المضطرب
في يوم آخر مشبع بالدفء، أو بما يصدر من تعفن أشياء غير مرئية، رائحة الديتول والورق القديم والرطوبة، يوم ساكن ومثالي فعلاً، مثل بركة لا تجرح ركودها سوى أصوات الفقد التي تتردد أحياناً في الممرات البعيدة.
يوم عادي يحمل الإيقاع الرتيب ذاته، حيث لم تظهر أية إشارة تُنبئ بشيء مختلف. الحقيقة أنه لأمر جيد ومريح وآمن أن يمر الوقت على هذه الشاكلة الساحرة، هذا بالضبط ما يناسب مزاج السيد أمين، الموظف القديم في قسم المشرحة التابع لمستشفى المدينة، الشخص المسؤول بالتحديد عن قسم الأرشيف الذي يقع في الجهة الخلفية من البناية ذات الطابق الواحد، المدهونة جدرانها الداخلية باللون الرمادي وتغمر غرفها الباردة الإضاءةُ الشاحبة.
وأقرب توصيف للسيد أمين، هو الرجل الشبحي الذي كان يمارس وظيفته كرياضة مفضلة ووحيدة، يفعل ذلك بنشاط لا يفسده ملل قط، لا تعب مفاجئ ولا حتى رغبة بإجازة بسيطة. كان الرجل ببساطة شغوفاً بعمله، وبالقدر الذي كان يحفظ فيه أسماء الموتى الذين يثبّت وقائع وفياتهم في سجل كبير، دفتر مكتوب على غلافه المصنوع من جلد التمساح بخط أسود جميل "سجل النهايات"، فكان في عمله هذا يشبه ملاكاً موكلاً بوضع نقاط على الأسطر الأخيرة من قصص الخلق.
سجلّ الموتى
خلال عشرين عاماً من الوظيفة، حفظ في سجله أسماء جميع الموتى في المدينة، منهم من كان يسكن بيوتها المتلاصقة بالفعل، وبعضهم من قذفت به الأقدار من المدن الأخرى لتكون نهايته هنا، داخل صفحات هذا السجل الذي يشرف على أسراره موظف تشكلت أهمية الحياة لديه بين صفحاته، في غرفة الأرشيف التابعة للمشرحة.
ومع مرور الوقت، اكتشف أنه بدأ يتعثر في الكلام لسوء التواصل وقلة استخدام اللغة، لم يزعجه الأمر كثيراً، فما حاجته للكلام وهو يتحدث كل يوم إلى الأموات الذين يثبت نهايات سيرهم في سجله... مجاز في رصيف22
بالطبع، لم يكن هذا الكائن النحيف ذو النظارات السميكة يدوّن أو يحفظ الأسماء فقط، بل كان قادراً على تذكر الأسباب التي أدت إلى وفاة كل هؤلاء الذي دفنهم بين صفحات دفتره أيضاً. وحسب التقارير التي يوقعها الأطباء، كان يعرف المنتحرين في هذه المدينة واحداً واحداً، الجنود القتلى، المرضى الذين نهش أجسادهم السرطان أو توقفت حياتهم بسبب ذات الرئة أو تشمّع الكبد، يعرف ذوي الحظ السيء الذين لدغتهم الزواحف أو عضتهم الكلاب، كذلك يعرف الحمقى الذين انزلقت دراجاتهم النارية على الطرق السريعة، اللصوص ومدمني القمار الذين تتوقف حياتهم بعد طعنة سكين أو رصاصة أو سكتة قلبية بسبب ثقل الخسارة، أو حتى النساء المقتولات بسبب ما يسمونه "غسل العار"، وقتلى الاغتيالات السياسية، وقتلى العصابات بكل أنواعها.
والسيد أمين يعرف الكئيبين الذين ضغطت على حياتهم العزلة، وأولئك الذين أصيبوا بأمراض نفسية وعقلية، حيث يقوم أمثالهم عادة بأفعال خطرة، تنتهي بإنهاء حياتهم أو حياة آخرين.
أصدقاء موتى
ولأنه كان غارقاً حتى رأسه بعمله، لم يكن السيد أمين يحتاج للحديث مع أصدقاء، لقد كان يفعلها قبل سنوات طويلة لكن الجميع هرب منه. حسناً، أحاديث الموتى ليست مسلية قطعاً، وهو شخص ليس لديه حكايات سوى ما يستلّه من دفتر النهايات. ومع مرور الوقت، اكتشف أنه بدأ يتعثر في الكلام لسوء التواصل وقلة استخدام اللغة، لم يزعجه الأمر كثيراً، فما حاجته للكلام وهو يتحدث كل يوم إلى الأموات الذين يثبت نهايات سيرهم في سجله. في النهاية لم يعد قادراً على بناء جملة نظيفة واحدة.
ولم يكن السيد أمين يحتاج لمراجعة دفتره عندما يوجه له سؤال بخصوص أحد المتوفين، استفسار حتى ولو كانت الواقعة قبل عشرين عاماً، فقد كان الرجل يتمتع بذاكرة تشبه المقبرة النظيفة التي لم تمسسها الطبيعة بألاعيبها المفاجئة، ولا عبثت بها النوايا السيئة، ولا فكرت فيها خطط التجديد التي تؤدي عادة إلى تخريب المقابر أو جزء منها. اللعنة! أية ذاكرة عجيبة هذه. سمع عبارة التعجب هذه، مئات المرات ، لكنه فجأة، وهذا يحصل له أول مرة، شاهد اسمه الثلاثي في أحد الصفحات، شعر بالخوف وهو يرى صورة مثبتة في أعلى الصفحة فيها شبه كبير منه، فرك عينه كي يتأكد من أنه أخطأ أو حصل له أمر غريب، بحث عن التقرير لم يجده، أسقط قلمه الأسود المليء بالحبر على الدوام، وكان سؤال الموت لحظتها قد حضر بالفعل في رأسه بكامل سطوته.
لقد كان الرجل، هو الوحيد الذي يوقع على نهاية الكائنات طوال عمره، يطوي الصفحات كأنه الملاك المكلف بوضع النقاط على آخر سطر في نص الحياة، هذه المرة، كان هو ذاته في صفحة فارغة، فهل كان عليه ان يقلبها كي يتخلص من هذا الكابوس، أم يشطب اسمه ويكمل عملة بسحب تقرير آخر لميت سمع صراخ زوجته أو أمه قبل قليل، أم أنه يدون تفاصيل تتعلق به، حسب ما يشير الاسم، و لقد فكر بالفعل بمن سيحل محلة ليقوم بمهمة تدوين أسباب الموت.
هكذا، فجأة شعر بأنه ميت بالفعل، ميت منذ زمن طويل، ومع مرور الوقت كان يردد جملة تنطوي على أن الوجود ما هو إلا رحلة قصيرة، مشوار صغير لجلب علبة كوكاكولا ثم العودة عبر الممرات قبل الدخول في السجل الكبير المكتوب عليه بخط أسود وأنيق، "سجل النهايات".
روبوت حيّ
كان السيد أمين يتعامل مع مثل هذه الأشياء بقلب روبوت ، وربما كان هذا الأمر بالذات ما جعله يشعر الآن بأنه لم يكن حياً على الإطلاق. لقد اهتز_ ولأول مرة_ جسده، بينما النهار لم يكن عاديا، أما فكرة الحياة التي اكتشفها في تلك اللحظات، كانت شديدة الثقل على كيانه الذي ولد في لحظة عصيبة، شعر بالصداع و بنشاط فجائيّ في بطارية قلبه الذي كان بارداً طوال السنوات، ثم بدأ يفكر بالموت عندما اكتشف الحياة، وكان أثناء ذلك اليوم السحري الدافئ، المليء برائحة الديتول، قد أحصى على الأقل عشرين مصدراً للخوف ظلت تحاصره طوال حياته.
شعر بأنه ميت بالفعل، ميت منذ زمن طويل، ومع مرور الوقت كان يردد جملة تنطوي على أن الوجود ما هو إلا رحلة قصيرة، مشوار صغير لجلب علبة كوكاكولا ثم العودة عبر الممرات قبل الدخول في السجل الكبير المكتوب عليه بخط أسود وأنيق: "سجل النهايات"... مجاز في رصيف22
أدرك أن هذه المصادر هي ينابيع موته النفسي، والتي جعلته غير موجود بالمعنى الحقيقي كما يتجلى الوجود في كينونة الآخرين الطبيعيين، بل كان أقرب إلى الموتى الذي يدون نهاياتهم ويطوي صفحاتهم، الفرق أن صفحته ظلت مفتوحة وبدون تفاصيل، وكل ما كان يفعله طوال سيرته، هو أن يأكل ويشرب، يتغوط وينام. فكرة الحياة تفجرت في داخله، وكانت صورتها مأساوية عندما قال لنفسه بشجاعة طارئة: إن حشرة يمكنها فعل ما هو أهم من الأكل والشرب. في تلك اللحظة كان يطعن نفسه بقسوة وهو يحصي مصادر الخوف التي جعلته أقل شأناً من حشرة!
وفي الواقع، إن السيد أمين، وهذه واحدة من مصادر اضطرابه، كان يخاف من الحشرات والجراثيم، وعلى النحو الذي لم يتردد فيه بإنفاق نصف دخله الشهري على الصابون والمطهرات والماء، لكنه في تلك اللحظات غير العادية، اكتشف أنه مصاب بمرض النظافة، وسأل نفسه لأول مرة: كم هو مرهق أن يغسل يديه خمسين مرة في اليوم، وكم هو مضحك أن جسده يرتعش بمجرد الشك بأن يده ليست نظيفة تماماً عندما يريد تناول طعامه، كان يخاف من الأماكن المغلقة، فاختار غرفة الأرشيف لتكون بنافذة واسعة تطل على الحديقة الخلفية لبناية المشرحة. لم يسكن في شقة ليست في الطابق الأرضي، حتى غرفة الأرشيف الرطبة هي في الحقيقة المكان الأكثر أماناً بالنسبة له. إنها بمستوى الأرض، والسيد أمين يخاف من الزواحف، من الأرقام، ولقد أضاع الكثير من الأشياء التي يمكن أن تكون مؤثرة بسبب الأرقام.
مثلا هرب من امرأة استلطفها واستلطفته، وكان يمكن لهما الزواج والعيش بشكل متزن وطبيعي، لولا أنها كانت تحب الرقم سبعة، المقدس في رأيها، بل وكانت السابعة في تسلسلها بين أخوتها وأخواتها، مغرمة بلاعب كرة قدم يحمل على (فانيلته) الرياضية الرقم سبعة. وعلى كل حال، كانت قائمة الفوبيا التي تحاصره طويلة، كان يخاف من الظلام، ولقد كان يترك أضواء شقته مفتوحة حتى في النهار، يتركها مضاءة حتى عندما يخرج للعمل. يخاف من الزحام، لهذا لم يكن يذهب بجولات في مركز المدينة، حتى مواعيده النادرة مع الأصدقاء يضربها في مكان منعزل وقريب من بناية المشرحة، وحيداً عاش، لم يرب كلباً ولاقطة ولا دجاجة ولا حتى نملة. إنه يخاف حتى من الزهور الطبيعية، حسناً، عوّض ذلك بزهور بلاستيكية رائعة، وكان يخاف كذلك من التماثيل والصور، ومن إبداء الرأي، من سياقة السيارات والدراجات بكل أنواعها، وحتى ركوب الحمير، أو ظهر النعامة ،أما الأخطر من هذا كله، كان السيد أمين يخاف من الوقوع في الحب.
حب برائحة المعقمات
عندما عاد إلى بيته في ذلك النهار، تحولت أمسيته إلى ساعات طويلة من التعذيب، لم يكن لديه ما يسلي به نفسه، أو الهروب من اكتشافه أنه ليس ميتاً، بم يجد طريقة ليوقف ماكينة رأسه التي كانت تشتغل بقوة، تطرح الأسئلة وتنتج أجوبة وتفندها وتعيدها ثم تنتج منها أسئلة أخرى، ولا استطاع أن يخفف من نبض قلبه الذي عاد إلى الحياة بعد كان متوقفاً لمدة عشرين سنة. لم يتمكن من السيطرة على جسده الذي كان يرتعش من فكرة الحياة نفسها، والتي تعني الموت كذلك، حتى التلفزيون لم يكن قادراً على إنقاذه في تلك اللية العصيبة، فهو لا يشاهد غالباً سوى البرامج التي تهتم بشرح الأمراض القاتلة، وبرامج النصائح حول النظافة، وبعض البرامج عن حوادث السيارات والدراجات البخارية، والبرامج الدعائية حول المبيدات الحشرية والمواد المطهرة.
كان يخاف من التماثيل والصور، ومن إبداء الرأي، من سياقة السيارات والدراجات بكل أنواعها، وحتى ركوب الحمير، أو ظهر النعامة ،أما الأخطر من هذا كله، كان يخاف من الوقوع في الحب... مجاز في رصيف22
صباحاً، قرر السيد أمين ألا يذهب إلى عمله كموظف أرشيف في دائرة الطب العدلي. كانت هذه المرة الأولى التي يقوم بهذه الحركة الاستثنائية، إذ إنه وخلال عشرين عاماً لم يطلب إجازة قط، يقول لنفسه: ماذا يفعل عازب وحيد في البيت؟ لا أحتاج لإجازة. عازب وشقتي قرب مقر عملي. فيما مضى، كان لي بعض الأصدقاء، ولابد أن يكون للإجازة معنى، أما الآن لا أحد. وعلى كل حال، لا يحب السيد أمين اللقاءات والتجوّل في الأسواق، أو الجلوس في المقاهي المليئة جدرانها بالصور السخيفة، بينما الحشرات التي يكون بعضها غير مرئي، يدب في كل مكان.
ما هو مهم الآن هو أن السيد أمين قرر أن يحرك هذا المستنقع الضحل الذي يسميه حياته، أن يفحص هذه الجثة التي يسميها وجوده، أن يأخذ أولاً إجازة طويلة من الوظيفة، بل قرر أن يترك عمله نهائياً، وأن يجرب الذهاب إلى أعلى الجبل الذي يحيط بالمدينة، من هناك سيكون المشهد ساحراً كما يظن، حيث يرى المدينة كلها لأول مرة وبنظرة واحدة وآمنة، وهي فكرة جيدة للتخلص من فوبيا الارتفاعات أيضاً، ثم يتبعها بإزاحة كل المخاوف واحداً بعد الآخر، فيستعيد نفسه من قبضة الموت البارد، ويولد من جديد.
وفي تلك اللحظة التي شاهد فيها الهاوية أو المدينة، شعر بأن قلبه سوف يتوقف، قاوم الإحساس بالدوخة، فرك جسده الذي اقشعر، مسح العرق الذي تفصّد فوق جبينه، عاش هذه المأساة لفترة قصيرة قبل أن يتهاوى جسده، يسقط على عشب فوقه سماء زرقاء صافية، تحيط به الأزهار الصغيرة التي تعبث بسيقانها ريح خفيفة، جاءت نحلة حتى مرت على أنفه ثم مضت، مشت نملة في الجوار إلى حفرتها، زعق طائر فوقه، وكان صوت الريح رتيباً، الريح التي كانت تدفع بعطر الورد إلى أنف رجل ميت!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...