شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
نحن السوريين

نحن السوريين "العالقين في كلّ مكان"، لم يكن لدينا هدف سوى النجاة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الاثنين 20 ديسمبر 202102:05 م

منذ بداية كلّ ما يجري في بلادنا العربية من ثوراتٍ وحروبٍ وتغييرات، نسمع عن أخبار اللاجئين الذين حاولوا بشكلٍ ما أن يجدوا طريق هروبهم الأخير نحو الحياة. وردتنا الكثير من القصص والحكايات التي لم تختلف تفاصيلها في أن تمدّنا بمشاعر لا تشبه ما تعطينا إياه القصص الأخرى؛ مجموعة من الروايات منها ما ذهب إلى الأوسكار، لينافس الأفلام العالمية كونه يروي قصةً لم يشهدها أيّ من دول العالم، ومنها من وصل إلى أبرز معارض الكتب العالمية، ليقدّم قصة لاجئٍ إلى يومنا هذا يحصد نتائج قراره، ومتاعبه.

 أصبحنا نحن السوريين/ ات، جزءاً من عنوانٍ كبيرٍ مفاده أننا "العالقون في كلّ مكان"، وأصبحت حياتنا عبارةً عن حدود كبيرة، كنّا في وقتٍ ما نهرب من سجن كبير نعيش فيه، لنجد أنفسنا في سجونٍ صغيرةٍ منتشرةٍ تخبرنا بأن أيّ طريقٍ نحو الحرية.

في فترةٍ زمنيةٍ قصيرةٍ، أصبحنا نحن السوريين/ ات، جزءاً من عنوانٍ كبيرٍ مفاده أننا "العالقون في كلّ مكان"، وأصبحت حياتنا عبارةً عن حدود كبيرة، كنّا في وقتٍ ما نهرب من سجن كبير نعيش فيه، لنجد أنفسنا في سجونٍ صغيرةٍ منتشرةٍ تخبرنا بأن أيّ طريقٍ نحو الحرية، يجب أن يمرّ بسجنٍ، وأن أيّ أملٍ في طريقه للنهوض، يجب أن يُدفن أكثر من مرة، ليجد طريقه نحو النور. ولكن، ماذا عن تلك الأحلام التي دُفنت في سجونها، من دون أن تصل إلى حرّيتها أبداً؟!

تلك القصص لم تكن وليدة اليوم. منذ بداية أشكال الهجرة، ظهرت روايات كثيرة. في عام 2016، كان لدي صديق قرّر السفر إلى روسيا. في تلك الأوقات، كانت روسيا خياراً يتيماً، بالإضافة إلى السودان التي تُعدّ من البلاد التي استقبلت أعداداً كبيرةً منّا، لكوننا في تلك الفترة لم نكن نحتاج إلى فيزا لدخولها، وتالياً كان هذا الخيار هو الحلّ السرّي. صديقي عاش تجربة توم هانكس في فيلم "The Terminal"، وعند انتهاء إقامته في روسيا، تم ترحيله من البلاد. كان أمام خيارين لا ثالث لهما: إمّا لبنان أو السودان. خيار لبنان كان يحمل بالنسبة إليه الترحيل المباشر إلى سوريا، لكونه مطلوباً للخدمة الإلزامية، بينما خيار السودان كان بحاجةٍ إلى بعض الوقت، لكونه يقصده وهو لا يعلم أيّ شيءٍ عنه. مرّ على صديقي شهر كامل في مطار موسكو، عالقاً في ممراته وصالاته، وهو يشاهد كلّ الناس يحزمون حقائبهم بمنتهى الراحة، ويسافرون. قال لي إن كل ما كان يخطر بباله حينها، أنّه مستعدّ لأن يقضي حياته كاملةً في ذلك المطار، وألا يدخل البلاد ليحمل سلاحاً، لأن أوّل رصاصة كانت ستخرج منه، قال لي إنها ستكون في رأسه. حينها، لم أكن أعلم ما كان يمرّ به. كانت تصلنا أخباره كلّ أربعة أيام، وكان يقول لي إنّه أصبح صديقاً لأمن المطار، كونه يدخل كلّ يومٍ إليهم لاستجوابٍ جديد.

أتساءل عن الذنب الكبير الذي اقترفناه، لنمرّ بهذه الأوقات السيئة كلها، وما القضية الكبرى التي نحارب من أجلها، لتبقى الأفلام كلّها، مهما بلغت غرابة قصصها، نماذج عن حوادث حقيقية عشناها. صديقي اليوم أصبح عالقاً في البرازيل، من دون أن يتمّ منحه أيّ موافقةٍ من أيّ سفارة، لكونه يحمل في سجلّاته أنه كان عالقاً في المطار لمدة شهرٍ، من دون وجود أيّ وجهة تستقبله.

تروي لي صديقتي قصةً حصلت معها على الحدود الأردنية السورية، إذ أصبح الأردن السبيل لمقابلات السفارة الألمانية، للشباب السوريين، لكون بيروت لم تعد المحطة التي اعتدنا عليها. القصة تبدأ بالانتظار الطويل على الحدود، كإجراءٍ روتينيٍّ اعتدنا أن نعيشه في كلّ شيءٍ نطلبه، أو نسعى إلى الوصول إليه. وبشكلٍ اعتياديٍّ، يتم ترك أحد المواطنين السوريين على الحدود، لسببٍ مجهولٍ لا يعرفه أحد، وهذا الموقف، حسب رواية صديقتي، يتكرر في كلّ رحلة؛ تتابع وسيلة النقل رحلتها نحو الأردن، ويبقى الراكب السوري ينتظر وسيلة نقلٍ تعود به إلى بلاده، من دون أن يحقّ له الاعتراض، لكون أيّ حدود تُفتَح في وجهنا، هي بمثابة امتيازٍ يجب أن نبقى ممتنّين له، مهما كان سلوكه معنا.

لا نختلف نحن السوريين الموجودين في الداخل، عن نسخنا العالقة في أيّ مكانٍ، في شيء. نتعرض لأقسى الظروف المعيشية، ولكن من أناسٍ ليسوا بالغريبين، وإنمّا ينتمون إلى الموطن نفسه الذي ننتمي إليه

وفي فترةٍ سابقةٍ، تم اكتشاف طريق جديد للهجرة من سوريا، يمرّ عبر بلاروسيا، ويصل إلى دول أوروبا المفضّلة للبدء بحياةٍ جديدة. وبعد تزايد أعداد المهاجرين عبر هذه الطريق، تم تشديد الرقابة عليه، ليصبح عدد كبير من المهاجرين عالقين على الحدود البولندية، وسط ظروفٍ جوّية قاسية جعلت كلّ يوم يبدأ بصورةٍ لمراسم دفن أحد هؤلاء المهاجرين العالقين على تلك الحدود. من الغريب أن تهرب من بلادك لتبصر النور، وينتهي بك الأمر مع أحلامك في نقطةٍ تحت الأرض، في مكانٍ لم يكن في الحسبان يوماً أن يصبح أرضاً يتمّ دفن الجثث فيها. وإلى يومنا هذا، لم يقم أيّ تحركٍ تجاه هذه الأحلام العالقة على الحدود البولندية، ونستمرّ كلّ يوم في رؤية صورٍ لحالات وفاة جديدة.

لا نختلف نحن السوريين الموجودين في الداخل، عن نسخنا العالقة في أيّ مكانٍ، في شيء. نتعرض لأقسى الظروف المعيشية، ولكن من أناسٍ ليسوا بالغريبين، وإنمّا ينتمون إلى الموطن نفسه الذي ننتمي إليه. نحن عالقون يومياً في أماكن تم إنشاؤها لتجعل حياتنا أسهل، ولكن من الواضح أن مصارئنا متشابهة أينما حللنا. من السهل أن يختفي أحد الأشخاص، ويبقى عالقاً في مكانٍ ما لفترةٍ زمنيةٍ طويلةٍ، من دون أن يكون هنالك أيّ خبرٍ عنه. خلال الفترة الماضية، توقّفت الإدارة العامة للهجرة والجوازات عن إصدار جواز السفر، وكالعادة كانت الحجّة أن الورق الخاص بصناعة الجواز، يتم استيراده من الخارج، وتالياً العقوبات الدولية قامت بالتأثير على الكمّيات المستوردة منه. وعليه، عاش السوريون ثلاثة أشهر من الانتظار. اليوم، أصبح بإمكانك إصدار جواز السفر في يومٍ كاملٍ، مقابل مئة ألف ليرة سورية. قال لي صديقي الذي خسر فرصة عملٍ في إحدى دول الخليج، بسبب هذه المشكلة: "كانوا يخبرونا إنو الموضوع بينحلّ بهيك مبلغ... كنّا دفعناه من زمان". المشكلة ليست في أنّ الفرص تنتهي نتيجة مثل هذه الحوادث، ولكن المشكلة أننا أصبحنا لا نبالي بتلك الحوادث السيئة، ونتعايش معها، ونصبح عالقين فيها.

يقول ممدوح عدوان، في كتابه "حيونة الإنسان": "نحن لا نتعوّد يا أبي إلّا إذا مات فينا شيء". ونحن اليوم، يا أبي، قد ماتت أشياء كثيرة فينا. تعوّدنا أن نختار الفرص الصغيرة، وأن نحاول لتكون حلولنا الوحيدة فيها، على الرغم من استحالة فرص النجاة منها. تعوّدنا أن نكون عالقين في أيّ مكان، لأن الأمل مات فينا. تعودّنا أن تكون سجوننا عديدة، لأن الحرية لم تعد في متناولنا بعد اليوم.

انتشرنا في كل بقاع العالم، إلى درجة أنه لم يعد الانتماء إلى أيّ مكانٍ موجوداً، لأننا تعوّدنا، وشعور الانتماء مات مرةً جديدةً فينا. كنّا قد استعدناه في 2019، عندما بدت بوادر لبلادٍ تستعيد عافيتها، وتنهض من جديد، ولكن سرعان ما خابت آمالنا، كما اعتادت أن تفعل بنا على الدوام. لم تمرّ إحدى السنوات من دون خيبة أملٍ جديدة، يختلف شكلها، وأسبابها، ولكنها واحدة علينا.

في كل يوم يمضي، أقوم بالتواصل مع أحد الأصدقاء الذين نجوا من هذه الأرض، وأخبرهم بأننا عالقون هنا، وأينما ذهبنا سنكون في عداد الانتظار. أقول لهم إنه مهما كان خيارهم معرّض لصعوباتٍ، إلّا أنه المغامرة الوحيدة التي سيشعرون بالرضا عنها في حياتهم.

لم يكن من السهل أن يتمّ رفضك من قبل سفارات الدول، أكثر من مرة، ولم يكن من السهل أن تُغلَق حدود دولٍ في وجهك، وتعود للمحاولة. لم يكن من السهل أن تقف على أراضٍ، نسبة تعرّضك للموت فيها، تفوق نسب النجاة، وتستمر في الحلم

لم يكن من السهل أن يتمّ رفضك من قبل سفارات الدول، أكثر من مرة، ولم يكن من السهل أن تُغلَق حدود دولٍ في وجهك، وتعود للمحاولة. لم يكن من السهل أن تقف على أراضٍ، نسبة تعرّضك للموت فيها، تفوق نسب النجاة، وتستمر في الحلم. لم يكن من السهل أن تدخل سجون الحياة، وتخرج منها، محافظاً على النور الذي بقي في قلبك.

لم يكن هنالك أيّ سببٍ للمحاولة، سوى رغبتنا في الحرية. نحن السوريين "العالقين في كلّ مكان"، لم يكن لدينا هدف من كل هذه المغامرة، سوى النجاة، وسننجو في أحد الأيام، لسببٍ وحيدٍ هو أنه لم يكن من السهل المضي قدماً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image