ستة وثلاثون عاماً قضاها محمود عنانبة (42 عاماً)، خارجاً من منزله في عجلون في شمال الأردن، عند السادسة صباحاً متوجِّهاً نحو أشجار الزيتون التي باتت محرابه، منذ أن كان طفلاً في السادسة من عمره، يعود إليها من المدرسة، إلى أن التحق بالجيش، وأصبح يقضي أيام عطله في رحابها، وحتى تقاعد، وباتت شُغله الشاغل.
عشرون ديناراً (28 دولاراً تقريباً)، هي يوميّة العامل في قطف الزيتون، إلا أنَّ صعوبة توفّرها يدفع بالعائلات للتوجه معاً إلى العمل، حفاظاً على دخلهم غير الثابت، والذي يختلف باختلاف عدد أفراد الأُسرة العاملين، ونوع العمل٫
لذلك، يرافق عنانبة أولادُه السبعة، وزوجته، وأعمامهم، وزوجاتهم، وأبنائهم، إلى الحقول، وسط جهدٍ كبيرٍ، وبوجبة طعامٍ واحدةٍ يتناولونها. يتحدث عن هذا بوجهٍ مهموم، قائلاً: "اشتريت خبزاً بدينارين (ثلاثة دولارات تقريباً)، وخلّصوهن كلهن، هاد كيف لو بدّي أساوي أكثر من وجبة؟ بقدرش!"، ويسخر من سؤالنا حول سبب استمراره في هذه المهنة: "هو الواحد لاقي غيرها؟".
تصوير: أحمد القضاة
باستعراض خيرات الأرض، والتباهي بها، تُحضّر النساء طعام الإفطار البلديّ الصنع، والمتميّز بطبخه على نار الحطب. في هذه الأثناء، يتسلّق الرجال والأطفال السلالم، أو يضربون بعصيّهم الأغصان ليتساقط الثمر، ويتبادلون الأحاديث السياسيّة والاجتماعيّة خلال نصف الساعة التي يسرقونها بعد تناول الإفطار.
تمتدّ الأشجار أمام أعين محمود، على مساحاتٍ واسعة. يقطف 900 شجرةٍ سنوياً، تنتج من بين 150 و170 تنكة زيتٍ، تراوح سعر الواحدة منها في هذا الموسم بين 50 و70 ديناراً (70 و98 دولاراً تقريباً). يقول لرصيف22، وهو يسحب دخان سيجارته: "موسم حامل بالزيتون قليل الزيت".
من يشتري الزيتون؟
بجانب حماره، أو خلفه بقليل، يمشي محمود وعلى ظهر كلٍّ منهما كيس زيتون، استعداداً لوضعها في السيارة التي ستنقلها إلى المعصرة، وعن ذلك يقول: "أصعب إشي والله الزمّ ع الكتف. فوق التعب تعب، بنودّي الزيتون ع المعاصر أوّل بأوّل، لأنه ما بتحمّل تخزينه، وبنوخذ الثمر إلنا، والبقايا للحيوانات".
يؤكد وزير الزراعة الأردنيّ، خالد حنيفات، لرصيف22، أنَّ "الاقتصاد في السوق الأردنيّ اقتصادٌ حرّ، فالدولة ليست اشتراكيّةً لتشتري زيت المزارعين، إنما نهيّئ البيئة الداعمة، والمعارض، للمزارعين الذي يقومون ببيع زيتهم فيها"
يصمت برهةً عند سؤاله عن دعم الحكومة له، ويحاول تجاهل الإجابة، إلا أنه يعود ويقول، وكأنه يحفظ الإجابة، ويرددها في نفسه في كلّ مرة: "نضطر إلى بيع الزيت للمعاصر، إذ لا شركات حكوميّة أو خاصّة تشتري الزيت منّا، ولا مراقبة للزيت المغشوش في السوق".
ويتابع: "لذا يُباع بكميَّاتٍ أكثر من زيتنا ذي الجودة الممتازة، ولا نملك تكلفة تجهيز الذهاب إلى معارض الزيتون، ولا يتم إخبار صغار التجَّار عنَّا، والحكومة لا ترانا؛ ‘بسمع بالدّعم بس ما بشوفه’".
تصوير: أحمد القضاة
علاقات المزارعين ومعارفهم، هي المصدر الأبرز لبيع زيتهم، وتسويقه، في حين يمتلك المزارعون الكِبار بعض العطاءات، حسب حديث الناطق باسم النقابة العامة لأصحاب المعاصر ومنتجي الزيتون، محمود العمري، إلى رصيف22.
ويشرح عن قيام المعاصر بعرض شراء الزيت من المزارعين، في كل موسمٍ، وبيعه بسعرٍ مُتّفقٍ عليه بينهم، إلا أنَّ بعض المزارعين يرغبون في بيعه بسعرٍ أعلى من سعر المعاصر؛ لذا يقومون بتسويقه بأنفسهم، قائلاً: "المزارعون بدهم الزيت بثمن عالي".
في مكانٍ آخر، بعيدٍ قليلاً عن عجلون، توارثت أُسرة المزارع مهاب مقابلة (33 عاماً)، العمل في الزيتون، منذ 300 سنة، علّمتهم التجربة خلالها أنَّ الحكومة تستورد الأصناف غير المقاومة للأمراض، والمليئة بالآفات الجينيّة، مع عدم مكافحة الأمراض التي تُصيب الأشجار، ما يضع المزارع أمام حلٍّ وحيد، وهو قصّ الشجرة وحرقها، كما يقول.
ويوضح لرصيف22، عدم تقديم الحكومة للمزارعين أي توعيّة تتعلق بالعناية بشجرة الزيتون، أو توجيههم في ما يتعلق بالمبيدات الحشريّة، قائلاً: "لا يُسمح للمزارع البسيط البيع في ‘المولات’ الكبيرة، أو تسويق منتجاته؛ تجارة الزيت متروكة لكبار التُجَّار".
يقضي مهاب أوقات فراغه بعد العمل، مع إحدى المنظّمات، في إسداء الاستشارات والنصائِح للمزارعين في ما يتعلّق بطرق العناية بالأشجار، والحرص عليها.
تصوير: أحمد القضاة
بين الشركات الخاصة والحكومة
توقّف الأردن عن استيراد الزيتون من الدول المجاورة، بسبب الاكتفاء الذاتي الذي حققه في هذا القطاع، إلا أنَّ استيراد القطاع الخاص أشتال الزيتون من بعض الدول، ساهم في إصابتها بمرضٍ بكتيريٍّ أدّى إلى موتها، حسب مدير مديرية الزيتون أسامة قطَّان.
ويؤكد لرصيف22، إرسال رسائل توعويّة للمزارعين بكيفيّة التعامل مع الشجرة، بالإضافة إلى وجود أيامٍ خاصةٍ بالمزارعين لتوزيع السماد عليهم، نافيّاً إمكان شراء الدولة الزيتون منهم بالكامل، إلا أنَّ العديد من اتفاقيّات التسويق وُقِّعت بين الوزارة واتحاد المزارعين، ونقابة أصحاب مزارع الزيتون، من أجل التسويق.
يتشارك المزارعون في مشكلات أجور العمال والأسمدة التي لا يمكن لثمن بيع الزيت تغطيتها، ما يجعلهم يفضّلون الخروج ضمن عائلاتٍ للعمل، ويقترح اتحاد المزارعين الأردنيين تخصيص أيامٍ وطنيّةٍ للزيتون، يقوم فيها طلبة المدارس بمساعدة المزارعين، حسب ما يقول المدير العام للاتحاد، محمود العوران، في أثناء حديثه إلى رصيف22.
"من الأرض وإلى الأرض"؛ هذا ما يراه الفلّاح ويعيشه كلّ يوم. ففي الوقت الذي تُقيم الحكومة مهرجان الزيتون والمنتجات الريفيّة كلّ سنة، يوجد في أراضٍ بعيدة عن العاصمة عمَّان أشخاصٌ لا يملكون شيئاً غير أرضهم وزيتهم، ولا يراهم أحد، ولا هم يرون أحداً
ويضيف أنَّ على المؤسستين العسكريّة والمدنيّة شراء الزيت من المزارعين، وبيعه؛ لأن الاتفاقيات التي وقّعتها الحكومة مع منظّمة التجارة العالميّة تفرض عليها شروطاً معيّنة تجعل من الصعب عليها شراء الزيت، حسب تعبيره.
في حين يؤكد وزير الزراعة الأردنيّ، خالد حنيفات، لرصيف22، أنَّ "الاقتصاد في السوق الأردنيّ اقتصادٌ حرّ، فالدولة ليست اشتراكيّةً لتشتري زيت المزارعين، إنما نهيّئ البيئة الداعمة، والمعارض، للمزارعين الذي يقومون ببيع زيتهم فيها".
وينفي استيراد الأردن للزيت خلال العام الحالي، دعماً للمنتَج المحلي، قائِلاً في تصريحاتٍ سابقةٍ إنَّ الوزارة دعمت صادرات زيت الزيتون الفائض من العام الماضي، بمبلغ مليون دينارٍ تم تخصيصها من صندوق المخاطر الزراعية، لإزالة التشوّهات التي أحدثتها عملية الاستيراد المنتظم في مراحل سابقة.
من جانبه قدّر مدير عام المركز الوطني للبحوث الزراعية الدكتور نزار حداد حجم الاستثمارات في الزيتون بـ1.5 مليار دولار اشتملت على المعاصر ومستلزمات الإنتاج وتصنيع الزيتون وعبوات الزيت بأنواعها.
وعن هذا الرقم يقول لـرصيف 22 إنه منخفضٌ مقارنةً بالدواجن، ومرتفعٌ بالنسبة للقطاع الزراعيّ ككل، إذ أنَّ 1.5 مليار دولار هو مجرد رقم يبيّن الحجم الفعلي للاستثمار في الزيتون، وليس له أي دلالات أُخرى يمكن من خلالها الحُكم عليه إذا كان مرتفعًا أو منخفضًا بشكلٍ عام.
وأضاف خلال تصريحاتٍ سابقةٍ أنَّ المساحة المزروعة بالزيتون، بلغت 90 ألف هكتارٍ، وبلغ معدل الإنتاج المحلي في آخر سنتَين ما بين 150 و200 ألف طنٍّ من ثمار الزيتون، ويستخدم منها 80% لغايات إنتاج الزيّ، فيما تحتوي الممكلة، حسب وزارة الزراعة، على 18 مليون شجرة زيتون.
"من الأرض وإلى الأرض"؛ هذا ما يراه الفلّاح ويعيشه كلّ يوم. ففي الوقت الذي تُقيم الحكومة مهرجان الزيتون والمنتجات الريفيّة كلّ سنة، يوجد في أراضٍ بعيدة عن العاصمة عمَّان أشخاصٌ لا يملكون شيئاً غير أرضهم وزيتهم، ولا يراهم أحد، ولا هم يرون أحداً، ولسان حالهم يتساءل مع محمود: "ليش أروح أحكي للحكومة بدّي دعم؟ ما كل شي واضح عندهم! هو كل مواطن بدّو يراجعهم بدّو يلبّوله طلبه؟ عارف حالي بلا فايدة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...