شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
بوحٌ شخصيّ بين الفاضح والمستور: ما زالوا يحاصرون جسدي وأفكاري

بوحٌ شخصيّ بين الفاضح والمستور: ما زالوا يحاصرون جسدي وأفكاري

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 21 ديسمبر 202109:05 ص

تم إنتاج هذا المقال ضمن ملف "الفضاء العام والجسد"، من إعداد مؤسسة شبكة الصحفيات السوريات، فريق برنامج "جندر رادار"؛ بهدف إنتاج محتوى نسوي تقاطعي. حُرر ونُشر بالتعاون بين رصيف22، وشبكة الصحفيات السوريات.

يتملّكني الخوف في كلّ مرةٍ أفقد فيها مساحةً من جسدي وأفكاري وذاتي، سواء ضمن عملي الصحافي، أو ضمن مشاركاتي المتعلّقة بالأنشطة التي تُقام من قِبل منظّمات المجتمع المدني.

أعيش في مدينة غازي عنتاب التركية، منذ ما يقارب السبع السنوات، وأعمل صحافية، وأؤمن بالفكر النسوي، إلا أن كلمة "نسوية"، عادةً ما ينظر إليها المجتمع على أنّها ذات معنى "تحريري"، ويتفحصها بعينٍ مستهجنةٍ أحياناً. يؤول الأمر نتيجة أفكاري، إلى أن يرفضني الكثيرون من حولي، وأفكاري، وطريقة لبسي، لأجد نفسي في كلّ مرةٍ أخوض فيها نقاشاً، غالباً ما يكون عقيماً، أحاول أن أقول للغير إنني لا أشبهك؛ فكما أنت موجود، ولك مساحتك، فأنا، وربما غيري موجودات/ ون، ولنا مساحتنا ضمن المجال العام.

اليوم، وبعد مغادرتي سوريا، والتوجّه للعيش في تركيا، ما زالت التوقّعات والقيود الاجتماعية تحاصر مساحة جسدي وأفكاري، بل ربما هي اليوم أشدّ وطأةً على نفسي.

أنتمي إلى عائلةٍ متديّنةٍ ومحافظة، ومنذ أن أصبحت في سنّ الـ12 عاماً، بدأت أشعر بأنني أفقد مساحة جسدي، وأنه لم يعد ملكي، إذ كان لا بد للأهل والأقارب إلا التدخل بطريقة لبسي، وسلوكي، وكيفية تعبيري عن ذاتي. فكان كل ما يتعلّق بحرياتي الشخصية، يندرج ضمن العادات والتقاليد والقيود المجتمعية، وينتظر منّي المجتمع أن أعبّر عن ذاتي وفقاً لتوقّعاته، وأن تكون ثيابي تتناسب مع توجّهاته، وأرتدي الحجاب، وأصبح مثل بنات عائلتي، وقريناتي.

اليوم، وبعد مغادرتي سوريا، والتوجّه للعيش في تركيا، ما زالت التوقّعات والقيود الاجتماعية تحاصر مساحة جسدي وأفكاري، بل ربما هي اليوم أشدّ وطأةً على نفسي.

اليوم، أصبح في الكثير من الأحيان، الحكم على النساء ممتزجاً بأيديولوجيات تحكمها التوجّهات السياسية غير البريئة، التي تحاصر أجساد العديد من النساء، وتفرض عليهنّ نمط لباسٍ معيّن، وسلوكيات معيّنة، بل وبدأت تحاصر النساء حتى في مصدر عيشهنّ، وفرص حصولهنّ على العمل.

ازداد التضييق عليّ، عندما بدأت أتبنّى الفكر النسوي، فأصبحت في نظر الكثيرين/ ات مفصومةً عن واقعي، ومنسلخةً عن مجتمعي، بل وفرص عملي باتت محدودة.

لا أستطع أن أنسى تجربتي القاسية مع بعض المنظّمات التي تعمل في المجال النسائي، ويدار البعض منها من قبل نساء، ممن يرفضن الأفكار النسوية، وأحياناً الجندرية، ويعدّونها أفكاراً دخيلةً على المجتمع، مع العلم أنه عندما أكون نسويةً، فحكماً أنا أؤمن بالمساواة الجندرية (العدالة والمساواة بين كافة الفئات المجتمعية)، ولكن وفقاً لملاحظاتي عن المنظّمات في تركيا، وفي غازي عنتاب تحديداً. إذ وجدت أن الكثير منها قد تقبل المساواة الجندرية، ولكنهم/ ن يرفضون/ ن الأفكار النسوية، بحجة أن كلي المفهومين منفصلان، حسب إدراكهم/ ن لسياق المفاهيم، مع العلم أنه لا يمكننا بأيّ شكلٍ من الأشكال أن نفصل ما هو جندري، عما هو نسوي.

انتهى بي المطاف أن انسحبت من العمل، وفي مرّات كثيرة تم رفض توظيفي حتى من قبل المنظّمات التي تُدار من قبل نساء.

بدأت أفهم أنه لكي أكون مقبولةً اجتماعياً، ضمن المجال العام الذي أعمل فيه، ولئلا يُساء فهمي، عليّ أن أساوم على حريتي الفردية، سواء حرية لباسي، أو فكري.

تكشّف لي ذلك من خلال نقاشاتي المتكررة، وربما بعضها الغاضب، كلما تحدّثت عن الحرّيات الفردية للنساء، أو خضت في نقاشاتٍ عن النسوية، ومعناها.

ما زلت أتذكّر اتّهامات أحد الصحافيين لي، عندما أردت التعاون معه، من أجل تنظيم ورشة في "التحرير الصحافي"، وخضت معه نقاشاً عن التحرّش، "ليصفعني" بكلامه عندما أشار إلى أن طول فستاني الذي أرتديه، وقصره، هو دعوة صريحة لأيّ رجلٍ لكي يتحرّش بي.

أنتمي إلى عائلةٍ متديّنةٍ ومحافظة، ومنذ أن أصبحت في سنّ الـ12 عاماً، بدأت أشعر بأنني أفقد مساحة جسدي، وأنه لم يعد ملكي، إذ كان لا بد للأهل والأقارب إلا التدخل بطريقة لبسي، وسلوكي، وكيفية تعبيري عن ذاتي

حرية فكري... تعني حرية جسدي

كلماته ما زالت تتردد في أذني، وهو يحاول أن يقوم بدور الناصح لي: "إذا بدّك تشتغلي، ويكون صوتك مسموع... البسي لبس محتشم... لحتى ما حدا يظنّ فيكي بالسوء... ولحتى يكون إلك كلمة...".

ما زلت أتذكّر "نصيحة" هذا الصديق، كلّما أمعنت التفكير في ارتداء ما هو مريح لي، ويعبّر عنّي، وفي ما يراه المجتمع مناسباً لإمرأةٍ في بيئة العمل.

لفتراتٍ طويلة قاومت الصراع النفسي بين ملكيتي لجسدي، وبين تقاليد مجتمعي، وكبتّه في داخلي، ولكن إلى أيّ حدّ سأظلّ أقاوم نفسي، وأتظاهر بالمواءمة والموافقة على التعبير عن ذاتي، بطريقةٍ مختلفة عنّي، وأرتدي ثياباً ربما لا تعبّر عن ذاتي، وأحسب تصرّفاتي وضحكاتي وطريقة اختلاطي بالرجال، كي لا يُساء فهمي... أو أظهر أنني "محترمة"، حسب نصيحة صديقي، لأنني أرتدي ما يناسب المجتمع فحسب.

خضعت لتدريب في الحماية والأمن للصحافيين عام 2012. كانت المدرّبة تقول إنه على الصحافيات مراعاة البيئة التي يعملن فيها، لكي يحمين أنفسهنّ من التحرّش، والخطف، ويبتعدن عن استفزاز الآخرين في سلوكياتهنّ.

طرحت حينها إحدى المشاركات سؤالاً جوهرياً، أنه في حال اضطرت صحافية غير محجبة إلى ارتداء الحجاب، والعمل في مناطق محافظة، هل تعلن عن نفسها أنها في الأصل غير محجّبة، أم لا؟

 إلى أيّ مدى علينا نحن النساء أن نساوم على حرّياتنا الفردية، لكي نستطيع أن نعمل؟ وماذا لو قلت للآخر الذي سألني هل أنا ارتديت الحجاب خوفاً على نفسي من الخطف، أو التعرّض للتحرّش في مكانٍ ينتشر فيه السلاح والفوضى والحرب... هل كنت سأنجو؟

واجهت هذه النقطة من خلال عملي مع المصادر الصحافية في عددٍ من المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري. حينها، ارتديت الحجاب، وبالفعل تم حينها طرح السؤال نفسه: "هل أنت في الأصل محجّبة؟".

أجبت أنني غير محجّبة، ولكني ارتديته احتراماً لعادات المنطقة التي أعمل فيها، وتقاليدها، وبما يتوافق مع ما تعلّمته من هذه الورشة، ظنّاً منّي بأنني أُحسن التصرّف.

مع مرور الوقت، ظلّ السؤال يلحّ في رأسي، إذ إلى أيّ مدى علينا نحن النساء أن نساوم على حرّياتنا الفردية، لكي نستطيع أن نعمل؟ وماذا لو قلت للآخر الذي سألني هل أنا ارتديت الحجاب خوفاً على نفسي من الخطف، أو التعرّض للتحرّش في مكانٍ ينتشر فيه السلاح والفوضى والحرب... هل كنت سأنجو؟

قصّتي ربما مشابهة لقصة العديد من النساء، وإن اختلفت في بعض التفاصيل، عمّن يردن أن يكون لهنّ مكان وشأن في المجال العام، ويعملن ضمن أطرٍ يؤمنّ بها، غير أنهن ما يلبثن أن يجدن أجسادهن ليست ملكاً لهنّ، بل للتيارات السياسية والأيديولوجية التي تحتلّ الساحة العامة. وفي حال عدم تقيّدهنّ بـ"لوائح المحظورات"، يصبحن "فلتانات، وعانسات، وما في مين يضبهن، والحق مو عليهن بل على أبوهن، أو زوجهن، أو إخواتهن الرجال..."، والكثير من الاتهامات التي ما أنزل الله بها من سلطان، والتي تطالهنّ، وتطال رجال عائلاتهنّ.

طبعاً لا أضرب بعرض الحائط البروتوكولات الخاصّة باللباس الرسمي التي تفرضها المؤسسات عادةً، ويكون ذلك مدوّناً ضمن سياساتها المسحوبة على كلي الجنسين، ولكن في المقابل لا أستطيع أن أنكر حقيقة أن اللباس الرسمي في أحيانٍ كثيرة قد يُعدّ شمّاعةً لتمرير سياسات تضييق الخناق على النساء، وأجسادهنّ.

في هذه الجزئية، أجد نفسي مضطرةً إلى مناقشة البديهيات. فمثلاً، الثياب الرسمية قد تتضمن ارتداء تنّورةٍ قصيرة، وبنطالٍ ضيّق للنساء، وإن كنّ ضمن طابعٍ رسمي، ومع ذلك قد تُعدّ لبعض المجتمعات المحلية ثياباً غير محتمشة، مع العلم أن بعض الثياب "الرجّالية" تتضمن أيضاً قمصاناً وبناطيل ضيّقة، ولكن لا يعدّها المجتمع فاضحةً.

يندرج الأمر في النهاية، ضمن العادات، وحق الرجال في تملّك أجساد النساء، وتالياً لا يوجد مقياس دقيق لما هو "مستور أو فاضح"، وإنما ما زال المقياس يُفصَّل حسب توجهات المنظّمة، وإدارتها الأيديولوجية التي تقحم نفسها في أجسادنا نحن النساء.

قصّتي ربما مشابهة لقصة العديد من النساء، وإن اختلفت في بعض التفاصيل، عمّن يردن أن يكون لهنّ مكان وشأن في المجال العام، ويعملن ضمن أطرٍ يؤمنّ بها، غير أنهن ما يلبثن أن يجدن أجسادهن ليست ملكاً لهنّ، بل للتيارات السياسية والأيديولوجية التي تحتلّ الساحة العامة

من ناحيةٍ أخرى، من المهم التأكيد على الجانب المغاير، وأنه أيضاً اليوم، تعاني النساء من تقييدات أخرى تتعلق بأجسادهنّ كقصة عائدة (اسم مستعار، 34 عاماً)، المقيمة في إسطنبول، وتعمل صحافية مع إحدى المؤسسات الإعلامية، والتي وجدت، لأنها محجّبة، فرصها في التوظيف قليلة، بسبب أن المؤسسات الإعلامية ترغب في المذيعة غير المحجّبة. تقول: "لا أعلم لماذا يتمّ الربط بين الحجاب والمهنية؟! أرى نفسي صحافيةً مؤهلةً، ولديها خبرات... لكن دائماً يتمّ تقييدي، ورفض توظيفي، نتيجة حجابي...".

ما زال الصدام في رأسي محتدماً حتى اليوم، حول ما هو الفاصل بين المفضوح والمستور في اللباس والأفكار؟ ولماذا يتمّ أحياناً تحجيم النساء نتيجة لباسٍ معيّن، أو نمط حياة معيّن؟ وكم من امرأة تعرّضت للتنمّر والتحرّش، بما في ذلك الإلكتروني منه، لأنها بكلّ بساطةٍ أرادت أن تعبّر عن ذاتها فحسب؟ وبالطبع لا أريد في نهاية هذا البوح، أن أعمّم تجربتي، بل القول إن العوامل الثقافية والعادات والتقاليد تختلف من مجتمع إلى آخر، ومن مكان إلى آخر، مع تركيزي في هذه المقالة على المساحات العامة التي تحتلّها المعارضة السورية، والتي أنتمي إليها، إذ لا أريد أن أنسحب وأقول: "لكم ثورتكم/ ن، ولي ثورتي"، ولا أريد أن أخوض ثورةً داخل ثورة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image