ربما لا يُصدِّق الكثيرون كيف استطاع السوريون أن يتغلبوا على محنهم اليومية، وأن يقلبوا هزائمهم المديدة انتصارات مُظفَّرة. قد يظن البعض أن ذلك مبالغة، أو ضرب من التندر، أو نوع من الفكاهة السمجة، لكن واقع الحال يؤكد أن تلك الانتصارات لا تعني غير السوريين، ولن يشعر بلذَّتها من لم يعايش حيثيات المعارك شخصياً.
ما أتحدث عنه ليس انتصاراً في كأس العالم لكرة القدم، فنحن أبعد ما نكون عن الرياضة والنجاح في الألعاب الجماعية تحديداً، ومع ذلك فإنه تحقيق ذاك النصر، يحتاج إلى خبرات رياضية: تكنيك عالي المستوى، ودراسة سوسيو-نفسية للاعبين، بغية تحديد الزمن المناسب للبدء بالهجوم، إضافة إلى القوة البدنية، والسرعة في تجاوز المُعيقات، وسَبْر أغوار الاحتمالات الكثيرة، من أجل تَحيُّن الفرصة المناسبة للانقضاض أو القفز أو مواربة الخصوم، وتشتيت انتباههم.
كل ذلك ليس في ملعب لكرة القدم الأمريكية، بل في منطقة "البرامكة" بدمشق، من أجل أن يحظى المرء بمقعد شاغر في سيرفيس أو باص نقل داخلي، فمن دون ذلك قد يبقى لساعات طويلة "مشنططاً" هو وحقائبه وأغراضه في الطرقات، وقد يشبه في بعض الأحيان "فلاديمير" أو "ستراغون" الذين انتظرا مديداً "غودو" ولمّا يأت بعد، مع أنه يعيش عبثية أشد وطأة مما كتبه "صموئيل بيكيت"، وألعن بآلاف المرات، لأنه لا ينتظر مع صديق أو رفيق درب، بل يشعر في بعض الأحيان أن انتظاره هو مع مجتمع كامل، أو لنقل مع خمسة آلاف نسمة على الأقل، لاسيما في ذروة الازدحام، حيث أنه مُضطر لتحقيق انتصاره ذاك، لأن "يُطاحِش" المئات، وأن يتغلب على "ستايل" المثقف والجنتل اللذين يحتلّانه، ويُسارع إلى التَّحوُّل إلى صيغة مُغايرة أشبه برجالات المصارعة الحرة، وإلا سيُرمى بكامل نيافته إلى أحضان البرد، كما حصل للشاعر في رواية "الحياة هي في مكان آخر" لميلان كونديرا.
فهنا يصدق اسم الرواية أكثر من أي مكان آخر في العالم، إذ لا مداخيل تَقي الإنسان السوري "ذُلَّ الطريق" باستئجار تاكسي مثلاً، ولا مواصلات عامة تحترم إنسانيته بحدودها الدنيا، لاسيما بعدما تحوَّلَتْ إلى ما يشبه "قطرميز المخلل"، وأكثر ما يزعجه أن يكون مجرد "خياراية" في هذا "الكبيس" الهائل، لذا وبمجرد حصوله على مقعده المنشود، يشعر كأنه "ميل غيبسون" في فيلم "قلب شجاع"، فبعد كل "الأكواع" التي أصابته، والعَصْر بين الأجسام الضخمة بروائحها التي تُماثل "روح الخل"، وتحمُّله المُضني لدعسات الأقدام الهائلة المتدافعة نحو بوابة واسطة النقل، وغير ذلك من الآلام المريرة، لم يبق لديه إلا أن يصرخ مع "وليام والاس" (freedooooooooooom)، ويتابع نضاله في مسارات أخرى.
قد يظن البعض أن ذلك مبالغة، أو ضرب من التندر، أو نوع من الفكاهة السمجة، لكن واقع الحال يؤكد أن تلك الانتصارات لا تعني غير السوريين، ولن يشعر بلذَّتها من لم يعايش حيثيات المعارك شخصياً
وما أتحدث عنه ليس فوزاً بالجائزة الأولى لليانصيب، ولا حتى جوائز الترضية، لكن سعادة الإنسان السوري في تلك اللحظة، تدفعه لأن يرفع غنيمته من هذه الحرب المريرة، وكأنها كأس النصر، وأقصد هنا بضعة أرغفة من الخبز، حظي بها من الفرن، بعد الكثير من الإجراءات والتخطيطات، ليس أولها حساب أن راتبه كموظف درجة أولى لا يكفيه لأكثر من نصف شهر من الخبز السياحي، هذا إضافة إلى أنه يشعر وكأنه نوع من أنواع الحلويات لم يعتد على مذاقه الناشز، ولا يُناسبُه أن يتم التعامل معه، من قبل أفراد أسرته، كنوع من الـaperitif فاتح الشهية، كما أنه ليس مستعداً لأن يُغير الرَّغيف الذي له نكهة الأصدقاء، والمعجون بالحنين إلى الأيام الجميلة، لذا لديه أسبابه الموجبة للاصطفاف ساعات بغية الحصول على ربطتين من خبز الأفران الاحتياطية، التي لم تحتط لشيء سوى الإمعان في إذلاله، وهدر وقته، وزيادة تَشَهِّيه المُزمِن لما كان بالفعل "خطاً أحمر"، لكنه هنا يُداور اصطفافاته المريرة على الدَّور، بأنها مُقاربة دقيقة لـ"إرادة العيش" التي تحدَّث عنها "آرثر شوبنهاور"، فكل ما يتحكَّم به آنذاك، هو تلك الإرادة بأبهى تجلياتها، إذ رغم الضجيج الهائل حوله فإنه هادئ كصنم، يخطو إلى الأمام خطوات بطيئة لكنها واثقة، وعيناه مُعلَّقتان بنافذة البيع، وكأنها الشُّبَّاك الذي يُفضي به إلى الحلم المشتهى، وفي ذاك الطابور، ينسى نيافته، وكل ما يتعلَّق بها، ويصبح كالمُسَرْنَم تماماً، مع فارق أنه صاحٍ أشد الصحوة، ولا شيء يثنيه عن اتباع مصدر الرائحة التي تُفتِّق جروحاته كلَّها، لذلك يُقنع نفسه بأن رغيفاً ساخناً قادرٌ على التخفيف من آثار الضَّيم الذي يتعرض له يومياً لتأمين لقمة عياله، وهو يستحق العناء، وتتحقق معه مقولة المفكر الثوري "توماس بين": "قهر الاستبداد ليس بالأمر السهل، ولكن ما يعزينا أنه كلما اشتد الصراع قسوة، كلما ازداد النصر مجداً".
ما أتحدث عنه ليس انتصاراً علمياً، خاصة أن وضعنا، كما هو معروف، تنطبق عليه مقولة "علمي علمك"، وآخر ما يشغل بالنا، نحن السوريين، البحوث العلمية، أو الدراسات الأكاديمية، أو المنجزات الفكرية، لكن مع ذلك ترانا نُهلِّل و"نزلغط" ونرقص ابتهاجاً وفرحاً بجلاءات أولادنا في المدرسة الابتدائية، وكأننا مَلَكْنا الدنيا وما فيها، فـ"العَشَرات"، و"الممتازات"، وشهادات التفوق، والتقدير، والامتيازات، ما زالت تفعل فينا فعلها الآسر، وتُنسينا مآسينا، وترفعنا إلى أعلى درجات المجد، حتى أن مكانتها في نفوسنا تسمو، في بعض الأحيان، فوق شهادات الدكتوراه والماجستير ومن لفَّ لفَّهما، حتى أنها تصبح مساحةً خصبةً للمباهاة، و"المجاكرات" بين الكَنَّات والسَّلايف والجارات، لاسيما إن ترافقت تلك الامتيازات بتاج على رأس صاحب الغبطة التلميذ المنتصر، أو تم وضع صورته في أعلى قائمة الأوائل على صفحة المدرسة في فيسبوك، حينها تُصبح "صبحيات النسوان" أشبه بساحة حرب، لتبرير انحياز المعلمة وخيانات الإدارة، حتى ولو كان تلميذان في الصف ذاته، وناجحان بالعلامات ذاتها، وبأساليب التهليل عينها، فالموضوع مصيري، ومن غير الجائز عدم رفع رأس الأب، وأنف الأم إلى أعلى مستوى ممكن.
من عادة السوريين أن يرشوا الأرز على رؤوس العرسان فرحاً وابتهاجاً، علَّ أيامهما تزدهر بالأفراح والمسرَّات والليالي الملاح، إلا أن هذه العادة انقرضت تماماً، لاسيما بعد أن بات أحد التجليات المعاصرة لنصر السوريين مرهونٌ باستلامهم رسالة نصية تُعلِمُهم بأن مخصصاتهم من الأرز والسكر باتت متاحةً للشراء
وصحيح أن من عادة السوريين أن يرشوا الأرز على رؤوس العرسان فرحاً وابتهاجاً، علَّ أيامهما تزدهر بالأفراح والمسرَّات والليالي الملاح، إلا أن هذه العادة انقرضت تماماً، وباتت من التقاليد المنسية، لاسيما بعد أن بات أحد التجليات المعاصرة لنصر السوريين مرهونٌ باستلامهم رسالة نصية تُعلِمُهم بأن مخصصاتهم من الأرز والسكر باتت متاحةً للشراء من مؤسسات السورية للتجارة، وحينها فقط تتحلى أيامهم، وتتجمَّل بأبهى حللها، بعد هذه الغنيمة التي أتاحت لهم "أن يرشُّوا على الموت سُكَّر"، وأن يقبلوا التهاني والتبريكات إثر هذا الحدث الجلل، الذي يُقارب في بهائه عودة الابن الضال إلى أحضان أهله، ومثل هذا الشعور يُزيِّن حياة كل سوري، بعدما تَتَبَّع لأشهر دوره على تطبيق "الواي إن" للحصول على جرة غاز، ليصله في النهاية إشعار بأن سعادته ستكتمل الآن، ببهاء الأزرق الغامق، بحيث أنه لن يكتف بأن يرش السكر على الموت، بل سيصنع له مربى السفرجل، مُستبدلاً غصَّاته المديدة، وآلامه المستفحلة، بطعم حلو و"يَقْرِشُ" قرشاً، بعد أن أنهكته يومياته القاصمة ولم تترك في جيبه قِرشاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 17 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين