

من معتقلين وفساد، إلى عزاء النساء، وختان الإناث، إلى البيئة والثروة المائية، مروراً بقضية فلسطين، والثورات العربية.

كان يُهيَّأ لي أن عملها عبثي محصور في تويتر، لا يُحصَد من ورائه شيئ، لكني أدركت أن هذا هو السعي، وأنها أخذت الخيار الصحيح، وأن ما تفعله هو تمثيل حقيقي للغائب من رغباتنا، والعميق من آمالنا.

كانت النافذة الوحيدة المتبقية لقضايا هي جزء مني، لكني آثرتُ الراحة والأمان.

كنت دائماً الطرف الأضعف، والأكثر تذمّراً.

رحيلها أغلق ملفاتٍ، وأنهى مؤامرات، وكتب نهاية أمور لا يتفاعل معها إلّا هي.

فقدتُ الشاهد على مراحل وأزمات وحوارات ومقابلات، وهي تدري أني لا أستطيع سرد الرواية وحدي.

ماتت فجأةً، وانتهت الحكاية، وطارت العصافير.


هذا الرثاء يعنيني بالدرجة الأولى.

فأنا أكتب هنا عن صداقة قُدِّر أن لا يكون لها أثر في العلن.

توثقت خارج العالم الافتراضي، وبعيداً عن منصات السوشال ميديا.

إلا أنها، وعلى امتداد 12 سنةً، وضعتني في مكانة مريحة، وشهدت أفضل ما عندي، وأسوأ ما عندي، وما زالت حتى نفسها الأخير تعتقد أني إنسانة كويسة جداً. تتهمني بالعنصرية سراً، وتدافع عني علناً. تبرر حماقاتي، وتمنحني مساحةً للتنمر، وتحتفي بإنجازاتي، وتسرد بطولاتي، مؤمنةً بي حتى بعد أن قضى الدهر مني ما قضى. تمنعني من الشعور بالإحباط التام، وتعينني على تجاوز صدمات الحياة وانكساراتها... وترفع سماعةً لأقرب الناس إلي، لتقول: "لا تكونوا والدنيا عليها".

هذا الرثاء يعنيني بالدرجة الأولى. فأنا أكتب هنا عن صداقة قُدِّر أن لا يكون لها أثر في العلن. توثقت خارج العالم الافتراضي، وبعيداً عن منصات السوشال ميديا.

النهاية هي أن ترحل آلاء، ولا تعود أبداً.

يا الله ما أتعس الموت.

الأيام بعدك ثقيلة، والشتاء طويل هنا، وباهت.

أعيش خسارةً مستمرةً، وشعوراً بالذنب لا يغادرني.

غربتي بدأت من جديد.

فقدت الرغبة، وتساوت عندي الخيارات.

دخلتُ في مرحلة الطز الكبرى.

تأتيني نوبة فقْد مفزعة، عندما أنسخ تغريدةً لأتشاركها معك، ولستِ موجودة، أو أمرّ على لون "مناكيرك" المفضل، أو "تراميسو" في "منيو" مطعم.

أبحث عن طريقة للعيش مع حقيقة أكرهها.

ما زلت أشعر بخوف ذلك اليوم.

أصبحت أكثر تشاؤماً، وأرى الموت في كل مكان، وفي ترقب دائم لصدمة جديدة.

تحولت إلى شخص لا أحب، ولا أريد، وكل شيء أصعب عليَّ من العادة.

ودّعت جزءاً مني مات معكِ.

أطالع صوري قبل 19 حزيران/ يونيو، وأقول ما أتفهني، كنت محظوظةً، وبريئةً، ولم أكن أعرف شكل وجع القلب.

ألم الفاجعة مخرس. انعدمت قدرتي على التعبير.

موتك صفعة أشعرتني بالعجز وفقدان السيطرة.

هذا الرحيل التراجيدي خلق غربةً، وخوفاً، وحزناً لا أقوى عليه.

تم تشخيصي مؤخراً باضطراب ما بعد الصدمة، ثم اكتئاب، وللمرة الأولى أستخدم الحبوب لكي أنام.

وأنا أعلم بأنه لا علاج متاحاً غير الجلوس مع الألم الذي حتماً سيأخذ وقته.

كان يجب أن تموت لكي تُكتب عنها 76 ألف تغريدة، وعشرات المقالات والقصائد ووقفات التأبين، من واشنطن إلى جنيف، وخطب جمعة في أربع عواصم أوروبية

حزينة أيضاً لأن آلاء لم تشعر بالكمية الهائلة من الحب والتقدير في حياتها، ولم تحظَ بوسام الشرف والشجاعة، وهي بيننا.

كان يجب أن تموت لكي تُكتب عنها 76 ألف تغريدة، وعشرات المقالات والقصائد ووقفات التأبين، من واشنطن إلى جنيف، وخطب جمعة في أربع عواصم أوروبية.

كانت آلاء صادقةً ومؤمنةً بالمعنى الحقيقي للإيمان... تحب الله والقرآن ولديها ورد لا تتركه.

نسمة سمحة مرنة، وفي الوقت نفسه صلبة.

أزعم أنه لم يكن عندها أمل كبير، بل شجاعة ساحقة.

أستطيع القول إنها سجلت 70% من مواقفها.

اختلفت عن المألوف، وخرجت من إطار أي جماعة وتصنيف.

وقفت في وجه كل شيء وكل أحد، أباعد وأقارب.

أرادت أن تحيا، وهذا ليس ذنباً.


دعوني أؤكد أنها كانت سعيدةً، وتحب الحياة، "والحياة تليق بها".

تتراجع بسهولة، وتغيّر قناعتها، وتعتذر.

تحب دراجتها، وسماعتها، و"هولاند بارك".

تستمتع بعمل فقرات عند اجتماع الأصدقاء: اختبارات تحديد الشخصية، ولعبة الأسئلة المحرجة وتقليد المشاهير.

نكتتها السمجة التي لا تملّ من تكرارها هي: أمٌ لديها ثلاثة أولاد، سلا وعلا وخفيش، وأترك التكملة كما كانت؛ تقول آلاء بالضبط : "سلا رجع من المدرسة فرحان، قال حق أمه 'علامات'، حسبت ولدها علا (مات)، أُغمي عليها، ويوم وعت جا الأبو يقولها 'سلامات'، حسبت ولدها سلا (مات)، جاتها جلطة يوم راحت إلى المستشفى. الدكتور قال لها 'ماتخفيش'، حسبت ولدها (خفيش) مات".

ليس ثمة ألم أقسى من رحيل شخص بهذا الجمال، شكلاً وروحاً وسعياً.

كانت تقول: "إذا مت، احزنوا يوماً واحداً فقط، وبعدها اذكروني في اللحظات السعيدة".

أنتظر اليوم الذي يتحوّل فيه ألمي هذا إلى حزن عذب... أتذكرها وأنا راضية، أو أقل قهراً على رحيلها.


لا يتكلم أحد عن موت الصديق/ ة. تُعطى مساحة، وَيُفهم الحزن، ويتم تبريره عند فقد الأم، الأب، الأخ، الشريك، والابن، وكأن هناك هيكليةً لأحقية "الزعل". يُتوقَّع دوماً أن معاناة فقد الصديق/ ة تأتي بدرجة أقل، أو أنها ضرب من المبالغة.

الدعوة للصبر والثبات وعدم الجزع، هي بالضبط عكس ما يحتاج المرء إلى فعله لتجاوز المصيبة.

يُعدّ من السطحية النظر إلى كارثة كهذه على أنها ابتلاء وفرصة لتجميع الحسنات.

الألم هو الألم.

الألم حقيقي ومبرر وجدير... وأتمنى أن نكفّ عن تلميعه من باب المواساة.

 

عن اللحظات الأخيرة، قالت إنه أسعد يوم في حياتها، واختارت للمرة الأولى أن تسمع أغنية طلال مداح: "اليوم يمكن تقولي يا نفسي إنك سعيدة/ ويشهد على صدق قولي دقات قلبي الجديدة". سألتها: "نادمة على إيش؟"، قالت: "إني سعيت في إرضاء من لا يستحق إرضاءه"

عن اللحظات الأخيرة، قالت إنه أسعد يوم في حياتها، واختارت للمرة الأولى أن تسمع أغنية طلال مداح: "اليوم يمكن تقولي يا نفسي إنك سعيدة/ ويشهد على صدق قولي دقات قلبي الجديدة". سألتها: "نادمة على إيش؟"، قالت: "إني سعيت في إرضاء من لا يستحق إرضاءه".

كانت نفسها ببساطة من دون مجاملات أو حسابات.

بَلغت آلاء في ذلك اليوم مرحلةً من السلام جعلتها تقول: "أنا اليوم أملك نفسي"... "أنا اليوم أجمل وأنضج وأقوى"... "أنا اليوم في عمر أهل الجنة".


أبكرتِ الرحيل يا آلاء. لو جاء هذا الحادث، ونحن نحتفل بعيد ميلادك الثالث والستين، لكان من الممكن نتقبّل الأمر، وكنا استمتعنا بثلاثين سنةً أخرى؛ نراك فيها تكبرين، وتحققين ما تريدين من أحلامك التي لا تنتهي، وتتجدد كل أسبوع؛ دكتورةً، ومناضلةً، ومؤلفةً، وباحثةً، وشاعرةً، وسيدة أعمال، وهامورة بيتكوين، وأمّاً لطفل واحد.

تمنيتُ لو أنها لم تمت، ونجت من الحادث، أو أنها تكسرت ثم تعافت، أو أنها دخلت في غيبوبة وتمكّنتُ من وداعها قبل رحيلها، أو على الأقل لو أن الحادث تأخّر ساعات حتى نحتفل بيوم ميلادها الذي خرجنا من أجله، ولم نحتفل به، ولم تأخذ هديتها.

مع الأسف، حرمني الظلم من حق توديعك والصلاة والسلام عليك وسيظلّ ذلك غصّةً ما حييت.

ليت الأيام كانت أقل بشاعةً، والظروف أقل قسوة.

تمنيتُ لو أنها لم تمت، ونجت من الحادث، أو أنها تكسرت ثم تعافت، أو أنها دخلت في غيبوبة وتمكّنتُ من وداعها قبل رحيلها، أو على الأقل لو أن الحادث تأخّر ساعات حتى نحتفل بيوم ميلادها الذي خرجنا من أجله، ولم نحتفل به، ولم تأخذ هديتها

على هامش هذا الحزن، قليل مما يطيّب خاطري أنني لم أتردد يوماً في قول إني أحبّها، وهي خارجة من البيت، أو في نهاية مكالمة.

أمدحها، وأقول لها: لا تغترّي، "ترى الكلام بس عشان اتّزانك الشخصي". محاولة مني لموازنة ما تتعرض له من شتائم من العالم، وبشكل يومي.

سألتها مرةً: "هل كنتُ لكِ دعماً كافياً في اللحظات الصعبة؟". ردّت: "نعم وأكثر"، أو كما تقول بلهجتها "هيه"... ممتنةً لعدم كتماني هذا الحب، واستشعارها له في حياتها.

آخ يا آلاء... و"يا رُخص الكلام"!
--

ربيعتك، سبيكة

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard