ما دفعني إلى كتابة هذا المقال، هو الإنسان الناقم في داخلي على المجتمع المتلوّن الذي لا يرى إلا أوجاعه، وينسى من هو أضعف منه. كنساءٍ، دوماً نُطالب بحقوقنا المسلوبة، بدءاً من الحقوق السياسية، وصولاً إلى الحق بالحياة، ونُطالب برؤية المرأة كإنسانةٍ، لا كجهازٍ تناسليٍّ يمشي على الأرض، ولا بد من الحفاظ عليه من عبث العابثين، والذئاب البشرية!
وأنا، كإمرأةٍ "بدون" قبلية، أطالب بحق الجنسية أولاً، ثم بالحق في الحياة، وحق الاختيار، بعيداً عن القبيلة؛ لكن كنساءٍ، هل جرّبت إحداكن يوماً أن تسأل نفسها، هل نحن ننظر إلى المرأة التي تعمل تحت سطوة مؤسساتنا وبيوتنا، بما يتناسب مع مطالبنا؟ هل نطالب بحقها؟ هل صوتها مسموع بيننا؟
لا بد من تكثيف شرح معاناة العاملة، والحديث عما تتعرض له من سوءِ، وانتهاكاتِ، من أصحاب الأصوات العالية؛ حتى يصل صوت هذه المرأة المهمّشة.
قبل فترةٍ، وضمن مجموعة واتساب أشترك فيها، حدث جدال بيني وبين نساءٍ عديدات، كنت أرى فيهنّ صورة نساءٍ وزميلاتٍ يقفن مع حقوق المرأة. قالت إحداهن: "خدّامتي آخذ منها تلفونها، وأعطيها التلفون لما تنام، عشان ما تتكاسل عن شغل البيت، أو تهمله، ومنها يكون عندها دافع تنظّف أسرع"، وقالت أخرى: "زين تسوّين، وأنا مثلك وصراحة بفضّل ما يكون عندهم تلفون، ما تدرين بعد ممكن يصوّرونا".
شعرت بخيبة أملٍ من هذا القيل والقال، والتعامل مع فردٍ من أفراد العائلة بهذه الصورة! ومع إنسانةٍ تعيش في الغربة، وتعمل تحت مؤسسة امرأةٍ، وأشير هنا إلى البيت على أنه مؤسسة، لأن البيوت القاسية على العاملات، ما هي إلا مؤسسات ظالمة!
صمتتُ لثوانٍ معدودة، ثم قلت: "مو من حقك. العاملة فرد من أفراد الأسرة أولاً، وثانياً ما حد بالعمل يأخذ تلفوناتنا، وهالإنسانة متغرّبة تحتاج تكلم أهلها، وإذا تخافون من التصوير ليش تأمنينها على بيتك وعيالك؟"، فتجيب إحداهن بسخريةٍ: "أنا ربّ العمل، وأنا من يحدّد، والخدم ينخاف منهم يا هديل. بطّلي مثالية زايدة". ما دفعني إلى الكتابة تحديداً، هو اتفاق عددٍ من النساء مع رأيها، إذ المشكلة ليست مع امرأةٍ واحدةٍ، كما أن وصفي "بالمثالية"، يجعلني أتساءل: لماذا حقوق العاملات أصبحت مثاليةً وإنسانيةً؟! ولماذا تعامَل العاملة تحت بند الرحمة، لا الحقوق؟!
أنا امرأة "بدون"، أعرف ما أتعرّض له من سوءٍ من المجتمع، وأنا عربية قبلية، أعاني في بلادي كثيراً، ولن أكون أنانيةً بالحديث عمّا أعانيه، وأنا أكتب عن العاملات! ماذا عن امرأةٍ غريبةٍ في مكانٍ محاطٍ بالمخالب والقسوة؟
منذ ذلك اليوم، وأنا أفكّر كثيراً في العاملات، وما يتعرّضن له من سوء معاملة، من النساء والرجال. أنا امرأة "بدون"، أعرف ما أتعرّض له من سوءٍ من المجتمع، وأنا عربية قبلية، أعاني في بلادي كثيراً، ولن أكون أنانيةً بالحديث عمّا أعانيه، وأنا أكتب عن العاملات! ماذا عن امرأةٍ غريبةٍ في مكانٍ محاطٍ بالمخالب والقسوة؟ هذا ما قلته لنفسي، وأنا أتألم على حال النساء، من الشرق إلى الغرب، وحتى لو كنّ في المريخ!
نحن النساء نعاني جميعاً؛ لكن يبدو أن كلّ امرأةٍ تحمل غصّةً مختلفةً في صدرها، وعقلها مشحونٌ بالظلم. أعلم جيداً ما هو شعور المغترب، كوني أعاني من الغربة في وطني!
"مدينة"، عاملة في منزل جدّتي، لطالما شعرتُ أنها فرد من العائلة، لكن دائماً ما شعرتْ هي بالإحراج، وتشعر دائماً بأنها هي المسؤولة عن كل عمليات التنظيف، حتى بعد "التوبيخ". هذا ما تشعر به العاملة في غربةٍ، حتى في وجود عائلةٍ مُحبّة. هذه الغربة التي تخرم الجسد، وتجعلك تُقدّمين خدماتٍ ليست مطلوبةً؛ كامتنانٍ على معاملتنا الطيّبة لها. فبشرتها السوداء، وشعرها المجعَّد، جعلاها في حالة لا تماهٍ مع عاداتنا المختلفة، وأسلوب حياتنا، حتى وهي مسلمة!
إذاً، ماذا لو تحدّثنا عن العاملات اللواتي يعانين من العنصرية والإقصاء؟ نتحدث كثيراً عمّا يصدر من العاملات من أفعالٍ غير سوية، وجرائم، لكن لماذا لا نحاول البحث عن أسباب العنف والحقد نحو أرباب العمل؟ ولماذا يصدر من العاملات كل هذا الخراب والإجرام؟ لا أبرّر الشرّ والقسوة، لكني مؤمنة بأنّه من الشرّ يولد الشرّ.
طبعاً لا أقول إن الجميع هكذا؛ لكنّي أشير إلى بعض النسوة اللواتي لا يتجاوبن مع آلام العاملات؛ بل حتى في المخفر، لا تُؤخَذ الشكاوى من العاملات بجدّيةٍ.
في مسلسل "على الدنيا السلام" (1987)، تأليف طارق عثمان وإخراج حمدي فريد، وفي محاولةٍ جادّة من طاقم العمل لشرح معاناة العاملات، وطرح قضاياهنّ عبر كوميديا سوداء، وفي إحدى الحلقات، تجسّد دور "محظوظة" الفنانة حياة الفهد، وكان دورها العاملة المسؤولة عن منزل ضائع. وما إن تحاول وصف حال البيت للأم الدكتورة الطيّبة المثالية أمام المجتمع (أسمهان توفيق)، حتى تكون هي المُلامة الوحيدة عن كل ما يحصل، وتُطرد من العمل، وتُنعت بالمجنونة، والمخرّبة، والكاذبة.
جسّدت دور "مبروكة" الفنانة سعاد عبد الله، العاملة التي تُعامَل بقسوةٍ من غير إظهار السوء، ولا فعل قبيحٍ -عاملة مسكينة لا تحرّك ساكناً- هكذا تحت سطوة امرأة لا ترحم، ورجلٍ ضعيف الشخصية لا يُنصف، ولا يُسمَع له كلام، صوّر الكاتب لنا غيرة الفنانة طيبة الفرج، التي جسّدت شخصية "شريفة"، من العاملة، حتى أنها تعتقد في لحظاتٍ أن زوجها يتودّد لها، ثم تعاقبها، وتضربها أشدّ أنواع الضرب، بلا ذنب. وفي مشهدٍ صريحٍ لانتهاك جسد العاملة، تقتحم المكان، وتجبر العاملة على قصّ شعرها! وما كانت ردة فعل "محظوظة"، على ما فعلت بأختها "مبروكة"، إلا الفعل ذاته، بتر شعر السيدة. كلنا، كمتابعين، كنّا سعداء بفعل محظوظة، وانتقامها لأختها من شريفة، لكن نرجع إلى الواقع مرةً أخرى، ومن هنا نحاول رؤية ردود أفعال العاملات على السوء الذي يُرتكَب ضدّهن؟ لماذا علينا ألا نرى أفعالنا؟ لماذا لم نضع حداً لتصرّفاتنا أولاً، حتى نتدارك كل ما يصدر عنهن؟
مرةً أخرى، يُشير الكاتب إلى وضع العاملات بمنظرٍ يدمي القلوب... جسّدت دور "بدرية" زهرة الخرجي، المرأة المُحبّة المعطاء مع جيرانها في المستشفى. لكن حين يكون الأمر يخصّ العاملة؛ تضربها، وتحرمها من الطعام، وتعاملها بقسوةٍ وكلماتٍ فظيعة، وتقدّم لها فتات الطعام، على الرغم من كثرته، وعلى الرغم من مستواها المادي المرتفع... هنا يشير الكاتب إلى النساء اللواتي يكنّ مثاليات مع النساء كلهنّ، إلا العاملات؛ لأنهنّ من طبقةٍ فقيرةٍ مهمّشة.
كانت محاولاتٍ ناجحةً ورائعةً أصابت قلبي وعقلي في طفولتي، وأشارت إلى وضع العاملات السيئ، وكل ما يمارَس ضدّهنّ من انتهاكات. لطالما تذكّرت هذه المشاهد، كتجسيدٍ لحياة امرأة تعمل من أجل عائلتها، وتبيع حياتها وطموحاتها من أجل لقمة العيش، إذ انخفضت مطالب العاملات إلى مجرّد الاحترام! لطالما آمنتُ بأنَّ الإنسان لا يُولَدُ شريراً، أو يحملُ في قلبه حقداً وشرّاً وحرماناً. كل الأشرار نتاج السلطة والمؤسسات التي لا ترحم. ربما نتاج عائلاتٍ غير مُحبّة. كلها تراكمات! كذلك أقول إنَّ هؤلاء العاملات لم يتركن عائلاتهنّ وراءهنّ، حتى يُقتَلن، أو يُضرَبن، أو يُجرَّمن بحق البشرية. نحن خلقنا في دواخلهن الغضب! الغضب الذي لا يهدأ! تتعرض العاملات إلى انتهاكاتٍ غير قانونية وغير شرعية، ولا يسمح بها الدين الإسلامي. إذا كنّا سنتحدّث من منطلقٍ ديني، على سبيل المثال، ففي الكويت العاملة محرومة من مغادرة البيت؛ حتى لو كان المكان غير آمنٍ، ما دامت سيدة المنزل، أو سيّده، لا يرغبان في أن ترحل. أعرف كيف تصرّ بعض العاملات على الرحيل، بالبكاء أولاً، ثم الصراخ، وأخيراً بالامتناع عن العمل، وربما في آخر محطة تفتعل العاملة المشكلات. هي ليست ملاكاً! كلّ منّا هنا يحاول التمرّد، إذا أوشك على الاختناق. بعض العاملات يهربن من المنزل تاركاتٍ أوراقهن خلفهن.
لماذا لم نفكّر يوماً كيف يترك إنسان هويّته، ويهرب؟ عادةً، تلجأ العاملات إلى هذا النوع من الهروب، حين يرفض ربّ المنزل أن يتركهن ليغادرن البيت. وفي مراحل أخرى، تهرب العاملة؛ لأنها تتعرض لعنفٍ نفسيٍّ، وجسديٍّ، وربما جنسيّ.
كنت صغيرةً حين كنت في المدرسة، ورأيتُ عاملاتٍ عددهنّ قليل ينظّفن المدرسة بكاملها، والمدرسة كبيرة جداً. كنت أرى بعينيّ كيف تقذف البنات القذارة، من دون تفكيرٍ في هذه العاملة التي خُدِش ظهرها من الانحناء، وسمعتُ كثيراً المدرّسات كيف يوبّخن العاملات إذا امتلأت القذارة في المكان. لم يعتذر أحد إلى هذه العاملة بأيّ شكلٍ من الأشكال، ولم يرَ أحدهم ظرفها النفسي. ربما تكون في الحيض، أو خلال الدورة الشهرية، وغير قادرةٍ على الانحناء. كلنا شاركنا في تكديس الأعمال عليهنّ برواتب لا تتعدّى الـ150 ديناراً، أي ما يقارب الـ500 دولار. في كلّ مرّةٍ في المدرسة، أو خلال الزيارات، حين تشكو العاملة من ألمٍ، بعض النساء يقولون: "تتدلع عشان ما تشتغل!".
كنت صغيرةً حين كنت في المدرسة، ورأيتُ عاملاتٍ عددهنّ قليل ينظّفن المدرسة بكاملها، والمدرسة كبيرة جداً. كنت أرى بعينيّ كيف تقذف البنات القذارة، من دون تفكيرٍ في هذه العاملة التي خُدِش ظهرها من الانحناء، وسمعتُ كثيراً المدرّسات كيف يوبّخن العاملات إذا امتلأت القذارة في المكان
طبعاً لا أقول إن الجميع هكذا؛ لكنّي أشير إلى بعض النسوة اللواتي لا يتجاوبن مع آلام العاملات؛ بل حتى في المخفر، لا تُؤخَذ الشكاوى من العاملات بجدّيةٍ، نظراً إلى أنها الحلقة الأضعف في البلاد. ولا ننسى كيف تتعرّض العاملات إلى الاعتداءات الجنسية، وكم من مقاطع مصوّرة انتشرت تُصوّر لنا كيف يتمّ التحرّش جنسياً بهذه العاملة، وانتهاك جسدها، وخصوصيتها، وإرغامها على ممارسة الجنس، وإلا ستُطرد، وربما تُحرم من راتبها الشهري! أو يُحسم منه بحجة التهاون في عملها، إلى جانب أن العاملات عادةً، لا يملكن إجازةً سنويةً، ولا أسبوعيةً؛ يعملن على مدار السنة.
سأتحدّث عن الضغوط النفسية من عائلات العاملات. إحدى العاملات القديمات في منزلنا، كانت تقول لي: "إن عائلتي لا تغفر لي إذا لم أرسل المصروف الشهري، ويرون أنني لا أحبّهم، وأتعمّد التهاون في إرسال المصروف؛ لذا أحرم نفسي من غالب ما أرغب".
لا بد من تكثيف شرح معاناة العاملة، والحديث عما تتعرض له من سوءِ، وانتهاكاتِ، من أصحاب الأصوات العالية؛ حتى يصل صوت هذه المرأة المهمّشة. هذا المجتمع لا ينظر إلى معاناة العاملة، ولا يطالب بحقوقها، وعادةً لا يستمع إليها، ويهمّشها... للعاملة حقوق كما لكِ حقوق.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...