أتوقف في تصفحي للمواقع الاجتماعية عند كل صورة تجمع امرأةً وكتاباً. وما أكثر ما تتوفر ضمن قائمة صديقاتي القارئات. هي صورة ذات سحر خاص كثيراً ما تأملتها متسائلاً عن السر الذي يستوقفني في كل مرة.
في البداية هناك يدا القارئة بأظافرهما الملونة واللماعة، على شاكلة حبيْبات من الكرز تمسكان بنعومة الأنثى كتاباً بأي شكل كان. الكتاب بما هو الشيء الحمّال لسحر خاص. ثم، هناك عيناها المنصرفتان إلى محتوى الصفحة انصرافاً كلياً. عيناها الحمالتان لكل ما نعرف ونرث من صفات ورموز مثقلة متراوحة بين "سهام لحْظ" إلى "غابتيْ نخيل".
هناك شفتاها أيضاً اللتان تبدوان وكأنهما تهمان بحركة ما أو بكلمة ما. قد يقرأ كل من لا يتوقف عند ظاهر الصورة على تيْنك الشفتين قبلةً أعمق من أي قبلة أخرى قد يحظى بها رجل، حتى وإن كان في شعرية عمرو بن أبي ربيعة نفسه. هناك حضنها الدافئ، أرض الأمومة الخصبة ومزرعة الحبيب الهائم، حيث يقبع الكتاب بكل جلاله راضخاً لحركات تلك القارئة وسكناتها كما لم يرضخ أحد قبله، يتلوّى بتلوّي دوائرها الجسدية وتمططها، يستجيب لمختلف الوضعيات التي قد يأخذها ذلك الجسد، سواءً كانت جالسةً على كرسي أو واقفةً في إحدى الميتروات الخفيفة، أو ممددة على سريرها تهب ذراعاً رخامياً للكتاب، صورة يتعانق خلالها الحسي الصرف والمعنوي الراقي.
تبدو المرأة العربية القارئة واعيةً اليوم بخطورة أن تمارس فعل القراءة، فنجد معظم القارئات قد نشرن في "بروفايلاتهن" المقولة الفرنسية الشهيرة: "المرأة التي تقرأ، امرأة خطيرة"
القارئة التونسية "أمل": ماكياج وكتب من لوازم الجمال
لي –كشرقي – أن أستحضر معظم صفات التي تهز الرجل فتغنى بها الشعر الغزلي العربي بجديده وقديمه، سنجد المرأة في كل حالاتها ووضعياتها: فهي نؤوم الضحى، المتكاسلة، الضاحكة عن أسنان بيضاء، المغتسلة من خلف ستارة شفافة، العاملة في الحقول، الهائمة في إحدى مساءات البوادي الخ... مما تزخر به قصائدنا القديمة والجديدة. أما صورة المرأة القارئة فتكاد تكون بلا وجود، إلا إذا استثنيْنا قصيدة الشاعر السوري الراحل، اختصاصي الغزل، نزار قباني، والذي لم يذكر القارئة إلا وهي تجلس قبالة فنجان، تفك شفراته الغيبية بوصفها عرافةً لا قارئةً.
القارئة العربية: خطر داهم
أمل التواتي: القارئة التونسية مؤسسة "عشوية فن" تظاهرة قرائية بفضاء أيكار الثقافي بباب العسل بالعاصمة تونس
المرأة كتاب الكتب. أما وهي تمسك الكتاب فنصبح أمام كتابيْن متحديْن. تشير الإحصائيات إلى أن المرأة عموماً شديدة الالتصاق بالكتاب أكثر من الرجل، فهي أكثر تركيزاً من الرجل، تصل الخاتمة بالعناية نفسها التي تفتتح بها الكتاب. فهذا الأخير بالنسبة إليها إمكانية لرؤية العالم بشكل مختلف، إمكانية لعلاقة سرية متفردة غريبة في آن. قصة حب بلا عقد وبلا أحزان وبلا دموع. وإن كانت ثمة دموع فهي دموع لذيذة لا علاقة لها بدموع الخيانة والغدر، "بعْبعيْ" المرأة العربية وموهبتيْ الرجل العربي، بلا تعميم طبعاً.
كان الإنجيل ممنوعاً عن النساء على سبيل المثال، لأنه كتاب مقدس وإذا ما تحدثنا عن القداسة فالأمر –من وجهة نظر دينية – قد لا يخص المرأة من قريب ولا من بعيد، لأنها تحيض وتلد وغيرهما من الاعتقادات الأخرى التي كانت سائدةً إلى زمن غير بعيد
تبدو المرأة العربية القارئة واعيةً اليوم بخطورة أن تمارس فعل القراءة، فنجد معظمهن قد نشرن في "بروفايلاتهن" المقولة الفرنسية الشهيرة: "المرأة التي تقرأ، امرأة خطيرة". والمقولة عنوان لكتاب بكامله، اشترك في تأليفه رجل وامرأة: ستيفان بولمان ولور أدلير نشر عن دار "فلامريون" سنة 2012، ويؤرخ الكتاب لأولى القارئات الأوربيات عموماً والفرنسيات خصوصاً، ويعدد فعل القراءة فيهن ودورها في رسم ملامح المرأة الأوربية وثوراتها العديدة التي حدثت وأخرى لم تحدث بعد. كما يخصص جانباً مهماً للوحات الفنية والأعمال الأدبية والموسيقية وغيرها من الأعمال التي سلطت الضوء على تلك القارئة الخطيرة.
إذا كانت القراءة النسوية بوصفها ممارسة جديدة قد أصبحت اليوم في متناول كل امرأة، فإنها لم تكن كذلك إلى زمن متأخر بدافع ديني وثقافي واجتماعي، إلخ... كان الإنجيل ممنوعاً عن النساء على سبيل المثال، لأنه كتاب مقدس وإذا ما تحدثنا عن القداسة فالأمر –من وجهة نظر دينية – قد لا يخص المرأة من قريب ولا من بعيد، لأنها تحيض وتلد وغيرهما من الاعتقادات الأخرى التي كانت سائدةً إلى زمن غير بعيد. ولنا التساؤل حول الآية القرآنية القائلة: "لا يمسه إلا المطهرون"، وعن محل "المطهرات" منها وهل هن خارج التوقع؟
أما الأيقونة المسيحية الشائعة: فنجد يسوعاً ماسكاً بكتاب ومن خلفه نور شمعة، أما مريم العذراء فلا. وحده الرجل في كل الديانات السماوية تقريباً مخول لأن يمس بالكتاب المقدس، وبالتالي الكتاب عموماً، أما المرأة فلا، مرة أخرى.
اليوتيوبر مروى البوزيدي: Reading Passion. القارئة التي لا تفوت تفصيلاً واحداً في خصوص آخر الإصدارات
الخطر متأت من امرأة مكتفية بكتابها، تعيش معه انتشاء قد ينسيها ممكنات الانتشاء الأخرى. ويتأتى مما نستعير له مصطلح غوستاف فلوبير الشهير "البوفاريزم" نسبة لبطلة روايته الأشهر "مدام بوفاري"، القارئة التي لا يشق لها غبار، والتي غيرت الكتب نظرتها للعالم وللمجتمع وللرجل وللجسد وللحب والجنس إلخ...
بوفاريات العالم العربي
سنية بن باهي: القارئة التي تزوجت كاتباً في مكتبة تتحدث عن قصتها مع الكتب
ثمة بوفاريات عديدات في العالم العربي وقد أعرف بعضهن، جميلات منصرفات للقراءة دون غيرها، أتفحص صورهن بعشق وأكثر. ينجزن فيديوهات يتحدثن فيها بحب عن الكتاب وهن في "أبهى زينتهن"، ماكياج وألبسة قد تزيد الكتاب إشعاعاً. وكتاب قد يزيد زينتهن تفرداً. زوجات سريات لمعاني الكتاب ولأبطاله إن كان رواية، أو قصة ولمعانيه الشعرية إن كان ديواناً.
يطلق عليهن "صانعات محتوى" وليس أي محتوى في استثناء للمحتويات التافهة من مادتنا، الأمر يخص الكتاب وحده. هناك من الصديقات من تقضي أمسية السبت ما يعني "الويك اند" مع كتاب. ولا تستطيع صورها مع ذلك الحبيب الورقي إلا أن تجعلك تغار من الكتاب.
هن بوفاريات جديدات، ما فتئن يغزين مواقع التواصل الاجتماعي العربية. صور شهية تدور وقائعها في المكتبات وفي المعارض المخصصة للكتاب. بوفاريات يعدلن بوصلتهن عن القراءة كرؤيا للعالم. يحددن تصرفاتهن وسلوكهن وأيامهن ويقسمن أوقاتهن على ذلك الأساس، وبالتالي يخترن حبيبهن أيضاً على أساس فعل القراءة ذاته. بوفاريات يتزاحمن على "البوفاريزم". يختطفن الكتاب ويضعنه صحبة الشوكولا وأصابع الماكياج وقارورة "البارفان" وحمالة الصدر والروب الشفاف...
بوفاريات يرتلن النصوص بأصواتهن الدافئة، يقلبن صفحات الكتاب بأصابعهن الرشيقة، يفترسن الكتاب بنهم وشهوانية أخاذة ويرتقين درجات عديدة كل يوم، يزين المواقع الاجتماعية ويعطينها معنى ما ورقياً ما. ويجعلنني أنا العابر عليهن في قائمتي أتوقف عند صورهن وأبحث عن مكامن التفرد فيها لأجدها بلا حصر.
لقطة من فيلم "مدام بوفاري" للمخرج كلود شابورال 1991
زيجات في المكتبات
صورة لحفل زفاف الكاتب والناشر سامي المقدمي والقارئة سنيا بن باهي
أصبحت المكتبة إذن ملاذاً لبعض النساء العربيات، فضاء لتعمير حياتهن، أفقاً يخرجهن من نمطية رسخت قروناً عديدة. حتى أن في تونس على سبيل المثال دارت حفلات زواج برمتها في إحدى المكتبات، ولعل أشهرها زواج الكاتب والناشر التونسي سامي المقدمي والقارئة النهمة المعروفة في الأوساط الثقافية القرائية التونسية، سنيا بن باهي. فتح هذان الزوجان الفريدان الباب على مصراعيه لزيجات أخرى تمت وقائعها بين رفوف المكتبات.
صورة المقال: القارئة أمل التواتي "أنا أجمل مع الكتاب"
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...