إن سألت عن أشهر سيارات البيتلز الموجودة في سوريا لذكرت لك سيارة ممدوح عدوان، وسيارة وليد معماري. السيارتان أصابتا شهرة واسعة، لكن الأولى تركت لحتفها في أحد شوارع حي المزّة، فيما احترقت الثانية في حي برزة-مسبق الصنع نتيجة ماس كهربائي، ولم ينجح خالد بن وليد في إطفاء الحريق.
حين صادفت خالد في أول لقاء عرّف بنفسه: أنا خالد بن الوليد. ضحكت، وضحك كل الواقفين في تلك الدائرة الصغيرة في بهو قسم الصحافة في جامعة دمشق (وقتها كانت قسماً، وصارت الآن كلية الصحافة). قال صديقه موضحاً: أبوه وليد معماري.لم أصدقه للوهلة الأولى. ضحكت، وضحك هو أيضاً. لكن عندما حان وقت الخروج من الجامعة للتسكع في باب توما، دعانا للركوب في سيارته، وعندما صدمت من منظر السيارة: "عنجد انت ابن وليد معماري معناها!". السيارة البيتلز التي قرأت عنها أكثر من مرة في زاويته الشهيرة "قوس قزح" في جريدة تشرين. "هلق عرفتني من السيارة!"، مستنكراً. أجل سيارة والدك شهيرة جداً. ضحكنا معاً، لكني لم أصادف الكاتب الساخر ضاحكاً في زياراتي إلى بيتهم الدافئ في مساكن برزة- مسبق الصنع.
إن سألت عن أشهر سيارات البيتلز الموجودة في سوريا لذكرت لك سيارة ممدوح عدوان، وسيارة وليد معماري
حوار مبكر
حاورته بعد تخرجي من قسم الصحافة في العام 2009، لكن حوارنا كان بالإيميل، وفيما أقرأ إجاباته عبر الشاشة، كنت أرسم صورته التي أعرفها عن قرب مع كلماته المكتوبة، وأبحث عن ابتسامة. اليوم، أعود للحوار لأكتشف أن سؤالاً لم ينشر. كتبت سيناريو فيلم "شيء ما يحترق" من إخراج غسان شميط، لماذا لم تعد تجربة الكتابة للسينما؟ "بلى أعدت التجربة مرة تلفزيونياً، وأخرى سينمائياً. في الأولى قدمت فيلم (الزائرة) من بطولة غسان مسعود، منى واصف وأمل عمران.
وفي الثانية كتبت سيناريو تدور أحداثه في القاع من أطراف المدينة، عالجت فيه مشكلة شح مياه الشرب التي ترسم واقعاً وعلاقات اجتماعية مفترضة، تتفتح فيها الوردة إلى جانب سكاكين العيش، لكن اللجنة الفكرية (التابعة للمؤسسة العامة للسينما في سورية) اعترضت على عدة مشاهد، عدلتها مع المخرج، ورُكن العمل على الرف، ولا يزال سيناريو (دواليب العتمة) في حالة: لا هو مطلق، ولا هو معلق! منذ ثلاثة سنوات (أي منذ 2006)". لكني، وككل الصحفيين الحمقى الذين ينسون متابعة ما أنجزوا، لم أسأله عن المخرج، وليست الفرصة مواتية لسؤال خالد فيما أستعيد كل ذكرى معه ومع والده يوم رحيله، لأبتسم فيما دموعي لا تجد إلى الخروج سبيلاً.
صورة الكاتب
في الواقع لا يكفي أن تتخيل صورة الكاتب، ولا أن تكون نائماً في الغرفة التي تجاور غرفته في الطابق الأرضي من بيته. جربت مرة الحديث معه بينما بقية الرفاق نيام في الغرفة المجاورة، لكن أسئلتي كانت شديدة السذاجة يومها (كما أفكر اليوم)، وأذكر أني قلت في نفسي مبرراً: لا أظن أنه يأخذنا على محمل الجد، نحن رفاق ابنه.
لكنه في الواقع غارق في عالم مواز لا يتاح لك ولوجه بسهولة.
لم أفهم إلا بعد حوارنا عندما أجاب عن واحد من أسئلتي بأنه كان يمزج "بين أربع جدات، فتتشكل شخصية مختلفة بالكامل. كل حركة من حركاتها، وكل فعل من أفعالها أو من سماتها موجود في الواقع، وعملياً، هي غير موجودة في الوقت ذاته. ومن يقرأ يعتقد أن الشخصية موجودة فعلاً. [...] فمرة أركبت إحدى شخصياتي حصاناً جامحاً لا يستطيع أحد ركوبه إلاه، لإعطائه نوعاً من السلطة، في معالجة خيالية لواقع ما حتى تصل الفكرة التي أريدها بصورة مجسمة أمام القارئ". وعندما صغت كل ما قاله في العنوان: "عندي أربع جدات يركبن حصاناً جامحاً"، شكرني بجدّية: جميلٌ العنوان.
هل أتنكر للتقاليد الصحفية إن نشرت تفاصيلاً من مسودة الحوار، ولم تنشر في النسخة المطبوعة التي حرّرها؟ سألته كيف ترى واقع القصة القصيرة عربياً؟ هل من أسماء معينة تلفتك الآن؟ أجاب: "إن مصر مليئة بالأسماء والأردن كذلك وكذا العراق. يلفتني المقدسي محمود شقير والعراقي عبد الستار ناصر. وكثيرون لا تحضرني الذاكرة أمامهم. أما الدليل على عدم وجود أزمة، فهو دوام وجود قصص جيدة في مطبوعات أدبية، مثل الأسبوع الأدبي التي تصدر عن اتحاد الكتاب في سوريا، وأخبار الأدب المصرية، ومجلة العربي الكويتية". فيما كانت النسخة المحررة من الإجابة خالية من الأسماء أو حتى من أسماء المطبوعات، ربما رغبة منه في الإفلات من العتب وحرج الأسماء.
سخرية أليفة
السخرية التي ألفها الكثير من السوريين في زاويته قوس قزح (له أيضاً زاوية رصينة في تشرين عنوانها آفاق)، والتي ساهمت في حل مشكلات كثيرة لسوريين تقطعت بهم السبل، لم تغب عن معظم كتاباته، في تشرين والأسبوع الأدبي وصوت الشعب، ولاحقاً في مجلة "مسارات" التي أسسها في العام 2015، لكني أحب أن أستعيد ما كتبه في مقال عنوانه "مدن المعقمين" نشر في الأسبوع الأدبي، دفاعاً عن رواية "اللحاف" للتشكيلي أيمن ناصر، وكانت باكورة إصداراته: "وفيما راوي الرواية يروي أحداثاً عايشها في (حوث) اليمنية... يلجأ إلى التخييل، أو المخاتلة، [...] كأن ثمة مدن، أو بلدات، أو قرى، أو حارات معقمة مثل غرف العمليات.. بينما العصيات الزرق تعشش في الزوايا. ومن أسف أن من قادوا هذه الحملة الشرسة، [...] ونسوا أنهم ترابيّون، وليسوا من القديسين، إلا فيما يظهرون به على الملأ.. ويخفون شياطين الشر تحت سراويلهم، وازدواجية المعايير تحت عباءات الحسد، والإمامة التي ظنوا أنها مكتوبة لهم حتى أبد الآبدين...".
"الثمن البخس للمواطن النحس"... مقطع قصير من قصة "حكاية الرجل الذي رفسه البغل"، وهو عنوان المجموعة القصصية التي صدرت عام 1984... أتذكر وليد معماري القاص يضحك
"بعد أن سدت الدروب بسيل السيارات ولا أشك أن الجواب خامـركـم أيضـاً، فالـرجـل، ببساطـة كان قد مات ملوثاً، قبل موته الرصيف القـاطـع بدمه. وفي هذه الحالة تعلمون، يغطى المغدور بأي غطاء متوفر، وفي حالتنا هذه، الجـريـدة الـيـومـيـة هي الأقـرب الى منطق الأمـور. وقد غطي فعلا بالأجزاء الثلاثة لجريدة يومية لها عنوان أزرق. إلا أن الفضول دفع أحد المارة الى سحب الغطـاء قليـلاً عن وجـه الـرجل، بحيث استقر طرف الجريدة تحت أنفه، وغدا كما لوكان يقرأ بعينيه نصف المفتوحتين. ومن سخريات القدر، أن تحت هذا الأنف كانت تقع زاوية مؤطرة في أعلى الصفحة الأخيرة من الجريدة إياها -أقول هذا، وقـد عاينت الأمـر من بعد ربع متر فقط- وأن الزاوية كانت ساخرة، لكاتب صحفي من معارفي، يسمي نفسه وليد معياري. ولحظتها قررت شراء عدد من الجريدة، بعد المعمعة، ذلك لأن عنوان الزاوية المذكورة كان على الشكل التالي: الثمن البخس للمواطن النحس". كان هذا مقطعاً قصيراً من قصة "حكاية الرجل الذي رفسه البغل"، وهو عنوان المجموعة القصصية التي صدرت عن دار الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، 1984، لأقول: أتذكر وليد معماري القاص يضحك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...