تستيقظ كل صباح في حدود الساعة السابعة صباحاً، تمسك رأسها من الصداع، عيناها منتفختان، ومحمرتان بسبب ضربات الشمس التي تتلقاها يومياً.
تضع وشاحاً بسيطاً على رأسها، وترفقه بقطعة قماش بيضاء مطرزة، لتغطي جزءاً واسعاً من وجهها الذي ترسمه التجاعيد، حتى لا يتسنَّى للمارّة وقاصدي المكان الذي تتجه إليه، بغرض بيع أو شراء الذهب المستعمل، التعرُّف عليها.
قبل خروجها من المنزل، تقوم الخالة الستينية سميرة، من منطقة بئر توتة في الضاحية الغربية للجزائر العاصمة، بتشكيل "كموسات" من المجوهرات، وتخفيها بين أثدائها، وترتدي بعدها تنورة فضفاضة حتى لا يعترض اللصوص طريقها.
"ورثتُ المهنة من أمّي"
تقول الخالة سميرة لرصيف22، إنها ورثت هذه المهنة من والدتها قبل أكثر من عقدين من الزمن، فأمها امتهنتها لتعيل أطفالها الصغار وتعلّمهم بعد وفاة زوجها، وهي اليوم تقوم بنفس العمل لإعالة أسرتها الصغيرة، "بسبب الواقع المزري الصعب" الذي تعيشه، فزوجها كان ينفق راتبه الشهري على الكحول والسجائر.
تقول سميرة: "لعنة الفقر قادتني إلى التسكع بين شارع دبيح شريف "شارع مخلد لذكرى الشهيد الجزائري دبيح شريف" على مشارف القصبة العتيقة، وأزقة ساحة الأمير عبد القادر، وسط العاصمة الجزائرية، لبيع أقراط أو خواتم مستعملة أو قلادات وحتى أحزمة من الذهب المستعمل"، ويسميها الجزائريون "الكاس".
تمكنت سميرة عبر هذا العمل من تربية أبنائها الأربعة، أحدهم يدرس بالجامعة، وابنتها الكبرى تزوجت، وتُضيف أن "أغلب النسوة اللواتي يتقاسمن معها أرصفة الشوارع لاصطياد الزبائن، في هذه السوق الموروثة من أيام الاستعمار الفرنسي، هن من الأرامل والمطلقات، اللواتي دفعهن وضعهن الاجتماعي المأساوي إلى هذه المهنة بحثاً عن مورد رزق، رغم أنها محفوفة بالمخاطر".
قبل خروجها من المنزل، تقوم المرأة الستينية سميرة، بتشكيل "كموسات" من المجوهرات، وتخفيها بين أثدائها، وترتدي تنورة فضفاضة حتى لا يعترض اللصوص طريقها... هكذا تخاطر جزائريات ببيع الذهب، واحتكرن هذا السوق على الأرصفة
وترى سميرة مهنتها خطرة، خاصة عليها كامرأة، تقول: "هذه التجارة الموازية خطيرة، فمخاطرها أكثر من فوائدها، والنسوة معرضات للسرقة في بيوتهن أو أثناء العودة، فهذه السوق يلتمّ فيها شباب السوء، لذلك تضطر النسوة لإخفاء ملامحهن باستعمال العجار "فطعة قماش تخفي جزءاً من الوجه"، وتضطر أخريات لاستبدال ملابسهنّ مباشرة بعد انقضاء يومهن".
مهنة خطر ومخاطر
أمام محل تجاري موصد تجلس مريم، شابة جزائرية في العقد الثالث من العمر، مُطلقة وأم لطفلين، من منطقة بلكور وسط العاصمة الجزائر، يداها منقبتان ومطرزتان بمجوهرات من مختلف الأشكال والأحجام، عيناها تتمايلان يميناً وشمالاً لاستدراج الزبائن، تردد بين الحين والآخر "ذهب كاسي".
تقول مريم لرصيف22: "بائعات الذهب يجسّدن قصصاً مؤلمة عن الفقر وقلة الرزق، بعضهن تغلبن على البؤس وأصبحن ثريات، وتغطرسن وعشن عيشة بذخ وترف".
وتروي مريم مشوارها في بيع الذهب المستعمل: "بعد طلاقي سنة 2002، لم أجد طريقة أعيل بها طفليّ، فدلتني صديقة والدتي التي اعتزلت هذه المهنة، على أحد التجار النافذين فيها ليزودني بالقطع الذهبية، وصرت أجني في نهاية اليوم مبلغاً مالياً معتبراً، يرتفع بشكل كبير في موسم الأعراس الذي يتزامن عادة مع فصل الصيف".
طبيعة هذه المهنة ليست سهلة، بحسب مريم، ولكن لا بديل عنها بالنسبة للكثيرات ممن يتقاسمن معها الأرصفة، تقول عن جانب من جوانب معاناتها الدورية: "عادة تدخل الدلاّلات في كرّ وفرّ مع مصالح الأمن لتفرقتهن، باعتبار أن نشاطهن غير قانوني، لكن هؤلاء النساء لا يكترثن لملاحقة الشرطة لهن، لأنهن تعودن على الوضع، وهمهن الوحيد هو تخفيف أعباء الحياة اليومية".
حسينة (37 عاماً) من منطقة سيدي فرج، أم لطفل يبلغ من العمر 21 سنة، هي الأخرى دفعها لبيع الذهب المستعمل على الأرصفة، ابنها وعائلتها الصغيرة التي تعيلها.
تقول حسينة لرصيف22: "أنا مجبرة على افتراش الرصيف، رغم البرد القارس وتساقط الأمطار، لأني لم أجد سبيلاً آخر لإعالة ابني بعد أن تخلى زوجي عني".
"المرأة الجزائرية تسيطر على غالبية سوق الذهب، في تجارة موازية غير رسمية دفعت العديد من ورش المجوهرات والحلي للإغلاق"
وتشرح حسينة خفايا هذه السوق قائلة: "إنها سوق تدار على الأرصفة من طرف الفقيرات لأجل الفقراء، فأغلب اللواتي يتقاسمن معها الرصيف يلقبن بأسماء تجسد الشقاء والبؤس الذي يتخبطن فيه، مثل أم المساكين أو أم اليتامى"، ولكن حسينة تستدرك قائلة: "هذه السوق تدرُّ أموالاً ضخمة، فهي تشكل سوقاً موازية لسوق الذهب الرسمية، كما أنها تحظى بدعم وحماية كبيرة من طرف بعض النافذين، فهم يوفرون حماية خاصة بها شبيهة بالحماية التي يوفرونها للسوق الموازية للعملة الصعبة".
"سوق موازية وغير قانونية"
وعن ظاهرة بيع الذهب المستعمل في شوارع بالعاصمة الجزائر، يقول عضو في المنظمة الجزائرية لحماية المستهلك، فادي تميم، لرصيف22، إنها سوق موازية غير قانونية تحتمل الكثير من الاحتيال والتدليس.
ويشير تميم إلى أنه تم تسجيل الكثير من القضايا حول التلاعب بالوزن، العيار، والنوعية الخاصة بالذهب: "في هذه الأسواق التي يعتبر فيها المستهلك الجزائري الحلقة الأضعف، ولا يستطيع الدفاع عن حقوقه بعد التعامل التجاري مباشرة".
ويمتلك هذا السوق الذي تسيطر عليه المرأة جزءاً كبيراً من سوق الذهب في الجزائر، بحسب تمين، حيث يتداول فيه حوالي 4 أطنان من إجمالي 12 طناً متداولاً في السوق النظامية، ويضيف تميم: "إن العديد من ورشات الحلي والمجوهرات التي تعمل بشكل نظامي ورسمي، أوصدت أبوابها بسبب تنامي التجارة الموازية".
"ورش المجوهرات والحلي القانونية أغلقت أبوابها بسبب السوق الموازية".
ويبلغ عدد النساء اللواتي يشتغلن في هذا النشاط التجاري غير القانوني قرابة 400 امرأة، يتوزعن عبر 4 نقاط بيع وسط الجزائر العاصمة، وأيضاً في محافظات أخرى، بحسب تميم.
ويوضح تميم أكثر: "هذه الأسواق التي يطلق عليها مصطلح "الدلالة"، منتشرة في كل محافظات الوطن، تسيطر عليها النساء بقوة، والذهب المتداول في هذه الأسواق مصدره ورشات الحلي غير المرخصة وتجارة الشنطة، أو ما يعرف بالكابة عبر التهريب".
ويؤكد أن الطلب الوطني من الذهب يقدّر بحوالي 15 طناً، فيما توفر الأسواق النظامية ما قيمته 8 أطنان، بينما توفر هذه الأسواق 7 مليون طن على مستوى الجزائر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يوممقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ 4 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.
mohamed amr -
منذ اسبوعينمقالة جميلة أوي