عُثر بعد ظهر يوم السبت الماضي على حقيبة بداخلها أطراف بشرية في منطقة “الملا” بالعاصمة بيروت. وتبيّن أن الجثّة تعود لعاملة تحمل الجنسية الإثيوبية. هكذا وصلنا الخبر عن امرأة هاجرت من بلدها إلى لبنان لتعمل في منازل الغرباء بهدف تأمين لقمة عيشها.
لم تُعرف هوية المرأة أو الأسباب التي أدّت إلى مقتلها وتقطيع جثّتها. ومثلها مثل كثيرات قبلها، تحوّلت من عاملة إلى ضحية للنظام العنصري اللبناني الذي يمارس عبودية مخبّأة بقوانين لا تلتزم أدنى معايير حقوق الإنسان.
بحسب منظمة حقوق الإنسان “هيومن رايتس ووتش”: “تعمل نحو 250 ألف عاملة منزلية مهاجرة في لبنان، معظمهنّ من بلدان أفريقيا وجنوب شرق آسيا. لا تشملهنّ حمايات قانون العمل اللبناني. ويتم تنظيم وضعهنّ عبر نظام الكفالة الذي يقيّد العاملات والعمال المهاجرين، والذي يربط إقامة العاملات المهاجرات القانونية بأصحاب عملهن. لا يمكن العاملات ترك عملهن أو تغييره بدون موافقة صاحب العمل، ما يضعهنّ في مواجهة خطر الاستغلال وسوء المعاملة. أما اللواتي يتركن أصحاب عملهن بدون "إذن"، فيخاطرن بخسارة إقامتهن القانونية في البلد، ويواجهن خطر الاحتجاز والترحيل”.
وبحسب القصص التي نسمعها من العاملات الأجنبيات في لبنان بطريقة مباشرة أو تلك التي تصلنا عبر وسائل الإعلام، بإمكاننا معرفة مدى تأثير غياب القوانين العادلة على حياتهن المهنية وعلى حقوقهن. وقصّة “أمينة” هي واحدة منها.
بقيت أخاف من كل امرأة لبنانية أصادفها إلى أن صادفت من يشبهونني ويفهمون أنني هنا بهدف العمل ولست مجرّد بشرة دكناء أو “عبدة سوداء” وأن لي أحلامي وطموحاتي
أمينة التي دفعت ثمن حريتها
من شقتها في منطقة كورنيش المزرعة وهي تتشاركها مع تسع فتيات أخريات تروي “أمينة” (32 عامًا) قصّتها التي بدأت في لبنان حين هاجرت من أثيوبيا بلدها الأم قبل ثماني سنوات بهدف العمل وإعالة والديها وزوجها وابنها، تقول: "لم أكن أعرف معنى القدوم إلى لبنان إلا حين وصلت. في البدء عملت في مدينة صيدا عند عائلة تدّعي الإيمان والانسانية لكنّها في الواقع كانت تحرمني من الطعام".
بعد ثلاثة أشهر من تعرّضها للتعنيف على يد ربّة المنزل التي كانت تحب أن تذكّر “أمينة” كلّ يوم بأنها تملكها، وذلك لأنها دفعت "ثمنها" للمكتب وحظيت بكل أوراقها الثبوتية وجواز سفرها. في يوم من الأيام قرّرت “أمينة” أن تستعيد ملكيتها. في ذلك اليوم استيقظت ربّة المنزل على صوت طفلها وهو يبكي وقرّرت أن تلقي اللّوم على “أمينة” لأنها كانت تحدث ضجّة أثناء تنظيفها للمنزل، وبدأت ضربها عبر إلقاء أدوات حادّة عليها. وحين حاولت “أمينة” أن تقدّم استقالتها عبر التواصل مع صاحب المكتب، أخبرها الأخير أنه يجب عليها دفع ثمن إقامتها وتذكرة سفرها للعائلة. وأنه ليس بإمكانها تقديم شكوى لأنه لا يوجد قانون لحمايتها، وأنه إذا حاولت أن تتسبّب بمشكلة فسيضربها هو. فما كان منها سوى أن خضعت ودفعت ثمن حريتها عبر التنازل عن حقوقها المادية التي كانت ستتلقاها خلال فترة عملها لدى العائلة.
"سأرحل قريبًا لأنني لم أعد مستفيدة، لبنان مش حلو بلا دولار. أنا بدي دولار"
عن التأثيرات النفسية والجسدية التي تلت هذه التجربة غير الإنسانية تقول “أمينة”: "من حيث جئت لم أتعرّض لأي تعنيف جسدي أو نفسي. عائلتي بسيطة ومليئة بالحب، ولكي تحظى بحياة كريمة قصدت هذا البلد. بعد انتقالي من منزلهم بقيت أخاف من كل امرأة لبنانية أصادفها إلى أن صادفت من يشبهونني ويفهمون أنني هنا بهدف العمل ولست مجرّد بشرة دكناء أو “عبدة سوداء” وأن لي أحلامي وطموحاتي ببناء مستقبل أفضل لطفلي الذي لم أر وجهه منذ سنوات".
تعمل “أمينة” حاليًا في مكتبة في شارع الحمراء خلال النهار وفي منازل تختارها هي بعد الظهر وأيام الآحاد. هي مسؤولة عن نفسها، لديها حرية التنقّل وتعيش حياة شبه طبيعة بحسب ما يسمح لها المجتمع اللّبناني. تخاف التنقّل حين يحل الظلام. وتحتفل كل ليلة جمعة مع صديقاتها في منزلهم. ترفض العمل أيّام السبت، فهذا اليوم لها. تطالب بحقوقها في كل منزل تقصده وحين لا تحصّلها تكفّ عن تقدمة خدماتها. وعن مدى قدرتها على البقاء في لبنان في ظل الأزمة الاقتصادية، تشرح: "سأرحل قريبًا لأنني لم أعد مستفيدة، لبنان مش حلو بلا دولار. أنا بدي دولار".
البشر خلف العبودية
كان هناك فتاة تدعى “رحيل” صادفتها حين كنت أبلغ من العمر إحدى عشرة سنة، جاءت من إثيوبيا لتعمل في منزل خالي، ولسبب ما صارت “رحيل” صديقتي ومرشدتي في الحياة. المرة الأخيرة التي رأيتها فيها كانت في العام 2004. يومذاك شاهدتها ترحل في السيارة أثناء جلوسي تحت شجرة الصنوبر. جاء جارنا وقال لي: “ما تبكي بكرا بجيبوا غيرها”، أجبته: “بس مش متل رحيل”. بالنسبة له، هو الذي كان يعارض صداقتنا مثل الكثير من أفراد العائلة لأنه، بحسب تفكيرهم، “لا يجب الوثوق بأبناء جنسها”، اختصر كل كيانها وأفعالها بأعمالها المنزلية، ولذلك يمكن استبدالها الشهر المقبل. بالنسبة إلي، “رحيل” كانت امرأة استثنائية، عملت خادمة لأنها اختارت هذه المهنة. وفي الوقت عينه حين تعرضتُ للسخرية من صديقاتي في المدرسة لأنني لم أعرف لماذا يطلقون لقب “العذراء” على “السيدة مريم”، لجأت إليها لأفهم. وفسرّت لي معنى الكلمة بأسلوب ناضج. “رحيل” علّمتني كيفية تسريح شعري، وأخبرتني أنها تعمل هنا بسبب الفقر في بلدها وحتى تصبح قادرة على إكمال تعليمها الجامعي. كانت تحب أغنية “يا غالي” لفرقة “غيتارا” لأنها تذكرها ببلدها وبرجل ما. وكانت تحب أيضًا اللون الزهري وارتداء الفساتين. ولمدة سنة كاملة كانت تتخطّى موعد نومها على الرّغم من التعب الذي كان يحل عليها فقط لكي تستمع لأفكاري. وفي صغري تعلّمت من “رحيل” أن جنسها بشري وما معنى العنصرية.
هناك أيضًا “عبّود” الذي ترك بلده “السودان” ليعمل في متّجر للألعاب في بيروت. حيث حمل الصناديق الثقيلة على ظهره لسنوات حتّى يتفرّغ شقيقه المغترب لرسالة الدكتوراه. كان يحبّ كرة القدم وعلم الاجتماع. وكان ينتظر دوره ليكمل هو تعليمه بعد أخيه. وهناك أيضًا “مَسَرَت ” التي اهتمّت بامرأة عنصرية لم تكن تسمح لها بالجلوس على الكنبة لأن بشرتها ملوّنة. لكن حين لم تعد قادرة على ارتداء ملابسها كانت “مَسَرَت” هي التي تساعدها. وحين ماتت هي وحدها أيضًا حملت جثّتها العارية عن الأرض ووضعتها على الكنبة، وغطّتها وطلبت الصليب الأحمر. وهناك “رام” الشاب النيبالي الذي علق بالخليج لأن أحدهم أقنعه بالذهاب والعمل في محطّة وقود بمعاش شهري يبلغ ألف دولار أمريكي، لكنّه حين وصل وبعد تسليم أوراقه اكتشف أن راتبه لا يتخطّى المئتين، وبحسب قوله: “لم يتم التعامل معه على أسس بشرية”. لكنّه تحمّل وحين عاد إلى النيبال صار لديه فندقه الخاص.
حين ماتت المرأة العنصرية "مَسَرَت" وحدها حملت جثّتها العارية عن الأرض ووضعتها على الكنبة، وغطّتها وطلبت الصليب الأحمر
ثمة قصّة خلف كل عامل أو عاملة أجنبية يقصدون البلاد العربية بهدف العمل. وهنالك أفعال عنصرية وأنظمة تقمعهم فور وصولهم. قبل مدّة انتشر مقطع فيديو لعاملة أجنبية في مطار المملكة العربية السعودية وهي تودّع أفراد العائلة الذين عملت لديهم وربّتهم لعقود. في الفيديو الجميع يبكون ويقبّلون رأسها. لكن هذا المشهد الذي وصلنا هو الاستثناء والواقع هو أن العاملات العمال ينتحرون من على شرفات المنازل، ويتعرضون للضرب، ويُحرمون من أجورهم ومن حقوقهم القانونية، ويعانون يوميًا أبشع أنواع العنصرية وهذا ما تشرحه “زورينا”.
سنرحل كلّنا ونترك الأعمال المنزلية والاهتمام بالأطفال للعائلات اللبنانية. ربما سيفهمون الحمل الذي ألقوه على أكتافنا بأسلوب لا يتناسب غالباً مع القدرة البشرية ويجافي معايير الانسانية
بينت علاقات بشطارتي
"الحنكة، هذا ما اكتسبته في لبنان، جئت إلى هذا البلد طفلة، رحلت عنه لسنة كاملة ومن ثمّ عُدت مسؤولة عن نفسي لأن لا خيار آخر أمامي. أحدهم كان عليه أن يعمل في عائلتي، وأنا القادرة على هذه المسؤولية".
قضت “زورينا” (35 عامًا) سنتها الأولى في بيروت حيث تعرّضت لكل ما هو عنصري. من التحرّش والألفاظ النابية في الشوارع وصولًا لعمل السخرة في المنزل، وتشرح: "لم أكن أملك ساعة راحة واحدة خلال كل أيام الأسبوع. تعرّضت للضرب، وللتوبيخ، ولكل أنواع الشتائم التي حفظتها. لكن أكثر ما كان يغضبني هو نعتي بالغباء لأنني لم أكن أفهم اللّغة. اليوم أتكلّم العربية بطلاقة دون أن يتعلّم فرد واحد من الذين خدمتهم لغة بلدي. ولهذا السبب أنا متفوّقة عليهم. لأنني “شقّيت طريقي”. حين عدت إلى لبنان، رحلت عن بيروت نحو الجنوب حيث بينت علاقات “بشطارتي” وصارت يومياتي مليئة بالأعمال".
وعن جريمة القتل التي تعرّضت لها إبنة بلدها، تعلّق “زورينا”: “بعض الفتيات لا يعرفن مدى صعوبة وخطورة القدوم إلى لبنان. وحتّى حين يتلقّين معارضة من عائلاتهنّ، يقرّرن السفر بالسّر. هذا البلد عنصري وغير عادل، لكنّه لسنوات طويلة قدّم لنا الأموال التي نحتاجها لبناء حياتنا ومنازلنا في إثيوبيا. هذا العام تغيّر هذا الواقع، ولهذا السبب سنرحل كلّنا ونترك الأعمال المنزلية والاهتمام بالأطفال للعائلات اللبنانية. ربما سيفهمون الحمل الذي ألقوه على أكتافنا بأسلوب لا يتناسب غالباً مع القدرة البشرية ويجافي معايير الانسانية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...