من أيام الإنسان القديم وحتى القرن التاسع عشر تقريباً، كانت الهجرة والترحال نشاطاً طبيعياً يقوم به الإنسان إما بحثاً عن الغذاء والمياه، أو هرباً من خطر ما، وحتى بحثاً عن الدفء، مثله مثل الطيور المهاجرة وكائنات حيّة كثيرة.
لكن كل شيء تغيّر مع أفول عصر الإمبراطوريات الواسعة وظهور الحدود والدول بشكلها الحديث المحمّل بشعارات قومية. وبعد الحرب العالمية الثانية، ظهر مفهوم الهجرة المعاصر مدفوعاً بعوامل كثيرة على رأسها النظام الاقتصادي العالمي الجديد وما ولّده من تفاوت كبير في ثروات الأمم لم يعرف التاريخ مثله.
كل الإحصاءات التي تستطلع رغبة الشباب العرب في الهجرة تخرج بأرقام عالية. ويمثّل البحث عن فرص عمل وحياة أفضل الدافع الأبرز للمهاجرين بصفة عامة.
هجرات أواخر القرن التاسع عشر، كهجرة أبناء بلاد الشام إلى دول أمريكا الجنوبية أنتجت تلاقحاً حضارياً يمكن أن نعثر على ملامحه في روايات كبار أدباء القارة اللاتينية كغابريال غارسيا ماركيز وآخرين ممن يحتفون بأثر الهوية العربية في بلادهم.
ولكن اليوم، صارت الأمور أعقد. تخلق الهجرة وما ينتج عنها من تحديات ذات صلة بدمج المهاجرين في المجتمعات الجديدة معضلة للدول المضيفة، خاصة الدول ذات النزعة القومية الشديدة كفرنسا وإيطاليا.
في حملات المرشحين للانتخابات المرتقبة في مطلع 2022، يتنافس على لقب "زعيم اليمين" حاملة اللقب لسنوات مضت مارين لوبان، والقادم من بعيد بخطاب شعبوي صاعد إريك زمور، وكل منهما يزايد على الآخر في الإجراءات التي يعد بها ضد المهاجرين.
فوائد للهجرة
قضية الهجرة كانت إحدى القضايا التي ناقشها "منتدى الابتكار في السياسة – 2021" الذي نظّمته مؤسسة "فريدريش ناومان من أجل الحرية" الألمانية بالشراكة مع المركز الليبرالي الدولي السويدي، في العاصمة التونسية، يومي 11 و12 كانون الثاني/ ديسمبر 2021.
في جلسة بعنوان "تأثير الهجرة على الابتكار والثقافة وتأثرها بهما"، أشارت مديرة مبادرة Womenpreneur المغربيّة الأصل والمقيمة في بروكسل سناء أفويز إلى أن "مفهوم الهجرة مرتبط أساساً بدول الجنوب. فالمهاجرون من بدان ذات دخل مرتفع يسمّون أنفسهم أو يسمّون بصفة عامة مغتربين Expats".
وقدّم الناطق الرسمي للاتحاد الأوروبي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لويس ميغيل بوينو أرقاماً أعدّتها المفوضية الأوروبية تُظهر أن المهاجرين من خارج الاتحاد الأوروبي يشكّلون نحو 11% من الناشطين في مجال الفندقة وخدمات المطاعم، من جملة 25% من العاملين في أنشطة ذات قيمة مضافة منخفضة، بينما لا تتجاوز نسبة مَن يعملون في قطاع الهندسة والتقنيات العالية الـ1%.
في مداخلتها، تحدثت أفويز عن صعوبات اندماج المهاجرين في المجتمعات المضيفة، والتي تشكل تحدّياً للأحزاب اليسارية، فيما تستغلّ الأحزاب اليمينية هذه الصعوبات لترويج خطاب قومي يميني معادٍ للهجرة والمهاجرين، وتحمّلهم أسباب كل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية.
تترك النظرة السلبية تجاه المهاجرين أثراً كبيراً على حياتهم وتصعّب عليهم تحقيق نجاحات. تشير أفويز إلى أن "كلّ ما يأتي من الجنوب مثير للريبة بالنسبة للأوروبيين، ولا يتعاملون معه كما يتعاملون مع ابتكارات ومنتجات الآسيويين أو الأمريكيين. وهذا يؤثّر سلباً على أعمالنا".
يتحدث وزير الدولة الأردني السابق للشؤون الاقتصادية الدكتور يوسف منصور عن الأثر الإيجابي للهجرة، مشيراً إلى أن إنشاء الطرقات في الأردن كان نتيجة هجرة القوقازيين سنة 1870 و1880: "كانوا فلاحين يستعملون العربات وكنّا بدواً رحّلاً"
كثيرون يحاولون إخفاء الأثر الإيجابي للهجرة، خاصة عندما تتنامى الميول المعادية لها أثناء الأزمات الاقتصادية. على سبيل المثال، ربع شركات الهندسة والتكنولوجيا التي تأسست بين عامي 2006 و2012 في الولايات المتحدة كانت تضم مهاجراً على الأقل بين مؤسسيها، بحسب مؤسسة إيوينغ ماريان كاوفمان، كما أن كثيراً من الأمريكيين الحائزين على جوائز نوبل لم يولدوا في الولايات المتحدة، ما يشكّل دليلاً على الأثر الإيجابي للهجرة على الابتكار والاقتصاد.
في تجربة عربية عن الأثر الإيجابي للهجرة، تحدث وزير الدولة الأردني السابق للشؤون الاقتصادية الدكتور يوسف منصور عن فوائد عظيمة للهجرة على الاقتصاد، مشيراً إلى مساهمة الهجرة على مدى قرنين في التنمية الاقتصادية في بلاده بقوله: "يحمل المهاجرون معهم طرقاً جديدة في الصناعة والفلاحة، وثقافاتهم وعاداتهم".
وذكر منصور أن إنشاء الطرقات في الأردن كان نتيجة هجرة القوقازيين سنة 1870 و1880: "كانوا فلاحين يستعملون العربات وكنّا بدواً رحّلاً".
الابتكار والحركات الاجتماعية العابرة للحدود
في 15 تشرين الثاني/ أكتوبر 2017، أطلقت الممثلة الأميركية أليسا ميلانو هاشتاغ #MeToo على تويتر، كعنوان لحملة احتجاجية ضد المخرج هارفي واينشتاين روت خلالها كثيرات ممّن عملن أنه اعتدي عليهنّ جنسياً.
في غضون 24 ساعة، تحوّل الهاشتاغ إلى حملة احتجاجية إلكترونية عالمية شارك فيها 4.7 مليون شخص كتبوا 12 مليون منشور. ولا يزال أثر هذه الحملة قائماً حتى الآن في شتّى أنحاء العالم.
حركات احتجاجية أخرى كثيرة استفادت من أدوات التحشيد الإلكتروني ومنصات التواصل الاجتماعي لتوصل صوتها ولتقليص المسافات وخلق مساحات أوسع للتعبير والاحتجاج.
"مفهوم الهجرة مرتبط أساساً بدول الجنوب. فالمهاجرون من بدان ذات دخل مرتفع يسمّون أنفسهم أو يسمّون بصفة عامة مغتربين Expats"
هذا كان موضوع جلسة نقاش أخرى من جلسات "منتدى الابتكار في السياسية - 2021"، تحت عنوان "الابتكار والحركات العابرة للحدود". ناقش المشاركون دور وسائل التواصل الاجتماعي في فك العزلة التي تفرضها الأنظمة الاستبدادية على الحركات الاحتجاجية.
"ساهم تيليغرام في التحشيد وتنشيط الاحتجاجات وتجاوز الحواجز وعمليات التنصت التي تفرضها الحكومة"، في بيلاروسيا، قالت الصحافية والزميلة غير المقيمة في "أتلانتيك كاونسيل" هانا ليوباكوفا.
إلى حدود سنوات قليلة مضت، لم تظهر على الخارطة الإعلامية في العالم بيلاروسيا، آخر القلاع الستالينية التي يحكمها ألكسندر لوكاشينكو بقبضة حديدية، تحت المظلّة الروسية، منذ "انتخابه" سنة 1994.
في سابقة تاريخية، احتلت أخبار بيلاروسيا الصحف العالمية أثناء الاحتجاجات التي جرت بين أيار/ مايو 2020 وآذار/ مارس 2021، بعد أن كانت السلطة قد نجحت في خنق عدة محاولات احتجاجية طوال سنوات، كما أشارت ليوباكوفا.
بعض الحملات الإلكترونية حققت إنجازات ولكن غالبيتها لا تصل إلى نتائج. "لا يمكن لحركات احتجاجية فوضوية، ولو كانت تحظى بدعم عابر للحدود عبر وسائل التواصل، أن تحدث تغييراً سياسياً، أو اجتماعياً على الأقل، فهذا يتطلب أن تكون ممركزة ومنظمة بشكل متين"، يقول الباحث الإيراني أراش عزيزي.
"الناس لا يمكن أن ينخرطوا في التغيير ما لم يروا بديلاً جدياً ومقنعاً للنظام الحالي"، يضيف عزيزي، داعياً إلى التفكير في الانتظام قبل المضي في حملات المناصرة والاحتجاج.
في مواجهة الحركات الداعية إلى التغيير، تستغلّ حكومات دول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، كغيرها من السلطات المستبدة في العالم، خطاب التخوين والعمالة لضرب مصداقية المحتجيّن، وعلى رأس قائمة الذرائع التخوينية يأتي الدعم الدولي الذي ربما قد تحظى به هذه الحركات.
"لا مفرّ من استخدام الحكام في المنطقة نظرية المؤامرة"، تقول المديرة الإستراتيجية الإقليمية في مؤسسة فريدريش ناومان لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يارا الأسمر، مضيفة: "لا يمكن لهذه الحركات أن تنجح دون ضمان الحد الأدنى من التشبيك: داخلياً وخارجياً".
وتشير الأسمر إلى أن "الأنظمة تستغل التكنولوجيا لضرب الحركات الاجتماعية، إلى جانب التنسيق كذلك مع حكومات أخرى للتضييق عليها"، ما يعني أنه لا يمكن لوم المحتجين على استخدام أساليب تستخدمها الحكومات ضدهم. وبرأيها "هذا الإشكال سيبقى مطروحاً في ظلّ بقاء حكومات مستبدة في المنطقة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون