تشهد القطاعات في لبنان، حالةً من الانهيار التي لم يعد من الممكن غضّ الطرف عنها. فالقطاعات، خصوصاً التعليمية منها، تشهد هضماً وتراجعاً على مستوى حقوق العمال والموظفين والأساتذة، ومكتسباتهم. لا بل إن تخصيص القطاع التربوي في الكلام هنا، يعود إلى سببٍ رئيسٍ، وهو أن الأزمات الناتجة عن جدلية استباحة السلطة وإهمالها، تطال القطاع منذ سنوات. فبعد مراكمة المحسوبيات بالتعاقد العشوائي، وبعد سنوات من التفريغ المقصود للقطاع، سواء لناحية عدم تثبيت أساتذةٍ في مختلف مراحل التعليم الرسمي، ﻷسبابٍ طائفية، بالإضافة إلى تفريغ الجامعة اللبنانية من الكادر التعليمي الثابت فيها، والتضخّم في أعداد المتعاقدين بالساعة الذين لا يمتلكون أيّ ضماناتٍ صحية، أو اجتماعية، ولا يشعرون بالاستقرار والأمان الوظيفي، ناهيك عن عدم تثبيت أساتذةٍ آخرين في ملاك الجامعة، بما يخالف القوانين التي تقرّ بضرورة أن يكون عديد الأساتذة 80% من المتفرّغين والملاك، و20% من المتعاقدين بالساعة، وليس كما هو الحال الآن.
النموذج التعليمي يرتبط بالحالة الاقتصادية والاجتماعية التي ينشأ فيها، وفي ظلّ نوعٍ من العلاقات الإنتاجية المباشرة، بما يحدد مساراته، ونقاط ارتكازه، ونقاط ضعفه على حدٍّ سواء.
بدأ الانهيار يرخي بظلاله على مختلف هذه المؤسسات، وعلى حقوق الأساتذة العاملين فيها. فبسبب انهيار قيمة الليرة اللبنانية أمام الدولار، وفي دولةٍ تستورد كلّ شيءٍ من الخارج، تراجعت التقديمات الطبية والصحية والاجتماعية في الصناديق الضامنة والمكتسبة تاريخياً، بحيث لم تعد تغطّي الحدّ الأدنى من الفواتير، ناهيك عن تدهور القدرة الشرائية للرواتب، وبدل ساعات التعاقد (ساعة تعاقد الأستاذ المعيد في الجامعة وصلت إلى دولارين تقريباً بعد اقتطاع الضريبة)، وصولاً إلى عدم كفايتها لتغطية بدل الانتقال الشهري إلى المؤسسات التي يعمل الأساتذة فيها… إلخ، وغيرها الكثير من الأمور التي تقضم من ميزانية الجامعة سنوياً، مع ما يعنيه من عدم القدرة على تغطية مصاريف الحبر والورق، وغيرها من أمورٍ حيويةٍ أساسية، بالإضافة إلى عدم القدرة على إجراء الصيانة للمباني والمجمعات... إلخ. ﻷجل ذلك كله، تقوم النقابات والروابط الخاصّة بالأساتذة بحركات احتجاجٍ مطلبيةٍ مستمرّة، وصولاً إلى الإضراب المفتوح تارةً، والمتقطّع تارةً أخرى.
لعلّه من البديهي تذكير كلّ مهتم بأنه ليس هناك نموذج تعليمي يسبح في الفضاء، أيّ من دون أيّ محدداتٍ ماديةٍ وتاريخيةٍ مباشرة. فالنموذج التعليمي يرتبط بالحالة الاقتصادية والاجتماعية التي ينشأ فيها، وفي ظلّ نوعٍ من العلاقات الإنتاجية المباشرة، بما يحدد مساراته، ونقاط ارتكازه، ونقاط ضعفه على حدٍّ سواء.
هي هنا نقطة مقتل حركات الاحتجاج المرتبطة بالأساتذة والقطاع التربوي عموماً في لبنان، سواء في التعليم الثانوي، أو المهني، أو الجامعي. فالدولة، أو ما تبقّى منها، لم تعد موجودةً بالشكل الذي كانت عليه، بل هي تشهد انهياراتٍ متتاليةً، وتشهد انزياحات، لن تبقى بعدها في شكلٍ محددٍ كما كانت عليه في السابق، بل ستمرّ سنوات قبل أن يترسّخ أيّ نموذجٍ يمكن أن يسري ويستمر في المستقبل.
من دون الالتفات إلى أن طبيعة مسلّمات العمل النقابي، ومنطلقاته، وبديهيات آليات المواجهة، ومسلّماتها، ستظلّ الإضرابات تدور، بأكملها، في حلقةٍ مفرغةٍ لن تستطيع تحقيق أيّ شيءٍ في حالة المراوحة التي نعيشها
هذا ما لم تتلقفه الحركات المطلبية المنبثقة عن نقابات الأساتذة، والتي تشهد إضراباتٍ متتاليةً ومستمرّةً تحت عناوين مختلفة، إذ إن الحركة المطلبية، في هذا الوقت بالتحديد، هي هي الحركة الإصلاحية، ومشكلة الحركة الإصلاحية، ومأزقها، أنها لم تعد حكراً على القطاع نفسه، بل تتعداه لكي ترتبط بحركةٍ تغييريةٍ على مستوى البلد بأكمله.
من دون إدراك هذه المسألة، ومن دون الالتفات إلى أن طبيعة مسلّمات العمل النقابي، ومنطلقاته، وبديهيات آليات المواجهة، ومسلّماتها، ستظلّ الإضرابات تدور، بأكملها، في حلقةٍ مفرغةٍ لن تستطيع تحقيق أيّ شيءٍ في حالة المراوحة التي نعيشها. لا بل تتوجّب إعادة التفكير في البديهيات، وإعادة وضع خريطة طريقٍ جديدة، لا تنظر في الحالة الإصلاحية فحسب، بل في الحالة التغييرية، كأن تنظر في ما يتوجب أن يبقى، وما يتوجب أن يُزال، في القطاعات التعليمية نفسها.
فهل، على سبيل المثال، ستبقى هذه التخمة في القطاعات التعليمية، سواء في المرحلة الثانوية، أو في المرحلة الجامعية؟ وهل ستبقى الحالة التعليمية المستقبلية تتبلور حول فكرةٍ مفادها أن التعليم المهني للفاشلين؟
من دون الإجابة على سؤال "أيّ تعليمٍ نريد، ولأيّ دولة؟"، تبقى المحاولات كافة زوبعةً في فنجان، لن تحقق أيّ شيء، بل ستمعن في مشاهدة الانهيار يتعمّق، وستمعن في انهيار المرتبطين بهذه القطاعات، لأنها تصوّب على المكان الخطأ بالسلاح الخطأ
هذه وغيرها من الأسئلة، لم يعد من الممكن التهرّب من التفكير فيها، والإجابة عليها. فالنموذج الذي انهار، ونعيش انهياره الآن، يقوم على هذه المنطلقات البعيدة البعد كله عن القطاعات الحيوية لأيّ مجتمع، خصوصاً المهنية منها.
فليس على سبيل المصادفة أن تجد عدد دكاترة الجامعة في القرى والأرياف، وفي المدن، أكثر من عدد التقنيين والمهنيين، مع ما يعكسه هذا الأمر من عدم بناء المجتمع نفسه على أولوية احتياجاته التي يُفتَرض أن تحققها وتسدّ حاجاتها منظومته التربوية، لا بل يظهر أنه يُبنى على كل ما لا يحقق هذه الحاجات، وما ينتج عنه من تخمةٍ ومن منافسةٍ عدديةٍ من دون أيّ انتاجية.
لذلك، يتوجب على هذه القطاعات، بعد أن دخلت عنق الزجاجة الفعلي، أن تفكّر في ما هو أبعد من مجموعة مطالب. عليها أن تفكّر في النموذج الذي من المفترض أن يكون، أي أن تخلق يوتوبياتها، ونماذجها التمثيلية، لكي ترى ما يمكن، لا بل ما يجب الإبقاء عليه، وما يجب تغييره. فمن دون الإجابة على سؤال "أيّ تعليمٍ نريد، ولأيّ دولة؟"، تبقى المحاولات كافة زوبعةً في فنجان، لن تحقق أيّ شيء، بل ستمعن في مشاهدة الانهيار يتعمّق، وستمعن في انهيار المرتبطين بهذه القطاعات، لأنها تصوّب على المكان الخطأ بالسلاح الخطأ.
ولعلّه من الضروري التذكير بما لا يحبّ البعض سماعه، خصوصاً أفراد الطبقات الوسطى. لقد سقط النموذج الذي ترعرعوا فيه، وهناك نموذج آخر يجب أن ينشأ، وهو لن ينشأ بمفرده، بل إن الطروحات الإستراتيجية يجب أن تترافق مع عملية تحقيق النموذج التنظيمي المستقبلي، سواء أكان دولةً أو غيرها، وهذا لن يكون بالمشاهدة، ولا بالالتحاق، ولا بالتفرّد، ولا بالاكتفاء بالمطلبيّ، بل بالمساهمة في تأسيس جانبهم من الحركة التغييرية التي تعمل على وضع أسس دولةٍ جديدةٍ تقوم على اقتصادٍ مُنتِج، لا اقتصاديات خدماتية ووهمية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون