شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
ظننا أن الوطن بيت من الشوكولاتة صنعته الساحرة الطيبة… السوريون ينسون النكهات الأصلية

ظننا أن الوطن بيت من الشوكولاتة صنعته الساحرة الطيبة… السوريون ينسون النكهات الأصلية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 27 نوفمبر 202003:13 م

مذاق واحد فقط لم يقم السوريون باستبداله، إنه طعم الوطن، واووو! تبدو هذه العبارة التي افتتح بها كلامي مثل عبارة هاربة من خطاب عن الانتصار، أو مسروقة من قصائد شعراء منابر وزارة الثقافة واتحاد الكتاب ومؤسسة "معا نحو المجد"، أولئك الذين يتعرقون وطنية وروائح مقززة، أو كأنها عبارة لشاعرة خمسينية تضع صهريجاً من الفيكساتور على شعرها القليل، في أصبوحة لجمعية "لياسمين لا يشيخ"... قالتها ثم صمتت وأشاحت بوجهها نحو اليمين، فوقع الحضور مغشىً عليهم لشدة الوطنية. 

مذاق واحد فقط لم يقم السوريون باستبداله، إنه طعم الوطن، واووو!

الأمر ليس كذلك اطلاقاً، لم يستبدل السوريون طعم الوطن بطعم أخر، لأنهم ببساطة لم يتذوقوا مرة طعماً حقيقياً له حتى نقول أنهم استبدلوه... هم فقط خبروا درجة أكثر ملوحة بل خليطاً من طعم لاذع وحار، طعم ممجوج، كل ما خبروه كان مجرد زيف مشغول عليه بعناية تامة، مثل طعم تفاحة شهية في صورة، مثل طعم كلمة سكاكر مطبوعة ومزخرفة على عبوة فارغة قرب حاوية قمامة.

 السوريون عرفوا الوطن بألقابه الشهيرة تلك التي كانت تعج بها شعارات القيادات الحكيمة، وفي مراحل النضال التي لم تبرد يوماً، هم لم يستبدلوا طعماً حقيقياً وأصيلاً بطعم مزيف، كل ما في الأمر أنهم خبروا درجة غير محتملة من الملوحة. طعم لاذع لن ينسوه لأجيال وأجيال.

كما لم يعرف السوريون رائحة العطور الأصلية، إذ اعتادوا عبر عشرات السنين الماضية أن يتعاملوا بكل طبيعية مع زيوت عطرية تركّب حسب الطلب وحسب خبرة البائع، زيوت تقترب قليلاً أو تبتعد كثيراً بالغالب عن الرائحة الأورجينال للماركة المطلوبة. 

لم يستبدل السوريون طعم الوطن بطعم أخر، لأنهم ببساطة لم يتذوقوا مرة طعماً حقيقياً له حتى نقول أنهم استبدلوه... هم فقط خبروا درجة أكثر ملوحة بل خليطاً من طعم لاذع وحار، طعم ممجوج، كل ما خبروه كان مجرد زيف مشغول عليه بعناية تامة

ومع ذلك ففي سنوات الوضع السوري صارت قضية البدائل طوفاناً لا يتوقف، يصل إلى مرحلة يمكن أن نسميها بدائل البدائل حتى، لذلك نسي السوريون النكهات الحقيقية لكل شيء، السوري مشتغل مجدّ على قضية البدائل، إنه تأقلم غير محمود، تأقلم السجين، تأقلم المصاب، أجزم بأن نسبة كبيرة من الأطفال لا يعرفون مثلاً طعم الشواء ولم يعد بالإمكان التعرف عليه حتى من خلال كيس شيبس مكتوب عليه "بنكهة الباربيكيو الشهية"، ابتسمت المرأة في السوبر ماركت عندما قرأت على عبوة عبارة: "بديل اللحمة"، تناولتها بقوة ثم أعادتها ببرودة وقالت في سرها: "كمان هي مو رخيصة"، لكن ما سمعه البائع: أكيد بتضر ومانا طبيعية، أبصر شو هالمواد يلي فيا، بلاها.

سألت صغيري في سهرة عائلية بينما أُقلّب كتابه لمادة العلوم في منهاج الصف الثالث الابتدائي: "كيف كان شعورك حين رأيت هذه الصورة في الصف؟، (صورة لصحن فيه مشاوي منوعة)، صمت قليلاً، ثم قال كلمة واحدة فقط: "وقاحة"، وأكمل اللعب ببعض الخردة من أخشاب وعلب بلاستيك فارغة، هذه يسميها سيارة وتلك يسميها دراجة.

ما يزيد الطعم مرارة أن يسوّق الأمر على أنه بطولة وطنية ترفع منسوب الصمود والتصدي.

في الصغر، كنا نظن وربما نجزم، أن سمان الحي البعيد مدلّس وغشاش، أنه شرير قد يفعل أي شيء من أجل الربح، قد يضع لنا تراباً في كيس البزر، وربما كان يلحس الكريمة عن بسكويتاتنا، يكسر حبات البنبون ليضاعف عددها، يتلاعب بالميزان، أنه شرير لا يرحم، وليس غريباً عليه أن يفعل أي شيء من هذا، لكن أن يفعل أهلنا الآن هذا! هذا ما لا يقبله العقل ولا تقبله الطبيعة ولا يمكن بلعه ببساطة، أمي تضيف الماء فوق الحليب المغشوش أصلاً، تكّسر الكعكات طولانياً لتصير الكعكة كعكتين، تقلي البطاطا بزيت منتهي الصلاحية، صارت تشرب القهوة وحيدة دون علم الجارات، وهي تعتقد جازمة أنها قد مررت علينا بنجاح خدعة الكباب الصيامي، إذ شرحت بمكالمة مطولة للخالة البعيدة طريقة إعداد هذه المعجزة الطعامية، وكيف وقعنا جميعنا في الفخ الشهي وبلعنا الطعم، كذلك أبي، فحين تتفقد أمي الأغراض التي يحملها من السوق وتمسك كيساً بيد مشككة، يتنحنح ويكمل التعرق، ثم يؤكد لها أن هذا الكيس يحوي كيلو كاملاً من البندورة، يقول لها لنسمع نحن أنه لم يشترِ الكرز لأن لونه ليس قانياً كفاية، وفي كل مرة نتخيل أن التفاح مجرد خلية دود، يتفنن في شرح علاقته بالموز في مرحلة الثمانينيات حتى نظن أن الموز كان الإمام الغائب، ثم يسرد مطولة صحية مفادها أن الشاي مضر، والمتة مضرة، والقهوة تؤذي الأعصاب، وليس الطقس مناسباً لأكل المثلجات، فتغمز أمي وتبتسم له ثم يقهقهان كتجار يعرفون من أين تؤكل الكتف، يقهقهان حتى تدمع عيونهما، وعيوننا. 

السوري مهندس اجترح البدائل لكل شيء...

يمر في شارع وكالات الألبسة يطيل الوقوف أمام الواجهات يمسحها مثل سكانر، يكره لسبب ما أحد المنكانات، ثم يدفع الباب الزجاجي، يشم رائحة البنبون التي ينشرها بسخاء ملطف الجو، يقع في غرام الكثير من القمصان والبلوز والسراويل المطوية بعناية بالغة، يقول في سرّه: "هذه هي ثيابي التي أحبّ بالضبط"، يبتسم شاكراً لطف الصبية التي ساعدته في بعثرة المكان، ويخرج مثل زبون حقيقي من بين حقوقه ألا يعجبه شيء هنا، يشتم المكان الذي كرهه منذ قليل، ثم يكمل إلى الشارع القريب حيث العتمة ورائحة المواد الحافظة للألبسة والباعة المتعرقون أصحاب البسطات وأصحاب أغرب النغمات والأصوات، يمضي باحثاً بين الأكوام عن قمصان وبلوز تشبه تلك التي ترك الصبية تطويها بدقة وتعيدها إلى الرفوف العابقة برائحة البنبون .

في صورة انتشرت على مواقع التواصل تظهر فيها وجوه وأيدٍ في قمة النشوة والسعادة والفرح، صورة لأطفال حلبيين يسبحون في بركة من الطين صنعها انفجار أحد أنابيب الماء في حيهم المهدم، أجساد يمحو لونها الوحل ومع ذلك تتعامل كأنها في مسبح فخم أو على أحد شواطئ المدن البحرية.

السوري يشرب قهوة مقززة يسميها نسكافيه، يطحن أوراق شجر البلوط وأحياناً الهندباء ويسميها متة، يوزعون عليه ضمن المعونات الإنسانية مسحوقاً ليضيفه إلى إبريق يغلي فيعطي لوناً متسخاً وطعماً بشعاً ورائحة غريبة، ومع ذلك يسميه شاياً، السوري يدّخن ماركات حتى الملأ الأعلى لم يسمع بها ومع ذلك يسميها تبغاً

السوري يشرب قهوة مقززة يسميها نسكافيه، يطحن أوراق شجر البلوط وأحياناً الهندباء ويسميها متة، يوزعون عليه ضمن المعونات الإنسانية مسحوقاً ليضيفه إلى إبريق يغلي فيعطي لوناً متسخاً وطعماً بشعاً ورائحة غريبة، ومع ذلك يسميه شاياً، السوري يدّخن ماركات حتى الملأ الأعلى لم يسمع بها ومع ذلك يسميها تبغاً.

السوري نسي طعم الكرز وطعم الموز والإجاص والدراق والتفاح، الفواكه لا تغادر بسهولة محل البقالة، تتكوم هناك كأنها لوحة بعنوان شهير "طبيعة صامتة"، قد يعوّل الأب المشتري على ألوان الفواكه بألا تسرق عينا صغيرته لكن من يضمن لون الكرز في الكومة اللامعة ببريق حاد.

ليس بطعم ورائحة الخبز وحده يحيا الإنسان، ماذا عن طعم الحياة؟ اذا عن الترف؟ تلك المفردة التي لطالما شعر السوري تجاهها بالذنب، تلك المفردة التي فارقته إلى أجل غير مسمى، أشكل عليه الأمر حتى صار يتوهم أن تأمين الأساسيات ضرب من الترف الرفيع، بل صار يحيا بالخبز وحده وهذا ليس مجازاً أو مبالغة. 

صارت عيون السوريين معلقة إلى السماء وكأنهم في حفل صراخ جماعي علّه يسمعهم "الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف".

ما يزيد الطعم مرارة أن يسوّق الأمر على أنه بطولة وطنية ترفع منسوب الصمود والتصدي.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image