صناعة المجوهرات كتعبير عن الحب، هذه هي فلسفة عزة فهمي لخلق فنها. هذا الفن الفريد منبعه شغف صادق بالحياة وبالأرواح التي تتآلف، فتتزين في رحلتها على الأرض بهذه القطع الثمينة التي تخلقها يدٌ مُحِبة وراعية.
من ورشة صغيرة في بولاق وصلت عزة فهمي إلى العالمية، وقدّمت تصميمات ذات أبعاد شكلية وجمالية مخالفة ومثيرة، مستوحاة من تاريخ مصر القديمة وموروثها الحكائي، ولتصبح وجهة للمصممين والمشاهير المفتونين باستخدامها للخط العربي والشعر والأمثال، بالإضافة إلى التقنيات اليدوية التي تكاد تضمحل، مثل النشر والشفتشي وتركيب الأحجار.
إنها ليست مجرد "صنايعية" ماهرة، لكنها فنانة، تؤمن أن ما تصنعه له مفعول السحر. تستمد إيمانها من التاريخ ومن المصريين القدامى الذين صنعوا تمائمهم لحماية المحبوب وجلبه. ففي مصر القديمة، كان للرجل المحب تميمته لجلب المحبوبة يكتب فيها: "اجعل فلانة تتبعني كما يتبع الثور علفه، وكما تتبع الخادمة أطفالها، وكما يتبع الراعى قطيعه"، أما المرأة فكانت لديها تميمة عمل غامضة تقول: "ها قيّدي هذا الذي أنظر إليه حتى يصير حبيبي".
وهناك تمائم لحماية الأطفال والنيل والحياة، وأخرى لحماية أرواح الموتى، كان الفراعنة يضعون تميمة الجعران على قلب الميت وتكتب عليها تعويذة: "يا قلبي الذي ورثته عن أمي لا تصبح شاهداً ضدي ولا تقل زوراً في المحاكمة". هكذا صنعت عزة فهمي قطعها الفريدة، كتمائم لها طاقتها الخاصة، تحمل روح من شكّلها بيديه.
صناعة المجوهرات كتعبير عن الحب، هذه هي فلسفة عزة فهمي لخلق فنها. هذا الفن الفريد منبعه شغف صادق بالحياة وبالأرواح التي تتآلف
لقد آمنت ابنة الصعيد بهذا الشغف وسارت خلفه، بعد تخرجها من كلية الفنون الجميلة عام 1969، عندما وجدت بالصدفة كتاباً ألمانياً حول المجوهرات التقليدية في العصور الوسطى في أوروبا في أول معرض للكتب يقام بالقاهرة، كان ثمن الكتاب يبلغ حينها 17 جنيهاً بينما كان راتب فهمي حوالي 19 جنيها، لكنها لم تتردد في اقتنائه، لأن حدسها أخبرها أن حياتها كلها ستتغير بفضله.
وقد غيّر الكتاب مسار حياة بأكملها، وقررت عزة فهمي، التي لم تكن تملك المال لدراسة هذا الفن في أوروبا، أن تتلقى تدريباً في مشغل الحاج سيد، أحد أشهر صانعي المجوهرات في حي خان الخليلي، وهناك أصبحت المرأة الوحيدة التي عملت في هذا المجال الذي كان يُعدّ حكراً على الرجال، وبعدها استطاعت أن تحصل على منحة المجلس الثقافي البريطاني التي أتاحت لها فرصة تعلم فن تصميم المجوهرات في جامعة بوليتكنك بلندن.
يقال إن سرّ تميز عزة فهمي هو مزجها الذهب بالفضة، وصناعة هذا التناقض المحبب للعين، أو دمجها للخط العربي وأبيات الشعر في مجوهراتها، بالإضافة إلى العمل مع مصممي أزياء محترفين وعالميين، كمشاركتها مثلاً في عرض مصمم الأزياء الشهير جوليان ماكدونالد عام 2006، أو في 2010 عندما انضمّت إلى أقوى ثنائي أزياء في المملكة المتحدة، برين - جاستن ثورنتون وتيا بريغازي، خلال أسبوع الموضة في نيويورك.
من ورشة صغيرة في بولاق وصلت عزة فهمي إلى العالمية، وقدّمت تصميمات ذات أبعاد شكلية وجمالية مخالفة ومثيرة، مستوحاة من تاريخ مصر القديمة وموروثها الحكائي
لكن يبدو أن نجاحها يكمن في أسباب أبعد من تلك، فتجربة عزة فهمي تتقارب مع تجربة كوكب الشرق أم كلثوم، كلتاهما كانت لهما علاقة قوية مع الأب، وكلتاهما عملتا في مجال للفن يسيطر عليه الرجال، تحديتا القوانين المستقرة للسوق ووضعتا قواعد جديدة للتعامل معه، كلتاهما صنعتا مؤسساتيهما النسائية، وكلتاهما فهمتا جيداً المجتمع العربي وتشربتا الثقافة العربية وخلقتا الفن من داخل هذه الثقافة، فدارت كل منهما بفنها على غرار المنمنمات العربية، واحدة استخدمت صوتها لتخلق العُرَب بسَلطنة الإيقاع العربي المُجرَّد الذي يبتعد عن التمثيل والصور الواضحة كما الفن الغربي مثلاً، والأخرى استخدمت الموتيفات الشرقية لصناعة خواتم وقلادات للمحبة وتمائم لحفظ الأرواح.
عام 2000 صنعت عزة فهمي مجموعتها الشهيرة المستوحاة من قصائد شعراء تحبهم، على رأسهم جبران خليل جبران وصلاح جاهين وابن حزم الأندلسي، طبعاً من الجلي تعدد روافد الذائقة الفنية لديها، فالشعراء الثلاثة من عصور مختلفة، لكل منهم أسلوبه ولغته الخاصة. واللاّفت أن فهمي لم تستخدم الشعر العربي هنا كموضة لجذب الأثرياء أو المولعين بالإكزوتيك، أو لمجرد أن تبدو الابنة الشرقية المدللة في عيون الغرب. لقد استخدمت الشعر لفهم ذاتها أولاً.
عام 2000 صنعت عزة فهمي مجموعتها الشهيرة المستوحاة من قصائد شعراء تحبهم، على رأسهم جبران خليل جبران وصلاح جاهين وابن حزم الأندلسي
تقول إنها تصنع الحلي كتعبير عن الحب، لكنها كانت تعتقد أن الحب الشرقي إما يكون محجوباً ومختبئاً أو يكون ميتافيزيقياً صوفياً، وهذا الاعتقاد غيّره لها ابن حزم الأندلسي وكتابه "طوق الحمامة"، هذا الكتاب الذي وضعه كرسالة نزولاً عند رغبة صديق زاره وسأله أن يصنّف له "رسالة في صفة الحب ومعانيه وأسبابه وأعراضه، وما يقع فيه وله على سبيل الحقيقة". وقد قسم ابن حزم الكتاب إلى ثلاثين باباً تتحدث عن الحب، منها علامات الحب، و ذكر منها إدمان النظر، والإقبال بالحديث عن المحبوب، والإسراع بالسير إلى المكان الذي يكون فيه، والاضطراب عند رؤيته فجأة، وحب الحديث عن المحبوب، بالإضافة إلى الوحدة والأنس بالانفراد والسهر.
لم تكن هذه فقط هي المجموعة الأشهر لفهمي، فقد صنعت المجموعة المملوكية مسترشدة ببرنامج الأديب الراحل جمال الغيطاني "تجليات مصرية"، لتمزج التاريخ والفن معاً، وعملت من قبلها مجموعة "بيوت النيل" التي تستلهم فيها العمارة النوبية. استخدمت الموتيفات الفرعونية أيضا التي تميز قطعها الشهيرة، إلى جانب مجموعتها المميزة "روائع الحديقة العثمانية" التي استلهمت فيها عناصر من تراث الإمبراطورية العثمانية. وهي لا تكتفي باستلهام الموتيفات الشهيرة أو المستهلكة، بل تدخل في رحلة للبحث عن التراث لتوثيق حقيقته واستيعابه جيداً، مثلاً استمرت رحلة بحثها في المجموعة المملوكية لثلاث سنوات، وفي المجموعة الفرعونية إلى سبع.
وكان من أهم إنجازاتها تعاونها مع المتحف البريطاني مرتين، مرة في معرض "الحج: رحلة إلى قلب الإسلام " الذي افتتح في يناير 2012. ابتكرت فيه مجموعة من 9 قطع، مستوحاة من رحلة الحج والرموز الروحية المرتبطة بها، وجاء تعاونها الثاني مع المتحف عام 2015 في معرض "مصر: الإيمان بعد الفراعنة".
وقد أسست عزة فهمي شركتها الخاصة التي تضم أكثر من مصنع ومدرسة لتعليم تصميم وتنفيذ صناعة الحلي، تشارك في إدارتها ابنتاها أمينة وفاطمة خالقات معاً اقتصاداً عائلياً نسائياً بامتياز، وتمكّن بسبب هذه المؤسسة الناجحة من افتتاح محلاتها في قلب أوروبا في بريطانيا وفي بيفرلي هيلز بأمريكا.
إلى جانب كل هذا، تعتز فهمي بكونها كاتبة، وتصف نفسها بأنها ليست مجرد صانعة للحلي، ولكنها أيضاً باحثة في تاريخ القطع الثمينة والنادرة، ألفت عدة كتب عن المجوهرات، من بينها: "مجوهرات شرق أوسطية من تصميم عزة فهمي" ( 1994)، "المجوهرات المصرية المسحورة: الفن التقليدي والحرف" (2007)، "المجوهرات التقليدية المصرية" (2015).
وقد نشرت سيرتها الذاتية في كتاب "أحلام لا تنتهي" الصادر مؤخراً عن الدار المصرية اللبنانية، وتصف هذه التجربة قائلة:" كتابة سيرتي الذاتية أعطتني الفرصة لاكتشاف الكثير عن نفسي، كانت أول مرة أفكر في كل المراحل التي مررت بها عبر السنين. كانت رحلة مليئة بالتحديات لكنّها كانت أجمل من تخيلاتي".
مؤخراً أطلقت فهمي مجموعتها الجديدة "أجمل ما غنى العرب" احتفالاً بالعصر الذهبي للموسيقى العربية المكونة من تسع قطع، والتي تحتفي ببعض أكثر الفنانين شهرة في الشرق الأوسط، وتضم المجموعة أبرز الأغاني من العصر الذهبي، منها "أنا قلبي دليلي" و"أنا هويت". وتشارك فهمي بمجموعتها الأحدث في معرض "أنا عربية" في واجهة الرياض الذي يستضيف أكثر من 250 مصممة ومبدعة من الوطن العربي تحت سقف واحد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...