لم يكن يعلم الطبيب الهندي "سوسورثا" أنّ ما فعله في القرن الثامن قبل الميلاد سيؤسس لأعظم مهنة في التاريخ المعاصر، لم يكتشف النفط أو الماس، لم يخترع البنوك، لم يؤسس لنظرية الثقوب السوداء، كلّ ما قام به هو ترقيع الجلد، هذه العملية أسّست لاحقاً لما سُمّي بـ"عمليات التجميل" أو "Plastic Surgeries"
المأخوذة من الجذر اليوناني "Plastikos"، وهي كفعل تأتي بمعنى يُقولب أو يُشكّل ولا تمت للبلاستيك بصلة، كما يتبادر للذهن في الوهلة الأولى.
ما فعله "سوسورثا" غيّر مفهوم الطب، وحوّله من قيمة إنسانية إلى تجارة مادّيّة خالصة، مع التقّدم بالزمن والتكنولوجيا.
شكّلت الجراحة الترميمية الخاصة بتصحيح العيوب الجسدية صيحة في سوريا في بداية الألفية الجديدة، لما حملته من حلول خلّاقة لمشاكل عيوب الولادة، أو النتائج الناجمة عن الحوادث والأمراض الخطيرة، حيث عالجت الشفاه المشقوقة وتشوهات الأذن للأطفال حديثي الولادة، وأعادت بناء أثداء كثير من النساء اللواتي عانين من أمراض خطيرة.
لكن القسم الثاني من الجراحات التجميلية المختص بتعديل أو تغيير الجسد هو ما جعل العلاقة تتبدل بين الطبيب والمريض، وتتحوّل إلى علاقة بين تاجر وزبون، أول ما دخل من هذه التجارة هو تجميل الأنف وانتشرت بسرعة البرق، ولم تقتصر على طبقة اجتماعية دون أخرى، الجميع مصاب بـ"انحراف وتيرة" ظهر فجأة والجميع يريد أن يتعالج، هذه كانت الحجة التي يقولونها حين تسألهم عن أنوفهم المستدقة والمنحوتة والصغيرة، لاحقاً دخلت جراحات تجميلية جديدة، تحديداً في السنوات العشر الأخيرة: تكبير أو تصغير الأثداء، استخدام الليزر في إزالة الشعر غير المرغوب فيه، وشفط الدهون، اللافت في الموضوع هو عدم اقتصار هذه التجارة على النساء كـ"زبائن"، أصبح للرجال نصيبهم أيضاً وأصبحوا من كبار العملاء، حيث انتشرت عمليات زراعة الشعر، الفيلر، إذابة الشحوم وتكبير العضلات، وأصبحت حين تمشي في الشارع تكاد لا تميّز امرأة عن أخرى أو رجلاً عن آخر إلا بنبرة الصوت، حتى لون العينين لم يسلم، فجميع النساء يتمتّعن بأنوف مدبّبة وشفاه منتفخة وصدور عارمة وعيون ملوّنة، وجميع الرجال يتمتعون بشعر كثيف ولحى طويلة وعضلات مفتولة، تكاد تظن نفسك تائهاً حتى وأنت في حيّك.
يقول علم النفس إن ميل الانسان لنيل رضا وإعجاب الآخرين ربما يكون سبباً في رواج هذه الصرعة، لكن الغريب في الأمر هو زيادة انتشار هذه التجارة مع بداية الحرب، وتناميها مع تنامي الحرب، وكأنها تسير معها خطوة بخطوة، رغم أن المفروض أن يكون التركيز منصبّاً على أساسيات الحياة وليس على كمالياتها، إلا إذا كان "كورس العضلات" يوازي في أهميته الماء والدواء مثلاً.
ليست القضية في مهاجمة أطباء التجميل أو في البحث في غباء الشريحة المستهلكة، إنما في الوعي الجمعي الذي جعل من هذه الظاهرة أمراً روتينياً واعتيادياً إلى حد كبير.
بما أن السحرة غير موجودين إلا في كتب الأطفال، لذا كان لابد من اللجوء إلى طريقة أخرى كرد فعل على كل هذا الدمار، فالقضية ليست كما كنا نظن في البداية، وهي البقاء أحياء مهما كلف الأمر، القضية في أن نتجاوز الأمر وهذا ما يحتاج إلى أنبياء للقيام به.
هذه البلاد تحتاج عملية تجميل وليس عودة إلى ما كانت عليه قبل الحرب، ربما يصلح هذا من وضعها النفسي وتصبح مقبلة أكثر على الحياة وضاحكة، وربما تتذكّر أبناءها، حين أحبوها يوم لم تكن بمثل هذا الجمال.
إذن ما هو السبب الذي جعل عمليات التجميل تقف في نفس مستوى الأكل والشرب في سوريا؟
ليس وفرة المال بالتأكيد، ولا حبّ التغيير، ولا حتى محاولة لفت النظر ونيل الرضا والإعجاب من الآخرين، إنه النسيان، لم يكن الأمر غبياً أو سطحيّاً على الأقل منذ بداية الحرب.
الجميع حفرت فيه الحرب لدرجة يصعب استئصالها، والجميع واعٍ لذلك مهما بدا لك غير مكترث، الجميع، وأعني بها الجميع دون استثناء، رأى الدمار وشاهد الأنقاض والأشلاء والدماء والجثث وشم رائحة البارود، والجميع يريد أن ينسى كل هذا ولا يستطيع، وبما أن السحرة غير موجودين إلا في كتب الأطفال، لذا كان لابد من اللجوء إلى طريقة أخرى كرد فعل على كل هذا الدمار، فالقضية ليست كما كنا نظن في البداية، وهي البقاء أحياء مهما كلف الأمر، القضية في أن نتجاوز الأمر وهذا ما يحتاج إلى أنبياء للقيام به.
وبما أننا مجرد فانين على هذه الأرض، مجرّد فانين، نريد أن نكون كائنات مطعونة بجمال، الجمال ليس في الطعنة التي تشبه مثلاً نقص الخبز والمازوت والكهرباء وأسنان أطباء التجميل الهوليودية، إنما في رد الفعل المتمثل في عدم الاكتراث لتراكم ثرواتهم التي تحمل طابع الاستدامة، بل في آنية نظرة الإعجاب ونحن ننظر في المرآة ونصدق أن "الآن" صار "أبداً"، في الابتسامة حين ننظر من النافذة ولا نرى البيوت المهدمة والفارغة بطبيعة الحال، لكن حين نسمع ضحكات أطفال كانوا هنا وسيعودون يوماً ما، الشعب، ودون علم منه، أو ربما كان يعلم أنه حين يلجأ لعمليات التجميل فإنه يساهم في تفتيت الخراب المنتشر ولو قليلاً.
هذه البلاد تحتاج عملية تجميل وليس عودة إلى ما كانت عليه قبل الحرب، يمكن مثلاً أن نجعل كتفيها أعرض وأن نجعل أنفها بارزاً للأمام – شامخاً أعني – وخصرها أكثر دقة وأقل استدارة، ربما يصلح هذا من وضعها النفسي وتصبح مقبلة أكثر على الحياة وضاحكة، وربما تتذكّر أبناءها، حين أحبوها يوم لم تكن بمثل هذا الجمال.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون