شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
الجماليات الجنائية... هل من

الجماليات الجنائية... هل من "حقيقة" في صور الخراب؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 3 يناير 202211:00 ص

صدر مؤخراً كتاب "الجماليات الجنائيّة"، لكل من عالم الجمال ماثيو فولير وأيال وايزمان، مدير منظمة "العمارة الجنائيّة"، تلك التي تقوم بجهود فنيّة وجماليّة وقانونيّة لكشف "الحقيقة"، في عالم مفرط في المعلومات والأكاذيب وإنكار الحقيقة.

يأتي هذا الكتاب كمقاربة فلسفيّة وسياسيّة لمفهوم "الجمال"، وتعاون القطاعات الفنيّة (المشغل/ صالة العرض) مع المساحات العلميّة (المختبر، قاعة المحكمة)، ليس فقط لإنتاج الحقيقة، بل أيضاً لجعلها "مفهومة" وقابلة للمعاينة من أجل إنتاج "العدالة"، عبر إعادة النظر في مفاهيم "الدليل"، "الوثيقة" والسلطة السياسية.

غلاف الكتاب

تعريف الجماليات

يتبنى الكتاب تعريفاً للجماليات- Aesthetics، بوصفها to sense وsense making ، أي أن "نحس" وأن "نفهم". هنا يتحول الجمال إلى عملية هدفها جعل الأشياء محسوسة، أي مفهومة للحواس، من أجل إنتاج المعرفة، من هذين المنطلقين تعمل "الجماليات الجنائية" وتبرز ضرورتها في عالم ما بعد الحقيقة والإفراط في الحس حد الهلع.

والمقصود كمية المعلومات المتناقضة التي تبث، والتي تخفي العنف الممارس في أنحاء العالم، من اليمن إلى الولايات المتحدة مروراً بسوريا ومصر وألمانيا، حيث تتحول الحقيقة إلى "مُنتج" سياسي، تساهم المدرسة والجامعة ووسائل الإعلام في تكوينه، وجعله إما "غير مفهوم" أو"لا يمكن تصديقه".

في هذا العالم الذي نعيشه، وضمن خراب البيئة وتحول المؤسسات التي تحتكر الحقيقة وتنتجها إلى مؤسسات للتشويش، تظهر الجماليات الجنائية كجهود فنية وسياسية وعلميّة لإفهامنا ما يحدث؟ أي من يقتل؟ من الضحيّة؟ من المذنب؟ خصوصاً أن القاتل ينتج صوراً عالية الدقة، متماسكة، "حقيقة" مفرطة في وضوحها، بعكس "صور" الضحية، مشوشة، مهتزة، ناقصة.

صدر مؤخراً كتاب "الجماليات الجنائيّة"، لكل من ماثيو فولير وأيال وايزمان. يأتي هذا الكتاب كمقاربة فلسفيّة وسياسيّة لمفهوم "الجمال"، وتعاون القطاعات الفنيّة (المشغل/ صالة العرض) مع المساحات العلميّة (المختبر، قاعة المحكمة)، ليس فقط لإنتاج الحقيقة، بل أيضاً لجعلها "مفهومة"

وهنا تأتي الجماليات الجنائية التي تعتمد على كتلة من الصور التي يبثها الضحايا لإعادة تكوين فضاء الحدث، الأهم، وهذا ما تفترضه الجهود الجماليّة، هو العلاقة بين كل الموجودات، بشر، وأرض، وبناء، كلها "تفهم" بعضها البعض، لكن لا بد من تدخل لجعلها مفهومة لنا.

فالجدار أمام قذيفة وجثة، يختزن غبارهم ودمائهم، ويختزن المواد التي صنع منها، ومن باعها واشتراها، وكيف تحول الطقس حولها، وكيف امتص الجدار الرطوبة، وأثرت على كيفية اصطدام القذيفة به وبالضحية، أي كل عنف يترك وراءه آثاراً قد تبدو غير مرئية وغير مفهومة، لكن بتدخل "جمالي" وتكنولوجي يتضح المعنى أمامنا، لا فقط كمشاهدين في صالة المعرض، بل كقضاة في المحكمة ومحققين في الشرطة وصحفيين، ما يعني أن الجهد الجمالي يعيد النظر في الدليل وكيفية إنتاجه ومؤسسات ترسيخه، ثم قنوات عرضه وأسلوب إطلاق الأحكام على أساسه.

يضرب الكتاب أمثلة متعددة، لكن المذهل هو مقاربة الدليل أو الوثيقة حين ترتبط بالعنف، يتمثل ذلك بعنف الشرطة مثلاً، الفيديوهات التي تصور قتل شرطي في شيكاغو لمواطن ملوّن، يعاد قراءتها على مستوى الميلي ثانية، أي لتحديد اللحظة التي قرر فيها الشرطي قتل من أمامه، خالقاً مساحة استثناء مايكرويّة، يتحول فيها المواطن إلى عدو بناء على "قرار الشرطي".

هذا القرار يقرأ لا فقط ضمن الثواني والهنيهات، بل على مستوى الشهر والعام والتاريخ، ولرصد كيفية رسم الخطابات السياسية والإعلامية أسلوب اتخاذ القرار بالقتل، والأهم، دورها في إنتاج الحقيقة: هل قتل الشرطي رجلاً ملوناً لأنه شعر بخطر يهدد حياته؟ أو قتل الشرطي رجلاً أعزلاً كونه يتطابق مع الصورة النمطية المرسخة عن الملونين؟

يتبنى كتاب "الجماليات الجنائيّة" تعريفاً للجماليات، بوصفها to sense وsense making ، أي أن "نحس" وأن "نفهم". هنا يتحول الجمال إلى عملية هدفها جعل الأشياء محسوسة، أي مفهومة للحواس، من أجل إنتاج المعرفة

أهمية الجماليات

تكمن أهمية الجماليات الجنائية في "البطء"، أي ضمن عالم يتسارع وتبث فيها ملايين الصورة والوثائق تبرز الممارسات الجمالية بوصفها خارج "الإيقاع"، خطوات دقيقة من أجل رسم فضاء ما يحدث وإعادة النظر فيه، البطء هنا، يعني إعادة النظر في مكونات العالم والعلاقات بينها، ثم تشكيلها بوضوح أمامنا.

عشرات الصور التي بثها الناشطون والإعلام الرسمي في سوريا لقصف غوطة دمشق بالسلاح الكيماويّ، تحولت إلى فضاء رقمي، درست فيها القذائف وأنواعها وصنّاعها لتحديد اتجاها ومعرفة الجاني بدقة، لا من قبل السلطة أو المحققين، بل من قبل الصحفيين والناشطين والفنانين، ما يعني مشاركة على كافة الطبقات من أجل إعادة إنتاج اللحظة ووضعها ضمن "زمن" أقل ضبابية، أقل ضجيجاً وتسارعاً، خصوصاً في وجه جهود التعمية التي تمارسها السلطة.

تسعى الجماليات الجنائية لمواجهة جهود "الإعماء" عبر تضخيم الحساسيّة والقدرة على الفهم، عن طريق مزج شبكات المعارف والأدلة وجهود الفنانين لمواجهة جهود السلطة والحقيقة، ليتحول الحدث إلى فضاء مفاهيمي يمكن ضبط مكوناته، سواء عبر التكنولوجيا أو الشهادات أو الخبرات.

 نضرب هنا مثالاً بسيطاً يشابه الحكاية الخرافية التي تمتد لفصل في الكتاب، لمحاولة فهم هذه التقنية:

ضرب الطالب زيد الطالب عمرو بتفاحة في باحة المدرسة، ما أدى إلى كسر نظارات عمرو، والتقطت التلاميذ صوراً وفيديوهات لما حدث بكاميراتهم، ونشروها على صفحة المدرسة على فيسبوك، اشتكى عمرو للمدير، لكنه تعرض للعقوبة، ولم يتهم زيد، كونه قريب للمدير، وتحول عمرو إلى مفتر وكاذب وأضحوكة.

في هذا العالم الذي نعيشه، وضمن خراب البيئة وتحول المؤسسات التي تحتكر الحقيقة وتنتجها إلى مؤسسات للتشويش، تظهر الجماليات الجنائية كجهود فنية وسياسية وعلميّة لإفهامنا ما يحدث؟

تدخل أحد الطلبة في الشأن، وشاهد كل الفيديوهات، وحدد زاوية إلقاء التفاحة، ثم حلل نوعها، واكتشف أنه من يبيعها دكان واحد بجانب منزل زيد، كونه تفاحاً مستورداً وليس محلياً، كما اكتشف من كاميرا مراقبة منزلية أن والد زيد اشترى كيلو تفاح في اليوم السابق على الحادثة، وكشف عن صلة القرابة بين زيد والمدير عبر صورهما المشتركة على فيسبوك في الاجتماعات العائليّة، كما تمكن من رصد انعكاس زيد وهو يرمي التفاحة من واحد من نوافذ الصفوف المطلة على باحة المدرسة.

بعد جمع كل هذه المعلومات، قام بنشرها في صحيفة المدرسة، ثم قام ببناء مجسم للحادث في الباحة كي يراه الجميع، كاشفاً بدقة من الفاعل وسلسلة الأكاذيب التي قادت إلى ظلم عمرو"، هذا الجهد الجمالي، كان باستعانة أستاذ الرسم الذي رسم مخطط حركة التفاحة، وأستاذ الفيزياء الذي درس عوامل الجو وحركة التفاحة ونقطة انطلاقها وسقوطها ونجار قام ببناء المجسمات.

شاهد الطلاب وأهلهم والمدير كل ما حصل، وكُشِفَ ظلم المدير، وعدوان زيد، وبراءة عمرو مرتين، من الكذب ومن الافتراء.

هذا المثال المصغر الساذج، يعكس جهود الجماليات الجنائية، التي تتمثل بالطالب الذي قام بالتحقيق، وتعاونه مع الفنان "أستاذ الرسم" والعالم "أستاذ الفيزياء" والنحات "النجار"، وخبير الكمبيوتر الذي قام لاحقاً بتحويل كل هذه المعلومات إلى فضاء ثلاثي الأبعاد، يمكن التجول ضمنه باستخدام الحاسوب أو الهاتف النقال، ومشاهدة حركة التفاحة من أي زاوية يريدها المتفرج.

وهذا بالضبط الأسلوب الذي كشفت عبره العمارة الجنائيّة عن الجرائم الذي يمارسها النظام السوري ضد السوريين، والسعودية في اليمن، واليمين المتطرف في ألمانيا، والشرطة في الولايات المتحدة، والجيش الأمريكي في أفغانستان، والآن في الكتاب الصادر مؤخراً، أًصبح بإمكان الباحث والناقد أن يدرج هذه الجهود ضمن علم الجمال والنظرية السياسية والدراسات الإعلاميةّ.

هنا مثال عن عمل العمارة الجنائيّة على كارثة انفجار بيروت

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard