يواجه الشبان والشابات في غزّة حصاراً معرفياً ومعنوياً يتوازى في مساره وعمره مع الحصار الحقيقي الذي تفرضه إسرائيل على قطاع غزة، منذ 17 عاماً، ولا يقلّ هذا الحصار أهميةً عن الحصار الحقيقي المفروض على جلب البضائع والحرية في الحركة والتنقّل والاختيارات، بل بإمكاننا القول إنه حصارٌ مكمّلٌ للحصار الأوّل، ونتيجة مباشرة له.
ويتخطّى هذا الحصار حدود الأوّل -المعروف على أنه الأكثر خطورةً على سكّان القطاع- إلى مناطق أكثر عمقاً، إذ يؤثر على تجربة الكاتب والفنان الغزّي التي يحاول نقلها من خلال أعماله الأدبية والفنية، إلى تجربة أُحادية الجانب، تعبّر عن الوضع القائم في زاوية صغيرة جداً من فلسطين، فحسب.
الحصار كحالة ثقافية واجتماعية
في حديث لرصيف22، مع الشاعر الفلسطيني خالد جمعة، عن تأثير الحصار على المستوى الثقافي في غزّة، قال: "فكرة الحصار على غزة هي فكرة قديمة، ربما تكون قد تعززت مع الحصار المفروض على قطاع غزة منذ 2006، لكنها قائمة منذ ما قبل ذلك بكثير. ومن الطبيعي أن اشتداد الحصار سيؤثر في جوانب كثيرة من الحياة، وعلى الأخص الجانب الثقافي. من ناحية، فإن الكتب مثلاً، في زمن اشتداد الحصار، كانت نادرةً، ولم يهتم بها التجار، ما جعل التواصل مع الإصدارات الجديدة في الخارج صعباً، كما أن هناك تعتيماً إعلامياً على الثقافة في غزة، وأتذكر حوادث عدة، أعرفها شخصياً، عن منع مجموعة من الكتّاب من الخروج إلى مؤتمرات ومهرجانات أدبية للمشاركة بما يكتبونه عن الحصار والحروب على غزة، ناهيك عن صعوبة الطباعة والنشر. وأما ما يُنشر داخل غزة، فيكاد لا يخرج منها".
يتخطّى هذا الحصار المعرفي والمعنوي حدود الأوّل -المعروف على أنه الأكثر خطورةً على سكّان القطاع- إلى مناطق أكثر عمقاً، إذ يؤثر على تجربة الكاتب والفنان الغزّي التي يحاول نقلها من خلال أعماله الأدبية والفنية، إلى تجربة أُحادية الجانب، تعبّر عن الوضع القائم في زاوية صغيرة جداً من فلسطين، فحسب
عن وضع الفن في ظل الحصار، يقول الفنان التشكيلي ماجد مقداد، لرصيف22: "من خلال تجربتي كفنان عاصر حقبة ما قبل الحصار، والحالة النشطة التي بلغت ذروتها إبان انتفاضة الأقصى، فقد تعرّض الوسط الفني لحالة انتكاسة مفاجئة، إذ كان الاعتماد بشكل أساسي على الجهات الرسمية لتنظيم الفعاليات الفنية. مع بداية الحصار، صار الفنانون يحاولون بشكل فردي خلق بدائل، وإنشاء ملتقيات وتجمّعات فنيّة كانت لها إسهامات مهمة حتى الآن في خلق حالة نشطة، وعلى الرغم من تلك المحاولات، إلا أنّ الفنّ والفنانين في غزة يواجهون سياسة تهميش واضحة، بعيداً عن الرعايات الرسمية المحدودة التي تأتي باستحياء، نظراً لغزارة الإنتاج الفني، وقوّته، لفناني غزة نتيجة زخم الموضوعات التي تؤثر على إنتاجهم".
ويشرح الكاتب محمود جودة، نظرته الشّخصيّة عن الوضع الثّقافي العام في غزّة منذ بدء الحصار، قائلاً: "غزّة بحصارها الممتد، لم تُكتب ولم تُروَ بعد، على الرغم من كلّ المحاولات التي قام بها الكتّاب والسينمائيون، إلّا أنّ المقال لم ينتهِ بعد، وربما في حال تغيّر الوضع السياسي، سوف يتجرأ كثيرون من الكتّاب والساسة وشهود العصر ليقولوا روايتهم عن تلك الأيام والسنوات، وسوف يظهر أدب بعد الحصار بشكلٍ أوضح".
"الخروج من غزة يُشبه الخلاص، إذ يخرجُ الواحد منّا من غزّة حاملاً معه الرغبة التوّاقة إلى التجربة؛ تجربة كل شيء، وأي شيء، بوصفه الحياة الحقيقية"
أدباء وفنانون غزيّون يجسّدون "الحصار" كحالة معرفية
في ما يتعلق بالكتابة تحت تأثير الحصار، وكيف أثّر الأخير على الإنتاجات الأدبية والفنية الصادرة خلال 17 عاماً، قال خالد جمعة: "تغيّر الأدب في فلسطين عامةً بعد أوسلو، وليس بعد الحصار. وكانت لهذا الأدب سمات، منها انكسار البطل الأسطوري، فقد كان الفلسطيني قبل أوسلو في الأدب، أقرب إلى 'أخيل'، إذ تعبّر عنه الجملة الشعرية وكأنه لا يموت من رصاصة، أو قذيفة، واليوم أصبح التعبير أكثر فردانيةً، ليس بالمعنى الأناني للكلمة، ولكن بالمعنى الصوفي. أصبحنا نلمس الفرق بين الكتابة عن شهيد لنا علاقة شخصية به، وبين شهيد نسمع عنه في نشرة الأخبار، كما أن من سمات أدب ما بعد أوسلو سقوط المسلّمات الأيديولوجية في الأدب، واللجوء إلى التفاصيل الصغيرة المؤلمة أو المفرحة، والتعامل بحميمية أكثر مع المشاعر الإنسانية، ولا أظن أن مرحلةً جديدةً دخلت بعد الحصار في الأدب، بحيث يمكننا تسميتها بـ'أدب ما بعد الحصار'، لأن هذا يحتاج إلى وقت أطول في رأيي ليظهر كمرحلة أدبية جديدة".
في تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، صدرت رواية "حديقة السيقان" لمحمود جودة. تتحدث الرواية عن الشبان الذين بتُرت أقدامهم خلال مسيرات العودة على حدود قطاع غزّة، وعن معاناتهم.
في حديثه عن الرواية، يقول جودة: "لم أختَر الموضوع بقدر ما اختارني هو، لقد مرّت علينا تلك الشّهور بأقسى المشاهد والمشاعر على الإطلاق، فخُيِّل إلي أنّ المدينة كلّها تمشي على عكّازين من فرط ما حدث من بترٍ وقتلٍ في تلك المسيرات. لقد حوصرت تماماً بهؤلاء الفتية والشّبان، في أي مكانٍ في غزّة كنت ألتقي بهم، وأشاهدهم في الحوانيت والحدائق العامّة وعند الحلّاقين، وعلى مصاطب بيوت المخيمات. فتية في ريعان الشّباب تحوّلوا في لحظة إلى معوّقين بقية حياتهم. لقد كانت تلك المسيرات مصيدةً للقدرة الفلسطينيّة الشّابة، فقد حوّلت تلك المسيرات آلاف الشّبان إلى حالة اليأس وفقدان الأمل".
"تغيّر الأدب في فلسطين عامةً بعد أوسلو. وكانت لهذا الأدب سمات، منها انكسار البطل الأسطوري، فقد كان الفلسطيني قبل أوسلو في الأدب، أقرب إلى 'أخيل'، إذ تعبّر عنه الجملة الشعرية وكأنه لا يموت من رصاصة، أو قذيفة، واليوم أصبح التعبير أكثر فردانيةً، ليس بالمعنى الأناني للكلمة، ولكن بالمعنى الصوفي"
أمّا الشاعرة ضحى الكحلوت، فتحكي تجربتها قائلةً: "تجربة الكتابة، وخاصّةً الشّعر، تجربة فريدة، وتشكّل تحدياً للكاتب مع نفسه قبل المجتمع حوله. والمجتمع الغزّي بشكلٍ خاص يتعامل مع كاتب القصيدة بإلزامه بالشّعور الوطني، وينتظر منه دائماً الحديث عن تجربة الحصار، ومعاناة الغزّي مع الاحتلال، وإن لم يكن، فينتظر منه شعراً يتناول قضيّةً اجتماعيةً أو ثقافيةً، وفي الحديث عن تجربتي كفتاة، بدأت بنشر محاولاتي الشّعريّة وغيرها عبر فيسبوك، وكنت أجد اعتراضاً ورفضاً لبعض النصوص، فحدود الكتابة لديهم تضيق أكثر كوني فتاةً. تعاملت مع وسائل التواصل كمساحة للنشر مدة سنتين، ثمّ عرفت أن قبول الشّعر للفتيات في غزّة، يكاد يكون نادراً، إلّا من مجتمع الكتّاب الخاص، وتوقفت عن النشر تماماً على مواقع التواصل، وأكتفي بنشر النصوص على مواقع أدبية ومجلات محلية يبحث عنها المعنيون بالأدب".
ويضيف الكاتب والباحث الفلسطيني، مجد أبو عامر، حول تجربته: "لا أعرف إلى أي مدى يُمكن وصف الأمر هكذا، يبدو وقع الجملة ثقيلاً، وفيه إضفاء إلى البطولة؛ ‘إصدار كتاب تحت الحصار’، إذ يُمكن للمرء أن ينجو تحت الحصار، لكن يبدو إصدار الكتاب على أنه فعلٌ فوق الحصار، وغير خاضع لشروطه، وربما تجربتي في هذا المنحى تُجيب على السؤال حرفياً، إذ لم تكن فكرة الطباعة واردةً لدي، إلا حين جاءت دعوة من وزارة الثقافة الفلسطينية للمشاركة في معرض فلسطين الدولي للكتاب، الأمر الذي دفعني إلى مراجعة مخطوط مجموعتي الشعرية 'مقبرة لم تكتمل' (2018)، ودفعها إلى فرن الطباعة، لعلّ الكتاب يصير جواز سفر، ويخرجني من الحصار. الكتاب صدر، ولكني علقتُ في غزة حينها".
ويضيف الفنان ماجد مقداد: "مصطلح أدب، أو فن ما بعد الحصار، هو توصيف لحالة التغيير التي صاحبت الحصار، إذ أصبحت التجربة الفنية في حالة صراع مع شكل الحصار، في محاولة لكسره. أعتقد أن الفنانين في غزة، وعلى الرغم من صعوبة التعاطي مع الحصار، إلّا أنهم أظهروا قدرةً، كما الكُلِّ الفلسطيني، على خلق بدائل لنشر الأعمال الفنية التي نبعت في معظمها من فكرة الحصار، وكانت محاولة تمرد فجَّة في وجهه. ربما كان أثر الحصار سلبياً على كلّ شيء في غزّة، لكنه كان سبباً في تقديم الفن بشكل جديد، يحمل نكهة تمرد وقفز فوق كلّ الحواجز".
وتقول الشّاعرة ضحى الكحلوت: "الحصار أحد أهم أسباب لجوئنا إلى الكتابة، هذه المأساة التي دفعتنا نحو الشّعر والرواية والقصّة، لكنه يقف سدّاً منيعاً أمام التّجارب التي تفتح أفق الكتابة والتفكير، فالعيش لأكثر من عشرين عاماً في مدينةٍ يتشابه أهلها في معظم العادات، ويحملون التفكير نفسه، ويتفقون في غالبية الأحكام المطلقة، عدا عن محدوديّة فرص الكاتب في الخروج والدخول من القطاع، كلّها أسباب تحدّ من أفكار الكاتب، ومن اتّساع خياله ولغته وفهمه لأشياء لم يعشها. الحصار مفردة تجعلنا في بحثٍ لا ينقطع عن معنى الحرية، وفي توقٍ مستمر إلى ترتيب المشاعر المتخيّلة".
"العيش لأكثر من عشرين عاماً في مدينةٍ يتشابه أهلها في معظم العادات، ويحملون التفكير نفسه، ويتفقون في غالبية الأحكام المطلقة، عدا عن محدوديّة فرص الكاتب في الخروج والدخول من القطاع، كلّها أسباب تحدّ من أفكار الكاتب، ومن اتّساع خياله ولغته وفهمه لأشياء لم يعشها"
عُزلة غزة ثقافياً وفنيّاً
بسبب العزلة المفروضة على القطاع، وعدم لقائهم لسنوات طويلة أيّ شخص من خارجه، تأثّر الوسط الثقافي أيضاً بتبعات هذا الأمر.
عن هذا يقول الشاعر خالد جمعة: "تعود القصة في الأساس إلى سبب سياسي ما قبل عام 1967. كانت الضفة الغربية خاضعةً لحكم الأردن، بينما خضع قطاع غزة للحكم المصري، وبينهما اختلافات في القوانين التي تتعلق بالنقابات والاتحادات، كما أنه من الناحية الجغرافية، تختلف طبيعة من نشأ في الساحل البحري، عن طبيعة من نشأ في الجبل، وهذا مذكور في كتب 'عبقرية الجغرافيا'، فلكل جغرافيا طبيعتها وبنيتها، البحر والصحراء والجبل والسهل، لا تتشابه من حيث ظروفها، هذا أولاً".
ويتابع: "من ناحية أخرى، فإن سنواتٍ طويلةً من الفصل بين غزة والضفة، جعلت كلّاً منها بالنسبة إلى الأخرى، وكأنها بلاد في كوكب آخر. ليست هناك معرفة 'ملامسة'، بل معرفة سمعية، أو معرفة قراءة، وهذا يخلق نوعاً من الفكرة النمطية لدى الشقّين، وبالطبع فإن الحصار عزز هذا العزل بشكل واضح. نقطة أخرى قد تكون عززت هذا الفصل، هي العدوانات المتكررة على غزة، والتي جعلتها في مركز الأحداث خلال محطة العدوان فحسب، وبمجرد انتهائه تغيب غزة عن المشهد، لأن صوت الدم والشهداء والبيوت المهدومة أعلى من صوت الحياة العادي، وإيقاعها. على سبيل المثال، لماذا لا تُذكر غزة هذه الأيام في الأخبار؟ في النهاية، أعتقد أن الفصل كان مخططاً له منذ زمن طويل، وتم النّجاح في هذا التخطيط على بعض الأصعدة".
"حدود الكتابة لديهم تضيق أكثر كوني فتاةً."
ويقول ماجد مقداد في هذا الصّدد: "أعتقد أنّ الفن الفلسطيني حالياً يواجه أزمة التمزق من النسيج الواحد، وعلى الرغم من إيماني بضرورة التّنوع والاختلاف في كلّ المجالات، إلّا أن ما يحدث حين نقارن شكل الفن وطبيعته في غزة والضفة، نجد أنّ المحافظة على الفن التقليدي كانت الملاذ لبعض الفنانين، لعدم الانسلاخ عن شكل الفن الواحد، في حين توجّه بعض الفنانين نحو اتجاهات معاصرة بعضها لم يتخلَّ عن التعبير عن فلسطين، وبعضها أخذ قالب التّقليد والمحاكاة للفن العالمي. المطّلعون على الوسط الفني والثقافي في فلسطين، يعرفون حالة التهميش الواضحة لغزة وفنانيها ومبدعيها، بحيث أصبح البعض يستجدي المؤسسات التي أصبحت محتكرةً في الضفة لتقديم بعض الفتات لمساعدة الفنان على الاستمرار، بالإضافة إلى تغييب الأجسام النقابية والمؤسسات الفنية في غزة تماماً، واقتصار الأنشطة الفنية على جهات معيّنة محدودة لا تسدّ نهم الفنانين فيه، وأعدادهم المتصاعدة، وتجاربهم المتنامية".
تضيف ضحى الكحلوت، حول محاولتها إصدار ديوانٍ شعريّ: "لم تصل نسخ ديواني إلى مكان أبعد من غزّة، ولم أتواصل مع دور النشر في الخارج، والنشر في غزة لا يتعدى حدود العائلة والأصدقاء، لقلّة خبرة دور النشر، وتعاملهم مع إصدارات الكتّاب عبارة عن مكسب مادي ليس إلّا".
ختاماً، يقول مجد أبو عامر: "الخروج من غزة يُشبه الخلاص، إذ يخرجُ الواحد منّا من غزّة حاملاً معه الرغبة التوّاقة إلى التجربة؛ تجربة كل شيء، وأي شيء، بوصفه الحياة الحقيقية. اجتماعياً، بات لي أصدقاء بهويات وألسنة متباينة، وأقابلُ يومياً قصصاً جديدة، بخلافِ الحال في غزّة، حين كُنّا نحتفي بزيارة أحدهم وقد جاء من الضفة الغربية مثلاً، ونعدّ مقابلته حدثاً! أمّا ثقافياً، فأدركتُ أن العالم أوسع مما كنّا نظنّ، وأننا لسنا مركزه -غزيين وفلسطينيين- وأنّ التجارب الصغيرة في البلاد، والقراءات، مهما اتّسعت، تظلّ ضئيلةً خارج حيّزها، فغزّة المكان الأسهل لكي تُصبح فناناً، أو شاعراً، لقلّة ما هو موجود، وتذكركُ الأخبار مع متلازمة 'على الرغم من الحصار'".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...