شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
ملكيتي لجسدي لم تكن خياراً... لكني حاولت

ملكيتي لجسدي لم تكن خياراً... لكني حاولت

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 30 نوفمبر 202110:59 ص


تم إنتاج هذا المقال ضمن ملف "الفضاء العام والجسد"، من إعداد مؤسسة شبكة الصحفيات السوريات، فريق برنامج "جندر رادار"؛ بهدف إنتاج محتوى نسوي تقاطعي. حُرر ونُشر بالتعاون بين رصيف22، وشبكة الصحفيات السوريات.

ذلك اليوم، عندما قررت الوقوف في صفِّ الثورة، لأبدأ المشاركة في المظاهرات المناهضة للنظام، كنت مستعدةً للتخلّي عن كل شيءٍ، مقابل استمرارها وانتصارها، ومقابل تلك الحرية التي لطالما حلمت بها. لكن عقلي لم يدرك حينها أني سأتخلّى عن حريتي، لقاء السماح لي بالبقاء في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام.

تركت جامعتي في مدينة اللاذقية، وأنا طالبة في السنة الثالثة في قسم اللغة العربية، للتوجّه نحو مناطق سيطرة المعارضة في ريف اللاذقية، هرباً من الاعتقالات، وبطش النظام، فوجدت نفسي في مواجهة مصيرٍ جديدٍ فرضه المجتمع، والمحيط الحديث، بالتزامن مع التغييرات التي طرأت على تلك المناطق، ومن بينها دخول الفصائل الإسلامية المتشددة إليها.

غير أن هذا لم يكن خياراً في منطقة امتلك فيها الجميع السلطة على جسد المرأة، إلا المرأة نفسها.

أنا الشابّة التي لم تبلغ العشرين من العمر في ذلك الوقت، عددت بطبيعة الحال، أن جسدي ملكي، وأنني أمتلك الحرية التامة في التصرف به كما أشاء، فأرتدي ما أرغب من الملابس، وأختار بإرادتي وضع الحجاب، أو عدم وضعه، وذلك بما يتناسب وشخصيتي. غير أن هذا لم يكن خياراً في منطقة امتلك فيها الجميع السلطة على جسد المرأة، إلا المرأة نفسها، فبدءاً من طفولتها، ثم بلوغها عامها العاشر، يشارك الجميع في رسم شكلها، وملابسها، وتصرفاتها، ويحددون ما عليها أن تفعل، وما عليها ألا تفعل.

الهرب نحو العزلة

لم يكن حظي أفضل من بقية الفتيات، على الرغم من مقاومتي لفترةٍ أطول. فما إن بدأ الضغط يزداد عليّ لارتداء الحجاب، حتى تراجعت حالتي النفسية من سيءٍ إلى أسوأ. بدأتُ بارتداء القبّعة عند الخروج، لأصل إلى مرحلة الاعتكاف في المنزل، لأسابيع عدة، حتى ازداد الوضع سوءاً، وارتفعت وتيرة الخوف مع ارتفاع أعداد الإسلاميين المتشددين في المنطقة، لأنتقل إلى مرحلة ارتداء الحجاب خارج المنزل، من دون أن ألتزم به في حال زيارة أي شخصٍ لنا.

بحثت طويلاً عن حلولٍ، وعمّن يساندني/ تساندني، لكنني لم أجده/ ا بين أشخاص أنهكتهم/ ن الحرب، والهروب من القصف، فخِشيتهم/ ن من الموت، لم تعد تجعلهم/ ن يرون أهميةً لصراعاتٍ لطالما صُنِّفت هامشيةً، صراعات من أجل طريقة الحياة، وسبلها، والحقوق الشخصية.

في تلك الفترة، كنا نعيش حالة انقطاعٍ تام عن العالم الخارجي، فلم نكن نعرف ما يحصل خارج منطقة إقامتنا، ما زاد من الأثر السلبي على واقعي، فوجدت في القراءة ملاذي الوحيد، لأبحر في بعض الكتب التي كنت أجدها ضمن مكتبة والدي البسيطة، ممضيةً ساعاتٍ طويلةً بينها، حتى أني أعدت قراءة رواية "زوربا"، مرات عدة، لما أثارته في داخلي طريقة بحث البطل عن حل لعقدته مع الكرز، وتمنيت حينها لو أجد حلاً لعقدتي مع هذا المجتمع.

بعد وقت قصير، بدأت الرسائل تتدفق عليّ، وعلى عائلتي، داعيةً إلى ضرورة ارتداء الحجاب، والالتزام بالملابس الشرعية المفروضة على النساء كافة، إذ لم يكن من المسموح لأي امرأة أن تكون مختلفةً، ولما يحمله الأمر من خطورةٍ، اتخذت القرار بالخضوع لسلطة المجتمع، والقوى الحاكمة ذات الفكر المتشدد.

 عندما قررت الوقوف في صفِّ الثورة، لأبدأ المشاركة في المظاهرات المناهضة للنظام، كنت مستعدةً للتخلّي عن كل شيءٍ، مقابل استمرارها وانتصارها، ومقابل تلك الحرية التي لطالما حلمت بها. لكن عقلي لم يدرك حينها أني سأتخلّى عن حريتي، لقاء السماح لي بالبقاء في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام

أسباب كثيرة

كان قرار ارتدائي الحجاب، بمثابة استسلامٍ لي أمام المجتمع، والسلطة التي تحكمه، لكن أسباباً كثيرةً كان لها دور في هذا الأمر، أبرزها شعوري بالذنب، إلى جانب عدّي الاختلاف هذا ناتجاً عن قلة الإيمان، وارتكاب الفتنة والخطأ، وربطه بقلة الدين، وحمل أفكار علمانية، ما من شأنه أن يشكّل اتهاماتٍ جديةً، تعرضني بدورها لمخاطر حقيقية، سواء على الصعيد الشخصي، أو العائلي، فضلاً عن الشرخ الذي تتركه بيني وبين محيطي ومجتمعي، إذ يسعى الجميع إلى إبعاد بناتهم/ ن عني، ونبذي وكأني مجرمة، أو كأني ارتكبت خطأً لا يُغتفر.

لم أنحج في أن أكون قدوةً لبقية الفتيات اللواتي رغبن في التحكم بقراراتهن، واللواتي أردن أن يلبسن الحجاب، أو يخلعنه عن قناعة ورغبة، وليس عن فرض.

يضاف إلى ذلك، عدم وجود محيطٍ داعم لي، أو لفكرتي، حتى ممن يؤمنون/ يؤمنّ بحرية النساء في اختيار ملابسهن وشكلهن، وامتلاكهن الوكالة على أنفسهن وأجسادهن، وقرارهن في ارتداء الحجاب، أو عدمه، وذلك لصعوبة البوح بمثل هذه الأفكار علانيةً، لما يمكن أن يشكّله الأمر من خطرٍ، وما يلحقه من تبعاتٍ لا تُحمد عقباها، بالتزامن مع صعوبة الوضع الأمني، ما زاد من وحدتي، وتشكيكي بنفسي، إذ تسببت هذه الحالة بالمجمل بزعزعة ثقتي بأفكاري، وإعادتي التفكير في ما إن كنت مخطئةً في اعتقادي؛ إذ هل يُعقل أن يكون الجميع مخطئين/ ات، وأنا وحدي على صواب؟ لأصل إلى مرحلة العيش بطريقةٍ لا تناسبني، ولا تتناسب مع شخصيتي، مرتديةً ملابس لا تعبّر عني، أو عن أفكاري، فقط لأن المجتمع والسلطة الحاكمة أرادا لي ذلك.

من الخاسر؟

لطالما فكرت في المواجهة، ودرست معركتي مع مجتمعي الجديد، ومع سلطته الحاكمة، لأحسب من سيكون الخاسر فيها، ومن سيكون الرابح، لأجد نفسي الخاسرة الأكبر دوماً، كيفما اختلفت المعادلة. فخسارتي لن تقتصر على ثقة الناس بي، بل سأصبح متّهمةً وبعيدةً عن الجميع، لا أحد يشبهني، ولا أشبه أحداً في محيطي، إلى جانب ما ستحمله عائلتي من ذنبٍ ليس لها فيه أي دخل، إذ سيتم وضعهم في خانة الاتهام، حسب قوانين سلطات الأمر الواقع، لأنهم، وحسب تعبير هذه السلطة، عجزوا عن تربيتي. بل سيمتد الخطر إليهم، ليصبحوا عرضةً للسجن، والمساءلة، خاصةً وأن المحارم (الأب والأخ والزوج)، هم المسؤولون عن تصرفات المرأة، تبعاً لتشريعات المناطق التي تحكمها الفصائل الإسلامية. هذه العوامل كلها جعلتني أجد نفسي في موقعٍ أضعف من أن أواجه فيه، وإن حاولت الصمود والتمسك بموقفي لفترةٍ من الزمن، واتّباع مختلف الوسائل التي أتيحت أمامي، غير أن الوقت زاد من خطورة الأمر، وجدّيته، ومن قوة سلطة الحاكمين، بدلاً من إضعافها، كما كنت أحلم.

لم تكن نهاية قصتي كما يحدث في الأفلام التي أحببناها في أعمار الشباب الأولى، فلم أنتصر كبطلة في قصتي، بل على العكس انتصر الجميع عليّ، وعلى جسدي، وانتصرت العادات، والتقاليد، والمجتمع، والجماعات المتشددة، وكنت أنا الخاسرة الوحيدة في قصتي

لم تكن نهاية قصتي كما يحدث في الأفلام التي أحببناها في أعمار الشباب الأولى، فلم أنتصر كبطلة في قصتي، بل على العكس انتصر الجميع عليّ، وعلى جسدي، وانتصرت العادات، والتقاليد، والمجتمع، والجماعات المتشددة، وكنت أنا الخاسرة الوحيدة في قصتي. خسرت حلمي بالعيش كما أردت، وخسرت الكثير من قوّتي، وطاقتي، خلال فترة الصراع. أنا الخاسرة ليس لأنني الحلقة الأضعف، ولا لأنني لم أجد من يقف/ تقف إلى جانبي فحسب، بل لأنني خسرت عمراً وأحلاماً رسمتها للعيش بسلام وحرية، أحلاماً بأن أكون أنا، وليس تلك الهوية التي منحني إياها مجتمعي الجديد، والتي لا تعبّر عن هويتي الحقيقية.

لم أنحج في أن أكون قدوةً لبقية الفتيات اللواتي رغبن في التحكم بقراراتهن، واللواتي أردن أن يلبسن الحجاب، أو يخلعنه عن قناعة ورغبة، وليس عن فرض. لم أستطع أن أدافع عن قراراتي ورغباتي وأحميها، فصرت ضحيةً جديدةً يرسم لها المجتمع، والسلطة الحاكمة، حياتها، وملابسها، وتصرفاتها، كما يريد، وكما يحلو له، مع اختلاف بسيطٍ، هو أنني حاولت.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image